على بعد أمتار من الطريق السياحي، قبيل قرية المندرة بمحافظة الفيوم، يجلس “الخال علي” كما يُطلِق عليه أبناء أخته الكبرى، مستظلًا ببضعة أعواد من “الجريد” ربط أطرافها بعضها ببعض، ملقيًا فوقها ثلاث حُزْمات من نبات “الحبق” الجاف، لا تزال رائحته تفوح في المكان. محاولة لم تكتمل لبناء كوخ على أطراف حقله الصغير.
رحب بنا الرجل بشدة. لم يكن “الخال علي” سوى شاب لم يتخط الأربعين من عمره، وهو لا يكبر أبناء أخته، الذي اصطحبنا أحدهم إلى حقل خاله، سوى ببضعة سنوات.
ارتفاع درجات الحرارة وزراعات الذرة
كنت قد حادثت الرجل هاتفيًا قبل أن أزوره في “حقله”، فلم أكن بحاجة لطرح أسئلتي من جديد، انطلق متحدثًا وهو يشير إلى أرضه: “نعم، تأثرت محاصيلنا بشدة من تقلبات المناخ، أضرت الموجة الحارة بمحصول الذرة الشامية بشكل كبير، الطبيعي أن يحمل عود الذرة الواحد كوزين ونادرًا ما تجد عودًا يحمل كوزا واحدا، هذا الموسم كانت غالبية أعواد الذرة حاملة لكوز واحد فقط. كما أن أكواز الذرة لم تكن كاملة الارتصاص، وحباتها رفيعة جدًا، وبعضها فارغ”.
وضع حقل الذرة افقد المحصول نصف انتاجه المعتاد، هذا أيضًا ما يقدره ثلاثة من الفلاحين أرضهم متاخمة لأرض علي، تجمعوا حولنا أثناء الحديث.
يشرح أحد الفلاحين الثلاثة، ويدعى الحاج سعيد، ما لحق بمحصولهم فيقول: “بدأنا زراعة الأرض بالذرة الشامية خلال الأسبوع الأول من شهر مايو، لكن في بداية شهر يونيو جاءت موجة شديدة الحرارة، كان عُمر نباتات الذرة لم يتعد حينها أربعة أسابيع. تسببت شدة الحرارة في اصفرار النباتات وضعفها، مات بعضها، وما تبقى طرح كوزاً واحد على كل عود. ورغم أن النبات استعاد خضرته وعافيته بعد ذلك فقد كانت فترة الخلع [طرح الكيزان] قد حدثت أثناء ضعف النبات، ما أثر بعد ذلك على حجم الكيزان وحجم حبات الذرة فيها”.
“في النهاية فقدنا ما يقرب من نصف المحصول، وفقدنا الأمل في أية أرباح، بعدما تراكمت علينا ديون لجأنا إليها لسد نفقات أسرنا، وشراء الأسمدة التي تضاعفت أسعارها”. يختتم الحاج سعيد كلامه.
تَذكُر تقارير مركز البحوث الزراعية، التابع لوزارة الزراعة المصرية، أن تأثير ارتفاع درجات الحرارة على زراعات الذرة الشامية يتباين بحسب اختلاف أعمار النبات. ويبلغ التأثير حدته عندما تكون أعمار الزراعات صغيرة، قبل مرحلة الازهرار، فيلحق ضررًا مباشرًا بـ “بروتوبلازم الخلايا”، فتذبل النباتات مع ارتفاع الحرارة ذبولًا مؤقتًا يتحول إلى ذبول دائم مع استمرار ارتفاع الحرارة لأيام متتالية، فيقل معدل التمثيل الضوئي مع زيادة التنفس، فيزداد الهدم مقابل البناء. ما يتسبب في تدهور معدل النمو الخضري، وتحترق النوارة المذكرة فتتلف حبوب اللقاح، وينخفض التلقيح والإخصاب 1.
لا يختلف ما ورد في تقرير مركز البحوث الزراعية عما قاله الفلاحون ولاحظوه من تأثير ارتفاع درجات الحرارة على زراعاتهم من الذرة الشامية. كما لم يقدم التقرير إرشادات للتكيف مع ارتفاع درجات الحرارة والحد من تأثيرها على زراعتهم سوى النصح بتقصير فترة الري.
وحتى لو حملت تقارير المراكز البحثية إرشادات للتكيف، فلا يمكن أن تنتقل إلى الفلاحين بفعل قوى خفية، فغياب همزة الوصل والتي كانت تتمثل في الإرشاد الزراعي، ودوره في ربط المزارعين بتوجيهات المؤسسات الزراعية والبحثية، ترك الفلاح وحيدًا في مواجهة الأزمات، دون دعم أو توجيه.
بحسب أحد مديري الجمعيات الزراعية الذي تحدث إلينا مفضلا عدم ذكر اسمه، فإن سياسة وزارة الزراعة تتجه منذ سنوات إلى إلغاء دور الإرشاد. فلا تعينات جديدة بديلًا لمن تجاوزوا سن المعاش أو تمت ترقيتهم، بل أن الكثير من موظفي إدارات الإرشاد يتم نقلهم إلى إدارات أخرى، ولا اطلاع أو تدريبات لمن تبقوا في الإرشاد على آخر البحوث الزراعية، وتأثير التغيرات المناخية على الزراعات المختلفة وطرق التكيف ووسائله.
تمثل الذرة الشامية أهمية غذائية كبيرة بالنسبة لمصر، حيث أنها المكون الرئيسي في صناعة أعلاف الثروة الحيوانية والداجنة والسمكية، فتدخل في صناعتها بنسبة 60%، وتدخل في صناعة النشا واستخراج زيت الطعام، وبنسبة تترواح من 10 إلى 20% في صناعة رغيف الخبز المدعم.
وبحسب وزارة الزراعة، تبلغ المساحة المنزرعة بالذرة الشامية 2.7 مليون فدان سنويًا في جميع العروات، تُنتج نحو 2 مليون طن، تمثل 10% من الاكتفاء الذاتي. هذا بينما تستورد البلاد الـ80% الباقية (10 ملايين طن) من الأرجنتين وأوكرانيا والبرازيل وبنسبة أقل من الولايات المتحدة بما قيمته 2 مليار دولار 2.
وتأثرت الواردات المصرية من الذرة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية، كما ارتفعت أسعارها بنسبة تصل إلى 50% عما كانت عليه الأسعار قبل الحرب، ولعب محتكرو استيراد الذرة المصريين دورًا كبيرًا في زيادة الأسعار.
بين ارتفاع الحرارة وانخفاضها.. خسائر الفلاحين تتضاعف
لا تكمن حدة التغيرات المناخية في ارتفاع درجات الحرارة الشديد وحسب، بل أيضًا في الاضطراب المناخي الشديد، وتداخل الفصول وانزياحها.
شهدت مصر اضطرابات مناخية كبيرة خلال الأعوام الأخيرة، ما بين تتابع الموجات الحارة في فصلي الربيع والصيف، وبين شتاءات جاءت دافئة فتلفت بعض المحاصيل (المانجو والزيتون في العام الماضي 2021) وشتاءات وصل الصقيع فيها درجات غير مسبوقة فتلفت محاصيل أخرى.
فيما شهد فصل الربيع هذا العام 2022 اضطرابًا مناخيًا كبيرًا تمثل في الفارق الشاسع بين درجات الحرارة ليلًا ونهارًا خلال اليوم الواحد حيث سجلت درجات الحرارة في بعض أيام شهر يونيو 13°م ليلًا و37°م نهارًا 3.
ورغم ارتفاع درجات الحرارة الشديد منذ منتصف مايو وحتى كتابة هذه السطور (الأيام الأولى من سبتمبر)، كان شتاء هذا العام أطول وأكثر برودة حيث امتد الصقيع لشهري مارس وأبريل وهو ما كان له أثره الضار على العديد من الزراعات خاصة الخضروات. إضافة لمحاصيل هامة مثل البطاطس.
انخفاض إنتاجية زراعة البطاطس
يروي لنا خالد شلش، مالك مزرعة خضراوات صغيرة بمحافظة المنيا، ما تسبب فيه شدة الصقيع، وطول فصل الشتاء هذا العام. فيقول: “أضر الصقيع خلال شهري يناير وفبراير بزراعات البطاطس، فأدى إلى حرق أوراق النبات وجذوعه. فلم تجد ثمرة البطاطس داخل الأرض ما يمدها بالغذاء، ما خفض بشكل كبير الإنتاجية”. يلفت شلش إلى أن ارتفاع درجات الحرارة البالغ له نفس التأثير الضار على نبات البطاطس.
يستكمل شلش: «انخفض متوسط إنتاجية الفدان من 13 طنًا إلى 8 أطنان، ومع انخفاض الأسعار لتتراوح من 2 إلى 3 آلاف جنيه للطن، لم يغط حاصل البيع تكاليف الزراعة من تقاوي وأسمدة ومبيدات”.
وبحسب تصريحات سابقة لنقيب الفلاحين حسين أبو صدام، تفوق تكلفة الفدان الواحد من البطاطس الـ25 ألف جنيه موزعة بين التقاوي والمبيدات والأسمدة. ما يعني أن انخفاض الإنتاج بهذه الصورة يؤدي إلى خسائر كبيرة للفلاحين.
التغيرات المناخية وتداخل “العروات”
الخيار من الزراعات التي تأثرت بشدة من طول فصل الشتاء هذا العام. يصف شلش ما حدث لمحصوله: “بدأت زراعة الخيار في 10 مارس، كما أفعل كل عام وهو ما نُطلق عليه “العروة” الصيفية. من الطبيعي أن يُنتج الخيار بعد 45 يومًا من زراعته، لكن شدة الصقيع في شهر مارس حتى منتصف أبريل، وهي فترة التي من المعتاد أن يبدأ فيها دفء الطقس، أدت إلى تأخر الإزهار، وبالتالي تأخر أول جني للمحصول حتى 15 مايو وكان مفترضا أن يتم الجني في 20 أبريل”.
يواصل شلش: “هذا التأخير أدى إلى تداخل “العروات”، فظهر محصول الأراضي التي زُرعت بعدنا بشهر، في نفس موعدنا، ما تسبب من ناحية في زيادة المعروض بالأسواق، وبالتالي انهيار الأسعار، ومن ناحية أخرى قصر عمر إنتاج النبات، ما كبدنا خسائر كبيرة، في ظل الارتفاع الجنوني في أسعار الأسمدة والمبيدات.
يشرح المهندس الزراعي علاء أبو جليل ما يمكن أن يفعله تداخل “العروات” الناتج عن التغيرات المناخية فيقول: ” أدى انخفاض درجات الحرارة حتى منتصف أبريل هذا العام إلى تأخر إنتاج الكثير من الزراعات، خاصة القرعيات [الخيار والكوسة والشمام والبطيخ]، والتي تزامن وقت الإزهار والعقد لنباتها مع موجات الصقيع. فسقطت الأزهار، وتأخر إنتاجها لأكثر من شهر، ومع دفء الجو في مايو ظهر إنتاج “العروات” التي زرعت لاحقًا. لقد صنع هذا خللًا كبيرًا في الأسواق، فرأينا ارتفاعات كبيرة في أسعار الخضروات، كمثال وصل سعر كيلو الفلفل إلى 25 جنيهًا ثم بعدها بنحو شهر انخفض إلى 4 جنيهات، وهكذا حدث للخيار والكوسة والطماطم”.
التغيرات المناخية وزراعات الرمان
كان للاضطرابات المناخية أيضًا أثــرٌ بالغ السوء على أشجار الرمان، والتي تبدأ الإزهار منذ منتصف مارس وحتى منتصف مايو (آخر بطون الرمان) حيث تتم عملية عقد الثمار مع نهاية مايو وبداية يونيو.
يقول صلاح عبد الوارث والذي يمتلك حقل رمان بمركز البداري بمحافظة أسيوط: “أسقط الصقيع أزهار الرمان، ولم يبق سوى الأزهار التي تكونت بعد منتصف أبريل. أي أن الإزهار تأخر نحو شهر ونصف الشهر، بسبب امتداد موجات الصقيع، أدى ذلك إلى ضعف إنتاج أشجار الرمان”.
يؤكد عبد الوارث أن المحصول الذي تحمله الأشجار هذا العام قد لا يصل إلى نصف المحصول المعتاد، ما سوف يتسبب في خسائر ضخمة للفلاحين، نظرا للتكلفة الكبيرة، فبحسب عبد الوارث تتراوح احتياجات الفدان الواحد من المبيدات ما بين 10 إلى 12 ألف جنيه في الموسم الواحد، فضلًا عن الأسمدة.
يضيف عبد الوارث: “الرمان الحامض/الأسيوطي، والذي يتم تصديره للاستخدام في بعض الصناعات الدوائية، بدأ موسم جنيه منذ منتصف يوليو، وكان إنتاجه ضعيفًا جدًا نتيجة لتساقط الأزهار جراء الصقيع، لدرجة أن بعض الأشجار لم تنتج سوى بضعة كليوات.
غير ذلك، فإن الأسعار المعروضة من المصدرين المصريين، الذين يقومون بشراء المحصول وتصديره لحسابهم، منخفضة جدا، وهم يستغلون عدم قدرة الفلاحين على التصدير المباشر، ويخفضون السعر كما يشاءون. ففي 20 يوليو، كان سعر الطن 8 آلاف جنيه مصري، خفض المشترون بعدها بأسبوع السعر إلى 6 آلاف بدون أية أسباب، لكن الفلاحين مضطرون للبيع، وإلا تلف محصولهم. بحسب عبد الوارث.
ويشير عبد الوارث أن الرمان البلدي أيضًا، والذي يتم جنيه بداية من سبتمبر وحتى نوفمبر، ويغطي استهلاك السوق المحلي، ويصدر أيضًا نسبة كبيرة منه خاصة إلى العراق، ثماره قليلة جدًا، إذ لا تحمل الأشجار سوى نصف المحصول المعتاد لنفس الأسباب المتعلقة بطول فصل الشتاء وشدة الصقيع. ما يعني أن خسائر كبيرة ستطول الفلاحين، في محافظة أسيوط والتي تأتي في المركز الأول في زراعة الرمان بنسبة 15% من إجمالي المساحة المنزرعة بالرمان في مصر 4.
التغيرات المناخية والتحديات المائية لمصر
تؤكد دراسة أجرتها الدكتورة سامية المرصفاوي، بمعهد بحوث الأراضي والمياه والبيئة، عام 2016، أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد استهلاك الأراضي للمياه بنسب تصل إلى 16% 5، وهو ما يعد من الأزمات الصعبة التي ستواجه مزارعي مصر، في ظل التحديات المائية التي تشهدها البلاد سواء بسبب ندرة الأمطار، أو بسبب أزمة سد النهضة والتوقعات المتعلقة بتأثيره على مخصصات مصر من مياه نهر النيل خلال العقود المقبلة.
يشرح المهندس علاء أبوجليل كيف تحتاج الزراعات كميات مياه أكبر عند ارتفاع درجات الحرارة: “تزداد سرعة عمليات البخر، وتتخلص التربة بشكل أسرع من نسبة البلل حول جذر النبات واللازمة لامتصاص العناصر الغذائية من التربة، ما يجعل النبات في احتياج للري أكثر على فترات أقصر من المعتاد”.
أزمة “نهايات الترع”
ليس هناك أية تقارير حكومية عن تأثر مياه الري المخصصة للأراضي الزراعية بعمليات ملء سد النهضة الأثيوبي حتى الآن. لكن هناك مناطق كثيرة تعاني من ضعف مياه الري وعدم وصولها لأراضيها منذ سنوات طويلة، من أبرزها أراضي “نهايات الأبحر” بمحافظة الفيوم (يُطلق على الترع التي تروي الأراضي الزراعية بالفيوم اسم أبحر، كما يُطلق على الترعة الرئيسية التي تصل محافظة الفيوم بمياه نهر النيل عن طريق ترعة الإبراهمية، اسم بحر يوسف).
يقول شعبان سيد، الذي تقع أرضه عند نهايات “بحر الجرجبة” في زمام قرية المحمودية بمركز إطسا، إنهم تمكنوا من زراعة 30% من أراضيهم بعد مشروع “تبطين الترع” ومنع سرقة المياه من قبل أصحاب المزارع (رجال أعمال وشركات زراعية)، لكن 70% من الأراضي تظل بورًا بسبب عدم وصول المياه إليها في فصل الصيف وتزداد أزمة نقص المياه مع ارتفاع درجات الحرارة.
ويؤكد أن هناك أراضٍ في عزبة زكي والحجر بمركز إطسا لا تزرع مطلقًا لا صيفًا ولا شتاء، بسبب عدم وصول مياه الري إليها وأن أصحابها هجروها ولجأوا للعمل بـ”اليومية”.
التحول إلى طرق الري الحديث
تتمثل إحدى طرق مواجهة التحديات المائية، سواء ارتفاع درجات الحرارة واحتياج الأراضي لنسب مياه أكبر، أو خطر تأثير سد النهضة على تلبية احتياجات مصر المائية، في تغيير نمط الري والتحول لطرق ري حديثة.
بحسب معهد بحوث الأراضي والمياه، التابع لمركز البحوث الزراعية المصري، يمكن أن توفر نظم الري الحديثة، خاصة الري بالتنقيط، أكثر من 60% من استهلاك الأراضي الزراعية للمياه. فالأراضي المروية بطريقة الغمر لا تستفيد سوى بنسبة تتراوح بين 10 إلى 20% من كمية المياه المستهلكة في الري، بينما تهدر النسبة الأعظم في عمليات التبخر، والتسرب إلى طبقات التربة ما يضر بجودتها ويجعلها أكثر هشاشة وتأثرًا بالتغيرات المناخية، وبالتالي عرضة للتصحر.
وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية في مصر وفقًا لبيانات حكومية، نحو 9.7 مليون فدان 6، منها 6.1 مليون فدان ضمن ما يعرف بالأراضي الزراعية القديمة (أراضي الدلتا والوادي) و3.6 مليون فدان أراضي جديدة مستصلحة تتوزع ملكيتها ما بين شركات زراعية ومستثمرين مصريين وأجانب، ومساحات صغيرة تابعة لمشروعات تمليك شباب الخريجين وصغار الفلاحين. والباقي مملوكٌ للدولة ضمن مشروعات الحكومة لاستصلاح الأراضي. لا تزيد المساحات المسقية بطرق الري الحديث عن 30% من الأراضي الجديدة، بينما مساحة الأراضي القديمة تروى كلها بطريقة الغمر.
تحتاج 6 ملايين فدان من الأراضي الزراعية القديمة في الوادي والدلتا، وهي عبارة عن مساحات صغيرة مملوكة لملايين الفلاحين، إلى موازنة ضخمة لتحولها للري بالنظم الحديثة.
لكن هل تتجه دولة تخلت عن الفلاحين منذ عقود، وأهملت الزراعات الاستراتيجية، طالما يمكنها استيراد محاصيلها بأي ثمن، لتبني مثل هذا المشروع؟ وهل يمكن لنظام لم ينظر قط في مسألة الغذاء لأبعد من قدميه، أن يدرك أن بلاد يبلغ سكانها نحو 110 ملايين، في طريقها لفقد قدرتها على إنتاج غذائها، وأن ملايين الفلاحين ومنتجي الغذاء في مصر في طريقهم لفقد سبل عيشهم!.
التكيف مع تأثير التغيرات المناخية على الزراعة ونقص الغذاء
لم يعد بالإمكان وقف حدة التغيرات المناخية، ولا بالطبع آثارها، خاصة فيما يتعلق بقضية نقص الغذاء. فدرجات حرارة الأرض تتجه لا محالة لما يزيد عن 3 درجات مئوية بحلول نهاية القرن الحالي، بينما أصبحت الأرض الآن أدفء بنسبة 1.1 درجة مئوية مما كانت عليه منذ 150 سنة 7.
الكلام عن آثار التغيرات المناخية وفقًا لهذه الأرقام لم يعد حديثًا عن المستقبل، إنه واقع يعيشه العالم بشدة اليوم، وهو مؤهل للتأزم بسرعة تفوق توقعات تقارير المنظمات الدولية. تقول الأمم المتحدة إن نحو 821 مليون شخص يعانون نقص الغذاء، إضافة إلى 183 مليون شخص معرضون لخطر الجوع مستقبلًا نتيجة لنقص المحاصيل الزراعية بسبب التغيرات المناخية.
إن النقطة الجوهرية في قضية التغيرات المناخية، بالنسبة للمنظمات الدولية والحكومات الوطنية اليوم، باتت تتمركز حول طرق التكيف مع آثار التغيرات المناخية.
لكن مفهوم التكيف وطبيعته، ووسائله، بل وأهدافه أيضًا، سوف تختلف من منطقة إلى غيرها ومن دولة إلى أخرى.
فبينما يتعين على الدول الفقيرة تنمية مواردها الغذائية، خاصة في القطاع الزراعي، لمواجهة مشكلات تصحر الأراضي، واحتمالات غرق المناطق الساحلية، تحاول الدول الغنية والتي تسببت سياساتها الاقتصادية في القطاعات الصناعية والزراعية في كل هذا الدمار المناخي، “التكيف” مع آثار التغيرات المناخية، بالعمل على تأمين نفسها من خطر هجرة الملايين إلى أراضيها وغلق حدودها في وجه ضحايا “اللجوء المناخي”.
يشير الصحفي الاستقصائي (كريستيان بارينتي) في كتابه الهام “مدار الفوضى.. تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف” إلى تقارير المؤسسات العسكرية في أمريكا وأوروبا والباحثين التابعين لها والمتعاونين معها، حول آثار التغيرات المناخية، وخطط مواجهة تلك الآثار عبر زيادة التسليح والتوسع في إنشاء شركات الأمن الخاصة للتعامل مع المهاجرين المحتملين جراء التغيرات المناخية.
لا نعلم مدى نجاعة حلول الدول الغنية في مواجهة تحديات آثار التغيرات المناخية عبر حماية حدودها. لكن، ما يبدو واضحًا هو عجز الحكومات الوطنية في دول حوض البحر المتوسط، وشمال إفريقيا، ودول “مدار الفوضى” ، بحسب توصيف كريستيان بارينتي، والواقعة على طرفي خط الاستواء بين مداري السرطان والجدي، عن التكيف مع آثار التغيرات المناخية 8.
ذلك لأن تلك الدول اجتمعت فيها ظروف هشاشة مناخها، مع ضعف قدراتها المؤسسية، نتيجة لأسباب كثيرة تتعلق بسياساتها الاقتصادية وغياب نظم الإدارة الديمقراطية، وعزل القوى الاجتماعية والسياسية فيها عن أي دور في التنمية. وهو ما كان فيه للغرب دورٌ هام، سواء خلال فترات الاستعمار المديدة لتلك البلدان، أو بعد ذلك في دعم الديكتاتوريات الحاكمة، وسياسة حروب الوكالة، والقضاء على القوى الاجتماعية والحكومات الرافضة لسياسات التبعية.
مستقبل أشد قسوة
ما يرصده تقريرنا من ضعف قدرة صغار الفلاحين المصريين على إنتاج الغذاء، والذي يزداد يومًا بعد آخر مع حدة الاضطرابات المناخية، وتراكم مديوناتهم للبنك الزراعي، وللغير، في ظل رفع الدولة المصرية يدها عن دعم الفلاحين ومنتجي الغذاء في مصر، وغياب مؤسسات اجتماعية تمثلهم، ما هو إلا بداية لمستقبل أشد قسوة يبدو أنهم سائرون نحوه.
ويتوقع تقرير التنمية البشرية لعام 2021، والصادر عن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية المصرية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فقد البلاد لمساحات كبيرة من الأراضي الزراعية بالدلتا المصرية، معرضة للغرق نتيجة لارتفاع مستوى سطح البحر، بينما ستتوغل المياه شديدة الملوحة إلى داخل مساحات أخرى.
كما توقع التقرير تأثير ارتفاع درجات الحرارة وتدني معدلات هطول الأمطار، على إنتاجية غالبية المحاصيل الزراعية، حيث ستنخفض إنتاجية القمح بنسبة 15% عام 2050 لتصل إلى 36% بنهاية القرن الحالي، وانخفاض إنتاج الأرز بنسبة 11% بحلول 2050. وانخفاض إنتاج الذرة بنسبة تتراوح بين 14% و19% في 2050. إضافة لانخفاض إنتاجية فول الصويا والشعير بنسب تتراوح بين 20 و28% بحلول منتصف القرن 9.
واقع مشترك وطريق واحد
الظروف التي يمر بها الفلاحون ومنتجو الغذاء في مصر، يتقاسمها معهم فلاحو دول شمال أفريقيا. إذ تنذر معدلات ارتفاع الحرارة وانخفاض هطول الأمطار بتقليص مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، ونقص إنتاج المحاصيل، وتهدد الفيضانات النشاطات الاقتصادية والاجتماعية على سواحل تونس والمغرب والجزائر.
تقول منظمة الفاو إن غلات المحاصيل في إقليم الشرق الأدنى وشمال إفريقيا معرضة للانخفاض بنسبة 20% بحلول 2050. كما ستتعرض الزراعة البعلية لآثار بالغة الضرر، وسوف يؤدي تراجع الموارد المائية وتدهور الأراضي وانخفاض توافر الأعلاف إلى تهديد ثروات تلك البلدان من الماشية 10.
وفي المغرب، الذي يمر بأكثر مواسم ندرة الأمطار قسوة، بينما تتوجه خطة الحكومة للتقشف المائي نحو تخفيض مخصصات الأسر من المياه، تهدر المياه في أنماط زراعية تخدم الرأسمال الزراعي وخططه التصديرية، وتستنزف الثروات المائية في عمليات استخراج المعادن كما يحدث في واحة “إفران الأطلس الصغير” التي يعيش أهلها على الزراعة وتربية الماشية. كما تهدد التغيرات المناخية وخطر الجفاف وتصحر الأراضي ملايين الفلاحين بالمغرب. فضلًا عن استيلاء الشركات الزراعية على الأراضي في دول شمال إفريقيا عامة.
سيادة الشعوب في بلدان مصر وشمال إفريقيا على الغذاء، وامتلاكها لآليات ونظم إنتاج غذائها بما يتوافق مع طبيعتها البيئية، وتحديد النظم الزراعية التي تلبي احتياجات الشعوب من الغذاء الصحي، وليست تلك التي تتوجه لخدمة الاستثمارات الزراعية لرؤوس الأموال المحلية والأجنبية، والأهداف التصديرية للشركات الزراعية، وحفاظ صغار الفلاحين على وسائل إنتاجهم من الأراضي وجودة تربتها، وسيطرتهم على ثرواتهم المائية ومنع استنزافها، وتمكينهم من إنتاج البذور التي تناسب أراضيهم، وتنمية ثرواتهم الحيوانية، كل ذلك يستوجب نشاطًا من المنظمات الكفاحية في تلك البلدان وتقوية الروابط الفلاحية واتصالها المباشر مع القوى السياسية النضالية وبلورة مشروع اجتماعي، اقتصادي، سياسي، يأخذ بها نحو التحرر الكامل.
أحمد خليفة – مصر
- المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثالث لمجلة “سيادة” الكفاح من أجل العدالة المناخية والسيادة الغذائية
- الاطلاع على العدد كاملا وتحميله من الرابط
هوامش
- تقرير مركز البحوث الزراعية عن تأثير ارتفاع درجات الحرارارة على زراعات الذرة الشامية (يوليو 2019- الموقع الرسمي للمركز)
- تصريحات لوزير الزراعة المصري السيد القصير لجريدة الأهرام بتاريخ 29 مايو 2022
- تقرير مركز معلومات تغير المناخ التابع لوزارة الزراعة المصرية (بتاريخ يونيو 2022)
- الموقع الرسمي لوزارة الزراعة المصرية
- التغيرات المناخية وتأثيرها على قطاع الزراعة في مصر (سامية المرصفاوي)
- تصريحات السيد القصير وزير الزراعة واستصلاح الاراضي لجريدة الأهرام ( يوليو 2022 )
- تقرير فجوة الانبعاثات لعام 2020 الصادر عن الأمم المتحدة
- كتاب “مدار الفوضى.. تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف” (تأليف كريستيان بارينتي- ترجمة الدكتور سعد الدين خرفان -عالم المعرفة)
- تقرير التنمية البشرية لعام 2021، ( وزارة التخطيط المصرية، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي)
- تصريحات السيد شو دونيو- الموقع الرسمي لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة بتاريخ 2 سبتمبر 2022