المراعي الطبيعية في مصر: منتجو الغذاء يدفعون ثمن التغيُّرات المناخية والحرب



ما من منطقة في العالم تدنَّت فيها معدلات الأمطار، في العشرين سنة الأخيرة، كما في مصر. هذه الحقيقة، التي أبرزتها تقارير المنظمات الدولية المعنية بقضايا المياه والزراعة والغذاء، وكذا تقارير مراكز البحث المحلية، تجعل ملايين من منتجي الغذاء في مصر عرضةً لِفقد سُبل عيشهم. بينما يُهدد نقص المياه “إمدادات الغذاء الذاتية” لأكثر من 110 ملايين مصري.

مراعي مصر الطبيعية هي من تلقت، ولا تزال، الضربات الأولى والمباشرة للتغيُّرات المناخية، وتدني معدلات الأمطار في السنوات الماضية.  

فى سيناء وجنوب شرق مصر نهاية بحلايب وشلاتين، وفي الساحل الشمالي الغربى بمطروح، بات مستقبل ملايين المزارعين ومربي الأغنام والإبل، المعتمد اقتصادهم كليًا على المراعي الطبيعية، في مهب الريح.

مصر والتغيُّرات المناخية

كان التخوف من آثار التغيُّرات المناخية في مصر، خاصة تصحر أراضي الزراعة والرعي هاجسًا قديمًا. فمصر، بحسب دراسة أجرتها الأمم المتحدة منتصف القرن العشرين، هي دولة الصحراء رقم واحد في العالم (لا يعني هذا أن بها مساحات صحراوية أكبر من غيرها من البلدان، بل أنها تتسم بظروف مناخية تجعل أراضيها الأكثر تصحرًا) حيث تقع 86% من أراضيها تحت تصنيف شديدة القحولة، وتُصنف الـ 14% الباقية أراضي قاحلة.

“هناك حالة من عدم الاتزان المناخي مر بها العالم خلال السنوات الأخيرة جراء ارتفاع درجة حرارة الأرض، نتج عنها اضطراب في توزيع الأمطار على مستوى العالم. مصر من أكثر الدول التي  تأثرت بهذه الحالة”. هكذا يخبرنا الدكتور أحمد فوزي دياب، الخبير بمنظمة الأمم المتحدة للمياه والزراعة.

يستكمل دياب قائلاً: “باستثناء بعض مناطق شريط ضيق ملاصق للبحر الأبيض المتوسط في الجزء الشمالي الغربي، وبعض الوديان الجنوبية للبحر الأحمر – وهي أماكن شهدت انتظامًا نسبيًا للأمطار مقارنة بغيرها من الأماكن – فإن معدلات الأمطار في مصر تدنّت بشكل يُثير القلق”.

لم يكن تدني هطول الأمطار وحده المشكلة، بل عدم انتظامها بمعدلات تتيح نمو المراعي. فما بين مواسم جفاف حلت بمصر، ومواسم سيول جرفت في طريقها العناصر الغذائية، والغطاء النباتي إلى قاع البحر الأحمر أو الوديان، صارت المراعي في طريقها للزوال، كما يحدث في الصحراء الشرقية وسيناء. الأمطار والسيول التي تستقر في أعماق البحر الأحمر هي أيضًا ثروة مائية مهدرة، كان يمكن استثمارها في سنوات الجفاف، لو أُحسن استغلالها بإقامة السدود ومشروعات تخزين مياه الأمطار. 

انهيار الثروة الحيوانية

يخبرنا نقيب الفلاحين بمحافظة مطروح، الحاج عطية السنوسي، عن حجم الخسارة التي حلّت بالثروة الحيوانية جراء تدهور المراعي قائلا: “كنا نمتلك أكثر من مليون وخمسمائة ألف رأس من أجود سلالات الأغنام والماعز، كان هذا منذ عشرين عامًا فقط، الآن لا يتعدى ما تمتلكه مطروح ثلاثمائة ألف رأس، بسبب نقص الأمطار وجفاف المراعي”.

 ما لحق بمطروح شمل جميع المناطق حيث تعتمد تربية الأغنام على المراعي الطبيعية من سيناء وحتى حلايب وشلاتين.

(صورة لنقيب الفلاحين وسط المراعي
المصدر: نقيب الفلاحين بإذن خاص لنا)

أما بالنسبة للإبل، فقد تقلصت أعدادها في مصر، فلم تعُد تتعدى 150  ألف رأس، بعدما  كانت نحو 500 ألف رأس. فيما بات السوق المحلي معتمدًا على استيراد الجمال من السودان. انخفاض أعداد الإبل هذا ناتج عن تدهور المراعي، والجفاف الذي حل بمناطق سيناء ومطروح ومثلث حلايب وشلاتين، حيث كانت تتركز نسبة  70% من تربية الإبل في مصر.

“لم يعد يتبقى في المحافظة كلها سوى نحو 20 ألف رأس من الإبل، بعدما التهم الجوع والعطش القُطعان، ما اضطرنا لبيعها، لنفقد كل ثرواتنا”.  يقول سعيد إسماعيل، أحد مربي الإبل بمحافظة مطروح، والذي فقد ثلاثة أرباع قطيعه من الجمال خلال عشر سنوات. 

يستطرد إسماعيل قائلا: “كان المرعى الرئيسي للإبل يمتد من الكيلو 20 وحتى الكيلو 70 جنوبي مطروح، هذه المنطقة أصبحت الآن أرض صفراء بسبب ندرة الأمطار. لا نجد الآن حتى مياه لشرب الإبل والأغنام”.

ليست مجرد أرقام 

تتسق تصريحات مسؤولي وزارة الزراعة، بصدد تراجع حجم الثروة الحيوانية من الأغنام في سيناء والساحل الشمالي الغربي بسبب اختفاء المراعي، مع ما يقول نقيب الفلاحين بـ”مطروح”، ومربو الأغنام والإبل من سيناء وحتى حلايب وشلاتين. 

وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، الواردة في إصداره مصر في أرقام 2022 ، فقد بلغت نسبة الاكتفاء الذاتى من اللحوم الحمراء عام 2020 نحو  46.5%، وهو ما يعادل 7.8 كيلو جرام لكل فرد، بانخفاض يقترب من الـ 20% مقارنة بعام 2016 حيث كانت تبلغ نسبة ذلك الاكتفاء الذاتي 64.6%. أما إذا قارنا نسبة الاكتفاء الذاتي من اللحوم الحمراء في الإصدار المشار إليه (46.5%) بعام 2000 فسوف نكتشف حجم الكارثة، حيث كانت تقترب تلك النسبة من الـ80%.

بنظر مسؤولي الحكومة، يجب تعويض تراجع الثروة الحيوانية الكبير هذا بأية وسيلة، وليكن الاستيراد بأي ثمن، حفاظًا على “الأمن الغذائي” – وهو اتجاه حل محل “الاكتفاء الذاتي” في سياسات النظام المصري الاقتصادية والغذائية خلال العقود الأربعة الأخيرة.

 ” إن كان الأمر بالنسبة للحكومة على هذا النحو،  فإنه ليس كذلك بالنسبة إلى ملايين البشر الذين يعيشون على الرعي”

المراعي في سيناء
( ما وصل إليه حال المراعي في سيناء ومطروح
المصدر: الصفحة الرسمية لمركز بحوث الصحراء)

يروي شوقي مسعد، من أهالي مطروح، كيف كان يمنعك غبار قطيعه أثناء العودة إلى “الدار”، من الرؤية لعشرات الأمتار. حينها كان عدد أغنامه يفوق أربعمائة رأس، لم يتبق منها سوى عشرات، من المفترض أن تُنفِق على خمسة بيوت تضم 30 طفلًا هم أبنائه وأبناء إخوته. 

“ثلاثون فمًا علينا إطعامها من قطيع يتلاشى”. هكذا يصف الرجل ما حل بهم خلال الخمسة عشرة سنة الأخيرة، بعدما تحول المرعى الخاص بعائلته إلى أرض جرداء.

اختفاء الزراعات المطرية

لم تكن الثروة الحيوانية وحدها المتضررة بالجفاف وتدني معدلات هطول الأمطار على مصر في السنوات الماضية.  

هذه هي الصورة جلية، أُسَر بأكملها تفقد مصدر عيشها. إنها إذن ليست مجرد أرقام”.

فبحسب الخبير التنموي والناشط الاجتماعي بشمال سيناء، الدكتور خالد زايد، تراجعت كل الزراعات المعتمدة على الأمطار بشكل كبير، ومنها محاصيل غذائية هامة – كانت تتميز بها شمال سيناء ومطروح – صارت في طريقها للاختفاء تمامًا – مثل عنب “براني” والتين الذي كان جزء كبير من إنتاجه يُصدر (تبوأت مصر في تصديره مرتبة ثانية بعد تركيا) إضافة إلى سد حاجات السوق المحلي.

نتيجة لقلة الأمطار،اختفت أيضًا الكثير من الأعشاب الطبية والزراعات المطرية، في الأراضي الصالحة للزراعة والتي تتميز تربتها بدرجة هشاشة أقل من المراعي، حيث  اكتست هي الأخرى باللون الأصفر، ما حرم آلاف المزارعين من قدرتهم على إنتاج الغذاء، ليتحولوا في خلال سنوات من منتجين للغذاء إلى شريحة اجتماعية تقبع تحت خط الفقر.

المراعي
(حال المراعي في سيناء ومطروح
المصدر: الصفحة الرسمية لمركز بحوث الصحراء)

البيانات الحكومية وواقع المراعي

تَبلُغ مساحة المراعي الطبيعية، بحسب بيانات وزارة الزراعة المصرية وتصريحات مسؤوليها،4.5  مليون هكتار، أي ما يقدر بنحو 11 مليون فدان. لم تُقبل الوزارة خلال عشرات السنين على تحديث هذه الأرقام، بما يعبر عن واقع المراعي الحالي، مصرةً على تكرارها في كل مناسبة، ومكتفية باعتراف “مُرسَل” بتردي أراضي الرعي في مصر. 

لكن حال المراعي الطبيعية في مصر ربما لا يحتاج إلى أرقام وتقارير رسمية حتى نكتشف مدى تدهورها”. 

يقول الدكتور مجدي ماهر، الباحث بمركز البحوث الزراعية: “لو أننا استقلينا سيارة من القاهرة إلى مطروح عن طريق الضبعة الجديد أو طريق وادي النطرون، سنجد نحو 50 كيلو مترًا من الأراضي الزراعية الجديدة الموزعة على المستثمرين. وحتى نصل مطروح لن نجد سوى أراض صفراء على الجانبين، فلم يعد هناك وجود للمراعي بتعريفها العلمي”.

( ما وصل إليه حال المراعي في سيناء ومطروح
المصدر: الصفحة الرسمية لمركز بحوث الصحراء)

يوضح ماهر قائلا: “المراعي ككساء أخضر ممتد، مستمر أو شبه مستمر، لم يعد لها وجود على مساحات كبيرة في مصر كما كان في الماضي، بسبب التغيُّرات المناخية وتدني معدلات سقوط الأمطار”. 

واقع المراعي هذا، يشير إليه الحاج مصطفى رشيد، رئيس جمعية الرامس للمراعي والإنتاج الحيواني بمطروح، حيث يؤكد أن مساحة الـ 11 مليون فدان من المراعي الطبيعية لم يعد لها وجود فعلي، ولا تتعدى المساحات التي لا تزال خضراء نسبة 20% من هذا الرقم، من ضمنها المساحات  التي نُفذ عليها مشروع حمى المراعي بمنطقتي أبو مزهود بسيدى برانى والجعاوين برأس الحكمة، أو مشروعات تجميع المياه. 

لماذا لا تُحدث الدولة تقاريرها عن المراعي؟

 رغم إقرارها بتدهور وضع المراعي الطبيعية الحالي، لا تريد الحكومة  المصرية  ترجمة هذا الإقرار في صورة أرقام مُحدّثة، تُحدد مدى هذا التدهور الحقيقي. بينما تتابع تكرار نفس البيانات عن الـ 11  مليون فدان. 

يكمن أحد تفسيرات ذلك في محاولة الدولة تجنب الاعتراف بالآثار الاجتماعية الكارثية لتردي المراعي. فالوضع الاجتماعي لملايين من أهالي سيناء، المعتمد نمط اقتصادهم على الرعي وتربية الأغنام والإبل، انحدر في السنوات الماضية، بعد تلاشي قطعان أغنامهم، إذ باع الكثير من المربين أغنام قطعانهم تباعًا بعد جفاف المراعي.

 فقد هؤلاء الناس مصدر عيشهم، بعدما فقدوا قدرتهم على الإنتاج، ببيع قطعانهم لعجزهم عن إطعامها من ناحية، ولسد حاجات أسرهم من ناحية أخرى. اعتراف الحكومة بانهيار المراعي والإعلان عن المساحة الفعلية المتبقية من المراعي، يعني اعترافها بأن الملايين من أهالي سيناء – هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة للدولة المصرية – صاروا  تحت خط الفقر. اعتراف تترتب عليه آثار خطيرة على النظام المصري.

التصحر وتردي المراعي.. إلقاء اللوم على الفقراء

تتعدد أسباب تدهور المراعي الطبيعية وتتداخل، لكن عبارة “ممارسات العنصر البشري” تتصدر دومًا التقارير الدولية عن “تصحر المراعي”. تُحمّل تلك التقارير المزارعين ومربي الأغنام والإبل ومنتجي الغذاء مسؤولية تدهور الأراضي الرعوية، بسبب ممارسات الرعي الجائر. 

يجادل  شوقي مسعد هذا المنطق الذي يحملهم المسؤولية الأكبر عن تصحر المراعي، وهم من ارتبطوا لأجيال طويلة بهذه الأرض وعاشوا على خيرها. 

بالنسبة لـ”مسعد” الذي شارف على الستين عامًا، هذه هي المراعي التي عرفها منذ أن كان ابن الخامسة. تعلم من أبيه وأعمامه كيفية التعامل معها، متى يُطلق أغنامه لترعى ومتى يمنعها حتى لا تجتز النباتات وتقضي على المرعى. “أترى أننا نرغب في أن نُبيد ثروتنا؟” يتساءل شوقي.

ثم يواصل: “نعرف المرعى جيدًا، كما عرفنا عبر سنوات طويلة الصحراء والمطر والجفاف. نفهم أن المرعى يحتاج للراحة حتى تضرب النباتات جذورها في الأرض وحتى تزدهر، نفهم أن الرعي قبل نضج النباتات وازدهارها يقضي على المرعى، ربما للأبد. لكن الجوع لا يفهم ذلك، فهو ما اضطرنا لأن نطلق أغنامنا في المراعي الهزيلة”.

نعم إن الجوع لا يعرف تلك الضوابط. الجوع التهم قطعان الأغنام في مطروح، كما يقول نقيب الفلاحين الحاج عطية السنوسي: “تدهور المراعي نتيجة لقلة الأمطار، لم يترك ما تأكله القطعان فلجأ مربو الأغنام إلى بيع الإناث الصغيرة ثم الأمهات، حتى انتهت قطعان بأكملها”.

يضيف السنوسي: “في البداية لم يجدوا ما يطعمون به أغنامهم بعد جفاف المراعي، فأسعار الأعلاف ارتفعت عدة أضعاف، ثم لم يعد لديهم ما يطعمون به أطفالهم. الكثير من مربي الأغنام لم يعد يمتلكون شيئًا الآن”.

لوم ممارسات الفقراء، الذين يقوم اقتصادهم على الرعي، بجريرة تدهور المراعي سياسة قديمة ومستمرة من المؤسسات الدولية، لتحميل ملايين منتجي الغذاء حول العالم المسؤولية الأكبر عن كارثة تصحر الأراضي الزراعية والمراعي الطبيعية.

تسعى تلك المؤسسات ومموليها إلى طمس الحقائق، لتُقنع العالم أن هؤلاء الفقراء هم من دمروا غذائهم، بينما هي تمد لهم أيديها لإنقاذ ثرواتهم. 

لكن تقارير تلك المؤسسات عن المناخ هي ذاتها التي تفضح هذه الادعاءات”. 

قد يكون تَغيُّر المناخ عملية طبيعية. شهد كوكب الأرض خلال ملايين السنين تغيُّرات مناخية كبيرة، ما بين طقس شديد البرودة  أو جليدي وآخر شديد الحرارة، حدث ذلك مرارًا عبر العصور. لكن الأنشطة البشرية سرّعت التغيُّرات المناخية، فلم تعد عملية طبيعية تستغرق عشرات الآلاف من السنين. ارتفعت درجة حرارة الغلاف الجوي والمحيطات والأرض، بصورة متسارعة، بفعل تلك الأنشطة، فباتت الأرض أدفء بنسبة 1.1 درجة مئوية مما كانت في القرن التاسع عشر. وخلّف ذلك التغيُّر آثارًا اقتصادية واجتماعية وبيئية غاية في الصعوبة تحملتها ولا تزال، القطاعات الأفقر في العالم.

خطط دولية بائسة.. الرأسمالية تدمر كل شيء 

“اليوم يشير تقريرنا إلى أننا فشلنا” تصدر هذا الاعتراف تقرير فجوة الانبعاثات لعام 2019 الصادر عن الأمم المتحدة. فبحسب التقرير، كان على دول العالم قبل 10 سنوات تخفيض الانبعاثات بنسبة 3.3% كل عام، لكنها الآن ملزمة بخفضها بنسبة 7.6% كل عام. أما بحلول عام 2025، سيبلغ التخفيض المطلوب 15.5% كل عام، للحد من ارتفاع درجة الحرارة و الإبقاء عليه دون 1.5 درجة مئوية، وهو ما عدّه التقرير أمرًا صعبًا. 

و حمل تقرير فجوة الانبعاثات لعام 2020 اعترافًا دوليًا آخر، حيث قال إن العالم يتجه نحو ارتفاع درجات الحرارة بما يزيد عن 3 درجات مئوية بحلول عام 2100. ما يعني أن أهداف اتفاق باريس للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، لمنع ارتفاع درجات الحرارة درجتين مئويتين والسعي للإبقاء عليه تحت  1.5 درجة مئوية حتى نهاية القرن الحادي والعشرين، أصبحت مهمة خيالية. 

بحسب التقارير الدولية، ساهمت ثلاث دول، هي الصين والولايات المتحدة الأمريكية والهند، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، بأكثر من 55% من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة في العقد الماضي. فيما تساهم مجموعة العشرين (ستة عشرة دولة إضافة إلى الأربع السالف ذكرها) بـنسبة %78 من إجمالي الانبعاثات.  

وبينما لا تتجاوز مساهمة القارة الأفريقية نسبة الـ 5% من الانبعاثات، فإنها حصدت  ولا تزال القدر الأكبر من الآثار الكارثية  للتغيرات المناخية  وارتفاع درجة حرارة الأرض وما نتج عنه من تدني معدلات سقوط الأمطار. فها هي الملايين مهددة بفقد سبل عيشها بسبب تصحر الأراضي الزراعية والرعوية، إضافة للملايين من سكان المدن الساحلية الذين باتوا عرضة للغرق في غضون عقود قليلة.

حتى تلك الانبعاثات التي تساهم فيها دول آسيوية وإفريقيا فقيرة كانت إما نتيجة لخطوط إنتاج تمتلكها شركات عابرة للقارات داخل هذه البلدان،  أو كما يشير صقر النور في دراسته نحو انتقال عادل في القطاع الزراعي بشمال إفريقيا نتيجة لهيمنة نُظم غذاء رأسمالية عالمية – مرتفعة الانبعاثات وعاجزة عن التكيف مع التغيرات المناخية – على القطاع الزراعي في دول  آسيا وإفريقيا. فصارت الزراعة مصدرًا للانبعاثات ومُسببًا للتغيرات المناخية وليست مجرد قطاع متأثر بتلك التغيُّرات. 

سوف يصرخ قادة الدول الرأسمالية الكبرى في كل مناسبة أمام الكاميرات، مذعورين ومحذرين من خطر التغيُّرات المناخية. لكنهم سوف يُصدقون، داخل الغرف المغلقة، على كل السياسات الاقتصادية المعادية للبيئة والمفاقمة للتغيُّرات المناخية.  

 المراعي  والحرب على الإرهاب

وكأن أهالي سيناء الذين يواجهون تلك الظروف المناخية القاسية، التي صارت تُهدد ما تبقى من ثرواتهم وسبل عيشهم المتمثلة في المراعي الطبيعية والزراعات المطرية، ينقصهم هم آخر يزيد معاناتهم.

ففي التاسع والعشرين من شهر أكتوبر من العام 2014، أصدر إبراهيم محلب، رئيس الوزراء آنذاك قرارًا بعزل منطقة مقترحة لمدينة رفح على الاتجاه الشمالي الشرقي لمحافظة شمال سيناء، وإخلائها من الأهالي. فيما عللت الحكومة القرار بالسعي إلى وقف تهريب الأسلحة وتسلل الجهاديين من قطاع غزة، عقب عدة عمليات إرهابية – راح ضحيتها العشرات من ضباط وجنود الجيش المصري – أعلن تنظيم “ولاية سيناء” مسؤوليته عن بعضها. 

تضمنت المادة الثانية من القرار: “أنه في حالة امتناع أي مقيم عن تنفيذ القرار يتم الاستيلاء على ممتلكاته ومصادرتها”. شملت المنطقة العازلة الواردة بالقرار 10 مناطق وقرى برفح، إضافة  إلى ثمانية قرى أخرى بالشيخ زويد، تم إخلائها لاحقًا، لتبلغ المنطقة العازلة بتقديرات باحثين مستقلين 10 كيلومترات عرضًا و 12 كيلومترًا طولًا. وهو ما نتج عنه إزالة آلاف الأفدنة من الزيتون، وهدم آلاف المنازل وتهجير عشرات الآلاف من سكانها قسرًا.

وفي ديسمبر عام 2017، قررت السلطات المصرية إنشاء “حرم مطار العريش” عقب استهداف تنظيم داعش لطائرة هليكوبتر كان على متنها وزيري الدفاع والداخلية المصريين. ما نتج عنه إزالة مزارع الزيتون المتاخمة للمطار، والتي قام الأهالي بزراعتها منذ عقود على مياه الأمطار والآبار الجوفية، ودون أدنى مساعدة من الحكومة، حسب ما تحدث إلينا أحد المتضررين، والذي  رفض ذكر اسمه.

ذكر تقرير أعدته منظمة “هيومن رايتس ووتش” أنه منذ أواخر العام 2013، وحتى العام 2020، هدم الجيش المصري أكثر من 12 ألف منزل، وأزال 14 ألف فدان من الأراضي الزراعية كان معظمها مزروعًا بأشجار الزيتون. 

هكذا فقدت آلاف الأسر مصدر عيشها، وهجرت منازلها وأرضيها، لتُضاف آلاف الأفدنة إلى مساحة الأراضي الرعوية وأراضي الزراعات المطرية التي تصحرت، لكن هذه المرة ليست بفعل التغيُّرات المناخية وتدني الأمطار، إنما بفعل الحرب على الإرهاب، ليدفع أهالي سيناء الثمن في الحالتين.

“الخراسانات” كما يُطلق عليها الحاج عطية السنوسي، مثلت أيضًا كابوسًا لأهالي مطروح. فقد انتزعت الدولة 40 كيلو مترًا من “سيدي حنيش” وحتى “فوكا” بمنطقة رأس الحكمة، كانت مزروعة بالتين، من أجل بناء عدد من القرى السياحية، لا يراها الناس هناك سوى مجرد “خراسانات” صماء، حلت محل مزروعاتهم.

ربما السؤال الواجب طرحه الآن: هل من سبيل لإنقاذ المراعي الطبيعية في مصر ووقف تدهورها؟

يجيبنا الدكتور مجدي ماهر، الباحث بمركز البحوث الزراعية قائلا: “إن كان لا يمكننا وقف تسارع التغيُّرات المناخية، فإنه يمكننا الحد من آثارها، هناك فرصة لتنمية المراعي لكنها مهمة صعبة”.

يستكمل ماهر ويقول: ” يمكن استثمار بعض الأراضي في سيناء ومطروح و زراعتها بمحاصيل علفية بطريقة الري بالتنقيط. بدأنا هذا المشروع  قبل عشر سنوات في سيوة ومركز بئر العبد. كان الفدان يُكلف حينها 5 آلاف جنيه، لكن المشروع توقف بعد اندلاع ثورة يناير. يمكن إحياء المشروع لكنه يستلزم دعمًا ماليًا كبيرًا للمزارعين من قبل المؤسسات الدولية والسلطات المحلية، كما يجب قبل ذلك صيانة الآبار والتوسع في مشروعات تخزين مياه الأمطار”.

سدود تخزين المياه
(جزء من مشروع إقامة سدود تخزين المياه على الوديان بمطروح
المصدر: الصفحة الرسمية لمركز بحوث الصحراء)

تحسين جودة النباتات الرعوية الموجودة في الصحراء، عن طريق إكثارها داخل المراكز البحثية، وإعادتها للمراعي، وزراعة أنواع جيدة من النباتات الرعوية أو الشجيرات العلفية كالبرسيم الحجازي هو أيضًا ضرورة يراها الدكتور مجدي ماهر لإنقاذ الثروة الحيوانية.

بينما يشير خبير المياه والزراعة بالأمم المتحدة، الدكتور أحمد فوزي دياب، إلى عدد من المشروعات التي تقوم بها منظمات الأمم المتحدة في مصر لتطوير تقنيات تخزين الأمطار، أهمها إقامة سدود لإمداد التربة بالمياه بشكل يسمح للنبات بالنمو، وإمداد الآبار القديمة مثل الآبار الرومانية (بعد صيانتها) بالمياه لاستخدامات الشرب والزراعة. كما يتحدث عن مشروعات قائمة بدعم دولي في الساحل الشمالي الغربي بتقنيات مختلفة للبحث عن المياه الجوفية في الصحراء الشرقية وسيناء. 

أما الحاج عطية السنوسي فيقول إنهم قاموا بزراعة شجيرات رعوية مثل “القطف” و”الأكاسيا” بعشر محميات تبلغ مساحة الواحدة 50 فدانًا (500 فدان) في رأس الحكمة ومطروح وبراني.

وهو ما سمي بنظام المحميات حيث لا ترعى القطعان إلا بعد نمو النباتات، ويُمد المستفيدين من تلك المراعي بكميات من الأعلاف لإطعام أغنامهم في فترة نمو المراعي، من خلال مشروع “الصندوق الدوار”  الممول من مركز “سيدارى” بمشاركة محافظة مطروح. 

يؤكد الجميع على أن المراعي تحتاج لمشروعات ضخمة وتمويلات كبيرة لإنقاذ هذه المساحات الممتدة، وتنمية مصادر الغذاء وحماية منتجيه في تلك المناطق الجافة. 

غير أن حجم المشروعات والتمويل المالي المرصود لها، ليسا وحدهما ما سيحدد جدواها لتنمية المراعي ولمستقبل ملايين الناس الذين يعيشون عليها”. 

تُبذل جهود كبيرة من قبل العاملين بالمراكز البحثية المصرية، وبخاصة مركز بحوث الصحراء، ومركز البحوث الزراعية. لمسنا هذا في حديثنا سواء مع الباحثين وما لديهم من أفكار وحماس لمشروعات تنمية المراعي، أو مع الأهالي المستفيدين من المراعي الطبيعية في مطروح وسيناء. ويكن هؤلاء تقديرًا كبيرًا للباحثين الذين يشرف بعضهم على مشروعات تطبيقية، حيث يتواجدون دائمًا وسط الناس. 

ويكتسب الإرشاد الزراعي أيضا دورًا بالغ الأهمية في المناطق الجافة، فيما يتعلق بتوعية المزارعين والمربين بخطر الرعي الجائر، والتعامل مع النباتات الرعوية الجديدة التي يتم زراعتها في مشروعات مثل “حمى المراعي” وكذا الزراعات المطرية. وهو دور يتراجع كثيرًا، بحسب رئيس إدارة الإرشاد بمديرية الزراعة بمطروح  المهندس محمد أبو الذهب، والذي يقول إن 500 كيلو متر في عمق 300 كيلو متر، يشرف عليها فقط عشرات  المرشدين، الذين لا يجدون حتى سيارات يستقلونها أثناء إشرافهم على تلك المساحات الممتدة. وهو ما يبرز تراجع دور الوحدات والجمعيات الزراعية في السياسات الزراعية الحالية في مصر.

إلا أن هذه المجهودات تبدو غير مترابطة، بل غير مجدية في أحيان كثيرة “. 

مشروع حمى المراعي
(تجربة زراعة البرسيم الحجازي في مشروع حمى المراعي بمنطقة بئر العبد)

لا تحظى مراكز بحوث الصحراء والمراكز البحثية الزراعية المصرية سوى بنصيب يكاد لا يُرى من الموازنة العامة للدولة.  تعتمد هذه المراكز بالأساس في مشروعاتها البحثية والتطبيقية على منح وتمويلات تحكمها سياسات الجهات الممولة، تُنفذ مشروعات ربما لا تكون مناسبة لطبيعة الصحراء في مصر ولا  لظروف قاطنيها الاجتماعية والبيئية.

فيما تكتفي الدولة ومسؤولي سلطاتها المحلية بدور ضيف الشرف في هذه المشروعات – مساهمات مالية بسيطة، والتقاط للصور إلى جانب مسؤولي الجهات الممولة ومديري المشروعات الدولية.

كأن الدولة تقول لممولي تلك الجهات أنتم من تسببتم في هذا الخراب وعليكم إصلاحه، نحن لن نتدخل!. هذا المنطق أدى إلى رفع يد الدولة فعليًا عن عملية تنمية المراعي، فما يشغلها هو عدم تحميل الموازنة العامة للدولة أي أعباء مالية.

 لكن مع الوقت يتضح أن الآمال المعقودة على تمويلات المؤسسات الدولية في تنمية هذه المساحات الشاسعة من المراعي في مصر مجرد أوهام. بعض المشروعات لم تجدِ نفعًا يذكر. (يحتاج تقييم مشروعات تنمية المراعي في مصر إلى دراسة على حدة).

سياسات تنمية المراعي

تهدُف دائمًا مشروعات تنمية المراعي والصحراء ومموليها الدوليين إلى “تخضير” أكبر مساحة أراض ممكنة بوصفه الحل الأمثل لمعالجة آثار التغيُّرات المناخية، والحد من تصحر الأراضي، دون مراعاة طبيعة الصحراء وما يناسبها من نباتات وزراعات.  حتى أن بعض هذه الزراعات قد يساعد في رفع درجات الحرارة وزيادة الانبعاثات.

إن لسياسة التوسع في الزراعات المطرية والتحول إلى زراعات موسمية آثار بالغة السوء، فبينما تضاف هذه المساحات في تقارير المؤسسات الدولية والحكومية إلى المساحات التي تمت حمايتها من التصحر؛ فإنها كما يؤكد رئيس إدارة الإرشاد بزراعة  مطروح تقضي على الغطاء النباتي للتربة، فضلًا عن أنها سوف تبوء في النهاية إلى الفشل نظرًا لطبيعة الجزء الأكبر من المراعي حيث التربة هشة غير عميقة بما يكفي لنمو الأشجار البستانية المحتاجة عمق ثلاثة أمتار، أو المحاصيل النجيلية المستلزمة عمق 20 سنتيمترًا، حيث لا يزيد عمق التربة في الأراضي الرعوية عن 10 سنتيمترات.

السياسات الدولية العمياء التي تهدف إلى “تخضير” الصحراء بشكل مجرد دون مراعاة ما يناسبها ويلائم نمط اقتصاد قاطنيها، هي مجرد سياسات لغسل سمعة الدول المتسببة في انبعاثات غازات الدفيئة، وتسييد  سياساتهم  الغذائية/ الزراعية في بلدان آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.

يحتاج السير في طريق تنمية المراعي والصحراء في مصر إلى سياسات اقتصادية وزراعية تتلاءم مع الطبيعة الاجتماعية والبيئية لهذه المناطق، تعتبر منتجي الغذاء جزءا من عملية التنمية. سياسات مستقلة عن توجهات المشروعات التنموية الدولية، تستطيع توظيف تلك المشروعات دون أن تتذيل مموليها، وهي سياسات تبدو بعيدة كل البعد عن توجهات السلطات المصرية الحالية.

روابط المزارعين وقانون المراعي

غياب روابط المزارعين ومربي الأغنام والتجمعات التعاونية التي تمثلهم عائق يمنع المستفيدين من المراعي و منتجي الغذاء من أن يصبحوا رقمًا فاعلًا في عملية تنمية المراعي.

التلكؤ في إصدار قانون المراعي الطبيعية، الذي من شأنه أن يحدد مناطق الرعي وضوابط  استغلالها، هو بلا شك أحد أهم المشكلات التي تعيق تنمية المراعي في مصر. قانون لا يحرم المزارعين من الاستفادة من أراضيهم ويحدد شكل ملكيتهم لها، ويَحُولَ دون انتزاعها منهم (ملكية كافة الأراضي الرعوية التي تحت أيدي الأهالي غير مقننة). قانون  يشارك في صياغته أصحاب المصلحة الحقيقيين ومنتجو الغذاء في المناطق الجافة.

فرغم تقديم العديد من مشروعات قوانين المراعي  إلى مجلس النواب المصري، من بينها مشروع قدمه نواب بالبرلمان عن دوائر سيناء ومطروح، لم تجر مناقشة أي منها حتى الآن.  في الوقت الذي أصدر فيه البرلمان المصري 877 مشروع قانون خلال 5 سنوات، من يناير 2016  وحتى أغسطس 2020 . 

يبدو أن السلطات المصرية هي من تقف ضد إصدار تشريع من هذا النوع، حتى لا يحرمها أو يعطل من إجراءات انتزاعها أية مساحة تريدها وفي أي وقت تريد، سواء لأسباب أمنية، أو لأغراض إقامة منشآت سياحية تؤول ملكيتها لشركات خاصة أو إلى اقتصاد الجيش.


 بقلم/ أحمد خليفة – مصر

أحمد خليفةAuthor posts

صحفي وباحث مصري، متخصص في القضايا العمالية والفلاحية.