ديون الفلاحين في مصر.. قصة استغلال قديمة لا تزال تروى



تحتاج عملية الزراعة وكافة أشكال الإنتاج المرتبط بها، إلى ديمومة التمويل، بينما تعجز المدخرات الريفية والتمويل الذاتي لصغار الفلاحين عن تلبية مستلزمات الزراعة، فلا هي قادرة على تغطية تكلفة الإنتاج الزراعي على اختلاف تنوعه، ولا المساهمة في تطوير طرق وأدوات الزراعة وتحسين الإنتاج.

دائمًا ما كانت عقبة التمويل الزراعي، إلى جانب الضرائب التي فرضتها السلطات في مصر خلال عصور مختلفة، مدخلًا لمزيد من الاستغلال لغالبية الفلاحين، الذين كانوا يلجؤون دومًا للاستدانة من التجار والمرابين، ولاحقًا البنوك.

لا يمكننا الولوج إلى قضية الديون الفلاحية في مصر وفهم أبعادها، إلا بالعودة للوراء، لتتبع أوضاع الفلاحين، وظروف الإنتاج الزراعي وأولوياته، ونشأة وتطور النظام المصرفي، وفوق كل ذلك شكل السلطة السياسية في هذه الحقبة أو تلك.

نظرة إلى الوراء

لم يكن نظام الالتزام الذي وضعه العثمانيون وما يجلبه من ضرائب وإيرادات مرضيًا لمحمد علي باشا (1805 -1848)، ولا ملبيًا لطموحه التوسعي الذي تتطلب بناء جيش قوي، وتأسيس صناعة حديثة، ودفعه إلى البحث عن مصادر لزيادة الدخل، فحول مصر إلى حقل قطن كبير بهدف التصدير للبلدان الأوروبية، بعدما انتزع الأراضي من الملتزمين، وجعلها تحت إدارته المباشرة.

دائمًا ما كانت عقبة التمويل الزراعي، إلى جانب الضرائب التي فرضتها السلطات، مدخلًا لمزيد من الاستغلال لغالبية الفلاحين، الذين كانوا يلجؤون للاستدانة من التجار والمرابين، ولاحقًا البنوك.

يقول (دافيدس لانذر) في كتابه “بنوك وباشوات”:

“تحولت كل قرى مصر تقريبًا إلى مزرعة حكومية كبيرة وتحول الفلاح إلى وضع القن، فقد كان يبذر ما يؤمر به وفي الوقت الذي يؤمر به ثم يقدم ما يحصده إلى الحكومة، ولم يكن في استطاعته أن يبيع محصوله ولكنه كان يُجبَر على أن يقدم محصوله للدولة بالأسعار التي يفرضونها عليه والتي لم تكن تغطي ما يُفرض عليه من ضرائب“.

حقق القطن لمحمد علي ما كان يرغب به من زيادة في الدخل، وبعد مواسم قليلة من إدخاله زراعة قطن “طويل التيلة” إلى مصر، ارتفع إنتاج مصر من القطن من 650 ألف رطل إلى 18 مليون رطل، وحظي الصنف الجديد – طويل التيلة، على ثقة الأوروبيين واكتظت الموانئ الأوروبية بالقطن المصري.

في نهاية عهد محمد علي تدهورت كثيرًا إنتاجية المحاصيل الرئيسية التي اعتمد عليها وعلى رأسها محصول القطن، بالتوازي مع انهيار أسعاره في أوروبا. وانخفض بشدة دخل البلاد من الزراعة، وتوقفت نسبيًا مشروعات “الباشا” الصناعية.

عانى الفلاحون في مصر من سياسات محمد علي، وهجر عشرات الآلاف أراضيهم سواء لعجزهم عن دفع الضرائب أو هربًا من التجنيد الإجباري وأعمال السخرة والتي راح ضحيتها الآلاف.

خلال عهدي عباس وسعيد، خاصة الأخير، خففت السلطة قبضتها على الفلاحين وعلى الأراضي الزراعية، وعاد الآلاف من الهاربين إلى أراضيهم، وعاد النمو في إنتاجية القطن المصري، وارتفعت أسعاره. لكن هذا الانتعاش في تجارة القطن لم يزد منتجيه من الفلاحين إلا قهرًا وإفقارًا.

ديون الفلاحين.. تاريخ من الاستغلال

مع إلغاء محمد علي للاحتكار، بعد ضغوط من الحكومات الأوروبية، ومنح الفلاحين حرية بيع محصولاتهم، كانت نشأة شريحة  من التجار المرابين، والذين اضطر الفلاحون للاقتراض منهم بضمان المحصول، أو بيعه مقدمًا، لتسديد الضرائب المفروضة من حكومة “الباشا” وتغطية تكلفة الزراعة، وإطعام أسرهم.

التجار المرابون والذين كانوا جميعًا من الأجانب ظلوا شريحة صغيرة طوال عهد محمد علي، رغم ما استطاعوا جنيه من أرباح – نتاج فوائد القروض، والتي مثلت  مع الضرائب الحكومية نهب لعائدات المساحات الصغيرة التي كانت في حيازة الفلاحين آنذاك. توسعت  تلك الشريحة وتعاظمت أرباحها في عهد خلفاء محمد علي، مع توافد آلاف الأجانب على مصر. يذكر الدكتور محمد مدحت مصطفى، في كتابه “نشأة وإقرار الملكية الفردية للأراضي الزراعية في مصر”، أن الفائدة التي كان يتقاضاها المرابون الأجانب، من الفلاحين على القروض، وصلت في عهد الخديوي سعيد إلى 9% شهريًا أي 108% سنويًا.

ولد النظام المصرفي في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مستهدفًا الفلاح وإنتاجه الزراعي، فقد جاءت شركات الرهن العقاري والبنوك الأوروبية إلى البلاد مدفوعة بحالة الرواج في تجارة القطن المصري، جراء تداعيات الحرب الأهلية الأمريكية التي حالت دون وصول القطن الأمريكي إلى أوروبا. فشرعت العديد من البنوك والشركات في تأسيس فروع لها في مصر.

في عام 1880 تأسس البنك العقاري المصري، برأسمال 40 مليون فرنك فرنسي. قدم البنك قروضًا بضمان الأراضي الزراعية، لكنه منح الجزء الأعظم منها لكبار ملاك الأراضي أما أصحاب الحيازات الصغيرة فقد تولى إقراضهم الشركات العقارية والتجار والمرابين.

وصلت الفائدة التي كان يتقاضاها المرابون الأجانب، من الفلاحين على القروض، في عهد الخديوي سعيد إلى 9% شهريًا أي 108% سنويًا.

مع تغير القوانين وإعطاء الحق للفلاحين برهن الأراضي التي في حيازتهم، بعد الأخذ في أولى خطوات إقرار الملكية الفردية، تمكن المرابون من نزع مساحات كبيرة من الأراضي بعد عجز الفلاحين عن سداد ديونهم. 

بلغت مساحة الأراضي الزراعية التي قضت المحاكم المختلطة بنزعها من الفلاحين نظير الديون كما يذكر محمد مدحت مصطفى، نحو: “22047 فدانًا، في عام 1883، أما في عام 1884 فبلغت 18148 فدانًا، وفي عام 1885 بلغت 17828 فدانًا، وفي عام 1886 بلغت 12969 فدانًا”. بهذه الطريقة تكونت فئة من  كبار ملاك الأراضي الزراعية من المرابين الأجانب.

في عام 1902 أسست حكومة مصطفى فهمي باشا، البنك الزراعي المصري، بهدف تمويل أنشطة الإنتاج الزراعي، وقد توسع البنك في إقراض الفلاحين. لكن نتيجة لحالة الكساد الاقتصادي التي عمت مصر جراء تدني أسعار المحاصيل الزراعية عالميًا، في أعقاب الأزمة الاقتصادية/المالية عام 1907، لم يستطع الفلاحون سداد مديونياتهم للبنك الزراعي فقام بنزع ملكية أراضي الآلاف من صغار الفلاحين. يذكر الباحث المصري صقر النور، في دراسته “الأرض والفلاح والمستثمر.. دراسة في المسألة الزراعية والفلاحية”، أن الأراضي الزراعية التي انتزعها البنك الزراعي من الفلاحين ما بين عامي 1911 و1912 قُدرت بنحو 1.1 مليون جنيه آنذاك.

وهكذا، فقد أذاق البنك الزراعي/الحكومي، الفلاحين من نفس الكأس التي أذاقتهم منها شركات الرهن العقاري والمرابون المتجولون الذين طافوا قرى مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر.

تطور هيكل البنك الزراعي وعلاقته بالفلاح

سنة 1929 أُنشأت مؤسسة “الاحتياطى الزراعي الحكومي” كامتداد للبنك الزراعي، بهدف تمويل النشاط الزراعي عن طريق السلف والقروض الزراعية. بعدها بعامين أنشأت الحكومة “بنك التسليف الزراعي” والذي تقول الكثير من الدراسات إنه لعب دورًا كبيرًا في إقراض صغار الفلاحين بفوائد منخفضة كثيرًا إذا ما قورنت بفوائد “البنك الزراعي” في طور تكوينه الأول.

مع ذلك فإن لائحة “بنك التسليف الزراعي” حرمت مستأجري الأراضي الزراعية – والذين كانوا يشكلون غالبية الفلاحين حينها- من الاقتراض إلا بضمان المالك، ما جعلهم باقون تحت رحمة المرابين.

في عام 1948 عُدلت لائحة “بنك التسليف الزراعي” وأُطلق عليه “بنك التسليف الزراعي والتعاوني” توسع البنك في تمويل الجمعيات التعاونية الزراعية، خاصة بعد تولي “الضباط الأحرار” السلطة في البلاد. وفي  عام 1961، أسقط البنك كافة فوائد الديون عن الجمعيات التعاونية الزراعية.

بالرغم من قول الكثير من الكتابات في المسألة الزراعية، والاقتصاد السياسي، إن خطوات “دولة الضباط الأحرار” (1952) في الإصلاح الزراعي لم تكن أبدًا كافية، وإن قانوني الإصلاح الزراعي الأول والثاني واللذان وزعا مساحات من الأراضي على صغار الفلاحين لم يمسا سوى 20% فقط من الأراضي الزراعية حينها. كما أبقت دولة الضباط الأحرار على حرمان نسبة كبيرة من الفلاحين/العمال الزراعيين من التملك، إلا أن ذلك القول رغم أنه يمثل جزءًا كبيرًا من الحقيقة لا ينفي التحسن الذي طرأ على حياة قطاعات واسعة من الفلاحين.

كما وِضعت مئات الآلاف من الأفدنة من أراضي “العزب” و”الوسايا” تحت حيازة الفلاحين بعقود إيجار دائمة، ومكنهم القانون من التصرف في إنتاجها، وعاملهم معاملة المالك، حتى انتزعها منهم قانون 96 لسنة 1992، سيء الذكر، والمعروف بـ”قانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية”.

عام 1964 تحول “بنك التسليف الزراعي والتعاوني” إلى “المؤسسة المصرية العامة للائتمان الزراعي والتعاوني” واصلت “المؤسسة” منح القروض الفلاحية دون فوائد. وبلغت القروض التي مُنحت للجمعيات التعاونية الزراعية عام 1966 نحو 87 مليون جنيه، لكن بداية من عام 67 عادت الدولة إلى تحصيل فوائد على القروض الفلاحية ما أثر بالسلب على إقبالهم على الاقتراض.

في منتصف سبعينيات القرن العشرين، تم تحويل “المؤسسة المصرية للائتمان الزراعي” إلى كيان له الشخصية الاعتبارية حمل اسم “البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي” وحوِلت بنوك التسليف بالمحافظات والقرى إلى فروع له.
اعتمد “البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي” نظامين للإقراض، الأول أُطلق عليه السُلف الزراعية أو قروض الإنتاج النباتي وتختص بتمويل عمليات الزراعة الموسمية للمحاصيل الحقلية والبستانية، وهي قروض صغيرة بفائدة 5% سنويًا.

النظام الثاني وأُطلق عليه القروض الاستثمارية وتم تقسيمها إلى قروض قصيرة الآجال وتستهدف تمويل الأنشطة الزراعية القائمة مثل مشروعات الإنتاج الحيوانى والداجنى ذات دورات إنتاج قصيرة، والأنشطة المرتبطة بأعمال الزراعة، ولا تزيد مدة القرض عن 14 شهرًا. وقروض متوسطة الآجال وتستهدف تمويل مشروعات الإنتاج الحيواني التي لها طابع إنتاجي مستمر مثل تربية الجاموس والأبقار “الحلابة” وتربية النحل، وشراء المعدات والآلات الزراعية. وقروض طويلة الآجال وتستهدف تمويل عمليات استصلاح الأراضي وحفر الآبار، وأنظمة الري الحديثة. وتصل فوائد القروض الاستثمارية بأنواعها الثلاثة لأكثر من 20%.

البنك الزراعي وسياسة التوريط.. الفلاح كـ”زبون”

أقبلت الدولة منذ منتصف التسعينيات على تحرير أسعار صرف مستلزمات الإنتاج الزراعي سواء مستلزمات الإنتاج النباتي من تقاوي وأسمدة ومبيدات، أو مستلزمات الإنتاج الحيواني والداجني والسمكي من الأعلاف والأدوية، وإن كانت الدولة استمرت في التدخل لدعم الأسمدة الزراعية، إلا أن هذا الدعم لم يكن بنسبة كبيرة.

خلق الوضع الجديد لتحرير أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي، ورفع الدولة يدها بشكل شبه تام عن دعم الفلاحين، إقبالًا على قروض الإنتاج النباتي (السلف الزراعية) لكن السلف الزراعية لم تكن كافية لتغطية تكلفة عمليات الزراعة.

يتذكر السيد أحمد عوض الله، صاحب الستين عامًا، والذي يمتلك فدانًا ونصف الفدان بمركز الفشن بمحافظة بني سويف ما حدث خلال الثلاثة عقود الأخيرة: “ارتفعت أسعار الأسمدة والتقاوي، وأصبحت حصصنا من الأسمدة تتأخر لأكثر من شهرين في كل موسم فكنا نلجأ للشراء من التجار بأسعار مرتفعة، كما ارتفعت أسعار التقاوي التي نستلمها من الجمعيات الزراعية”.

لم يكن الوضع فقط متعلقًا بتأخر حصص الفلاحين من الأسمدة كما يقول عوض الله، بل كانت الحصص لا تصل كاملة إلى الفلاحين، جراء فساد الموظفين. وقد أُجريت عشرات التحقيقات في قضايا اتهم فيها موظفين بالجمعيات الزراعية وفروع البنك الزراعي بالقرى بسرقة حصص الفلاحين من السماد وبيعها بالسوق السوداء.

يستكمل عوض الله: “السُلف الزراعية لم تكن كافية لأنها مبالغ صغيرة، فلجأت إلى القروض الاستثمارية لسد تكلفة الزراعة، والحقيقة أنني كنت أنفق بعض منها على احتياجات البيت، فلم يكن ناتج بيع محصول الفدان والنصف يكفي أولادي الأربعة”.

بعد سبع سنوات من استمرار عوض الله، في الاقتراض، تراكمت عليه أصول القروض والفوائد لتصل إلى 80 ألف جنيه، بينما لم يكن أصل المبلغ الذي بدأ به تعاملاته مع البنك يزيد عن 5 آلاف، ما اضطره لبيع 4 قراريط لسداد مديونياته قبل أن يقطع تعاملاته مع بنك التنمية والائتمان الزراعي بشكل نهائي.

السؤال هو: كيف تصل مديونية صغيرة إلى أكثر من 15 ضعفا في 7 سنوات؟! فحتى لو كانت الفائدة 20% في العام فإن المديونية بالكاد سوف تصل إلى ضعفين.

يجيبنا عبد الناصر أبو راتب، ويمتلك 5 أفدنة بمركز إطسا بمحافظة الفيوم، من خلال قصته مع بنك التنمية والائتمان الزراعي: “عندما اضطررت للاقتراض من البنك الزراعي لم يكن متاحًا أمامي سوى القرض قصير الأجل، ويسمى [تسمين العجول] ومدته 6 أشهر، بفائدة  17%، تصل لأكثر من 20% بعد حساب المصاريف الإدارية. لكن عندما حل موعد السداد لم أستطع تدبير أصل القرض وفوائده، وكان المبلغ المطلوب 35 ألف جنيه، فأشار عليّ موظف البنك بأن أقوم بـ[قلب] – تدوير القرض، وكانت هذه بداية الكارثة“.

عملية “قلب” – تدوير القروض، كما شرحها لنا أبو راتب وبعض ممن أدلوا بشهاداتهم، تتلخص في أن يقوم موظف البنك بسداد قرض الفلاح الذي حل موعده، على الورق، فلا يدخل خزينة البنك شيئًا. ويفعل ذلك عادة يوم الخميس، فيكون أمامه يومي الجمعة والسبت كإجازة أسبوعية،  لتفادي أية تفتيشات على البنك، حيث تشترط اللوائح ثلاثة أيام بين تسديد القرض وصرف قرض جديد. ثم يعود يوم الأحد ويصرف لنفس الفلاح قرضًا جديدًا يكون عادة أكبر، حتى يستطيع تغطية أصل وفوائد القرض القديم والمصاريف الإدارية للقرض الجديد، وما يتبقى يعطيه للفلاح. وهكذا يضطر الفلاح لتكرار هذه العملية كلما حان وقت تسديد القرض.

عملية “قلب” – تدوير القروض، تتلخص في أن يقوم موظف البنك بسداد قرض الفلاح الذي حل موعده، على الورق، فلا يدخل خزينة البنك شيئًا.

يقول أبو راتب، إنه اضطر إلى التدوير عدة مرات حتى تراكمت عليه الديون، لأنه لم يكن يستطيع في كل مرة توفير مبلغ السداد، فقيمة القرض لم تكن تدخل في مشروعات فِعلية، لقِصر مدة القرض، بل كان يقوم بإنفاقها على تمويل عملية الزراعة واحتياجات أسرته، وغالبًا ما كان عائد المحاصيل الزراعية قليلًا، كما أن المحصول دائمًا عرضة لتقلبات الأسعار، أو التلف.

يُقر أحمد. س، بالمعاش، عمل مديرًا لعدد من فروع بنك التنمية والائتمان الزراعي بين أعوام 2004 و2017، بأن عملية تدوير القروض كانت تحدث كثيرًا في الفروع التي أدارها، لكنه يحاول التبرير: “الفلاح يأتي عند موعد سداد القرض، وليس معه جنيهًا واحدًا من أصل القرض ولا فوائده، فليس من المعقول أن نلقي به في السجن، فيعمل الموظفون على تسهيل إجراءات صرف قرض جديد له”.

بعد عدة سنوات كان المبلغ المستحق على أبو راتب للبنك الزراعي، يفوق الـ مائتي ألف جنيه، تورط فيها بعد تدوير القرض عدد من المرات بينما لم يزد المبلغ الذي بدأ به الاقتراض عن 30 ألف جنيه. قام البنك الزراعي بتحريك الـ”شيكات” التي وقع عليها أبو راتب عند صرف القرض، وقد قضت المحكمة بحبس أبو راتب ثلاث سنوات، في عام 2014، فاضطر لبيع جزء من أملاكه حتى يتجنب السجن.

البنك الزراعي وتوجيه الإقراض.. تنمية أم استغلال

بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، بلغت القروض قصيرة الأجل التي منحها البنك الزراعي للفلاحين خلال السنة المالية (2009 – 2010) نحو 4.4 مليار جنيه، بينما بلغت القروض متوسطة الأجل 1.5 مليار جنيه، ولم تزد القروض طويلة الأجل في نفس العام عن 8.9 مليون جنيه. وخلال السنة المالية (2015 – 2016) ظلت الفجوة لصالح القروض قصيرة الآجال والتي بلغت في ذلك العام 8.2 مليار جنيه، بينما بلغ حجم القروض متوسطة الآجال 2.8 مليار جنيه، والقروض طويلة الآجال 470 مليون جنيه.

أضرت تلك السياسات بالملايين من صغار الفلاحين والذين سقطوا في دوامة تدوير الديون، وما أن استفاقوا حتى وجدوا أن بضعة آلاف من الجنيهات اقترضوها قد تضاعفت مرات ومرات، فاضطروا إلى بيع جزء من أراضيهم.

يقول أحمد. س، في شهادته، إن السياسة التي كانت تحكم البنك طوال سنوات خدمته، هي التوجه نحو تسهيل منح الفلاحين قروضًا قصيرة الآجال، وتعقيد إجراءات متوسطة الآجال والابتعاد بقدر الإمكان عن طويلة الآجال. وذلك لأن القروض قصيرة الآجال تتمتع أنشطتها بسرعة دوران رأس المال، ما يُمكن البنك من استرداد أمواله في فترة قصيرة، وتحقيق فوائد أعلى والمحافظة على السيولة لديه. أما القروض متوسطة وطويلة الآجال فطبيعة الأنشطة الموجهة إليها تتطلب سنوات حتى تكتمل دورتها الإنتاجية.

لقد أضر توجه سياسات البنك الزراعي ناحية الإقراض قصير الآجال، وإهمالها للإقراض متوسط وطويل الآجال، بالغ الضرر بعملية تنمية الإنتاج الزراعي بكافة أشكاله. فمن المفترض أن توجه القروض متوسطة الآجال إلى مشروعات الإنتاج الحيواني التي لها طابع تنموي مثل تربية الجاموس والأبقار “الحلابة” وشراء المعدات والآلات الزراعية، بينما من المفترض أن توجه القروض طويلة الآجال إلى عمليات استصلاح الأراضي وحفر الآبار والمنشآت الزراعية، وأنظمة الري الحديثة، بهدف تنمية الزراعة رأسيًا وأفقيًا، وهو ما لم يحدث.

كما أضرت تلك السياسات بالملايين من صغار الفلاحين والذين سقطوا في دوامة تدوير الديون، وما أن استفاقوا حتى وجدوا أن بضعة آلاف من الجنيهات اقترضوها قبل سنوات قليلة قد تضاعفت مرات ومرات، فاضطروا إلى بيع جزء من أراضيهم حتى لا يُلقى بهم في السجون.

فلاحون منسيون

حرمان الفلاحين من مستأجري الأراضي الزراعية والذين لا يملكون حيازات، من خدمات التمويل الزراعي ظلت جزءًا من سياسات البنك الزراعي منذ تأسيسه قبل 120 عامًا وحتى اليوم.

تقول هناء عبد الحكيم، رئيسة نقابة صغار الفلاحين بمركز سمالوط بمحافظة المنيا: “المشكلة الأكبر التي تواجه أعضاء النقابة أن أغلبهم من المستأجرين الذين لا يملكون حيازات زراعية، أو الذين لديهم حيازات زراعية صغيرة، وهم محرمون من قروض البنك الزراعي. ويواجهون مشكلات كبيرة في تمويل أنشطتهم الزراعية سواء تكلفة الإيجار أو مستلزمات عمليات الزراعة”.

نقيبة الفلاحين بالمنيا
رئيسة نقابة صغار الفلاحين بسمالوط بصحبة عضوات من النقابة وأطفالهن

وتحاول نقابة صغار الفلاحين بسمالوط، والتي بدأت عضويتها بـ60 فلاح وفلاحة ووصلت إلى 2700 عضوًا، التغلب على مشكلة التمويل عن طريق اللجوء إلى بعض جمعيات المجتمع المدني والتي منحت فلاحي النقابة قروضًا بالضمان الشخصي، دون اشتراط وجود حيازات زراعية.

كما لعب صندوق ادخار أسسه أعضاء النقابة، دورًا تمويليًا حيث منح بعض الأعضاء قروضًا صغيرة، استخدمت في زراعة مساحات من الأراضي بمحصول الكمون، ومشروعات لتربية الماعز.

إسقاط الفوائد وإعادة هيكلة البنك الزراعي

في عام 2015، كانت الأرقام الحكومية تشير إلى أن عدد الفلاحين المتعثرين لدى بنك الائتمان الزراعي 206 آلاف و960 فلاح، بإجمالي مديونية 4 مليارات جنيه، فيما كان عشرات الآلاف من الفلاحين ملاحقون قضائيًا بعد صدور أحكام بحبسهم.

أُعيد هيكلة بنك التنمية والائتمان الزراعي في عام 2016 بعدما صدق البرلمان المصري على القانون 84 والذي يقضي بتحويل البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي إلى بنك قطاع عام يسمى “البنك الزراعي المصري” يتخذ شكل شركة مساهمة مصرية مملوكًا رأس مالها بالكامل للدولة، ويكون له الشخصية الاعتبارية المستقلة، وفقاً لأحكام قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي. أي أنه لم يعد تابعًا لوزارة الزراعة.

وفي عام 2021 أطلق البنك الزراعي مبادرة أُسقط بموجبها ديون شرائح ضيقة من المتعثرين، بينما أسقط عن باقي المتعثرين كامل الفوائد. صور الإعلام المصري الأمر وكأنه إسقاط للديون عن كامل المتعثرين، وليس مجرد إسقاط للفوائد، مع ذلك فقد كانت خطوة جيدة، حيث أكد بعض ممن أدلوا بشهاداتهم في هذا الموضوع أنهم استفادوا من إسقاط فوائد الديون وإن لم تكن استفادة كبيرة.

وعلى الرغم مما انتاب الكثيرين من مخاوف حول الهوية والتبعية الجديدة للبنك الزراعي، بعد ما تم فصله عن وزارة الزراعة، إلا أن الأمور تبدو في طريقها للتحسن، حيث تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إلى نمو كبير في حجم القروض الاستثمارية متوسطة وطويلة الأجل التي منحها البنك الزراعي في السنوات الأخيرة حيث قفزت القروض متوسطة الأجل من 3.5 مليار جنيه عام 2017 إلى 11.3 مليار جنيه عام 2021، بينما قفزت القروض طويلة الآجال من 466 مليون عام 2017 إلى 853 مليون عام 2021، فيما بقيت تقريبًا القروض قصيرة الآجال كما هي حيث سجلت عام 2021 نحو 7.6 مليار جنيه وهي نفس معدلات 2017.

وتحيلنا الأرقام إلى أنه لأول مرة تتخطى القروض متوسطة الآجال للقروض قصيرة الآجال وبفارق كبير ما يعني أن البنك الزراعي بدا وكأنه يتبنى توجهًا في صالح تنمية زراعية حقيقية، حيث من المفترض أن توجه القروض متوسطة الآجال كما ذكرنا سابقًا ناحية مشروعات وأنشطة زراعية أكثر استدامة. مع ذلك فإن حجم القروض طويلة الآجال رغم نموها، أقل بكثير من أن تحدث التنمية في مجال استصلاح الأراضي وحفر الآبار وأنظمة الري الحديثة.

رغم التفاؤل الذي تُحيلنا إليه أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بشأن القروض متوسطة الآجال، إلا أنه لا يمكننا التأكد ما إذا كانت هذه القروض قد استفاد منها صغار الفلاحين، أم أن الجزء الأكبر منها قد ذهب إلى شركات الاستثمار الزراعي، دون كشف البيانات الحكومية عن وِجهات تلك القروض، وهو ما ليس متوفرًا حتى الآن.

كما أن استمرار الفائدة المرتفعة وغياب الدور الإرشادي والرقابي على المشروعات، قد يعيد الفلاحين إلى دوامة الاستدانة، والأنشطة الوهمية دون إحداث تنمية زراعية حقيقية. ولا يمكن هنا أن ننفي مسؤولية الفلاحين أنفسهم عن وهمية الأنشطة الزراعية واختلاق مشروعات ليس لها علاقة بالواقع، بهدف الحصول على القروض.

قوى اجتماعية فاعلة وزراعة تعاونية

بحسب آخر إحصاءات صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، تبلغ المساحات المنزرعة في مصر 9.6 مليون فدان، منها نحو 6.3 مليون فدان أراضي قديمة والمعروفة بأراضي “الدلتا والوادي” وهي مملوكة لصغار الفلاحين ومقسمة إلى حيازات صغيرة، أما المساحة المتبقية والبالغة 3.3 مليون فدان فتندرج تحت الأراضي الجديدة والمستصلحة ومملوك أغلبها لرجال أعمال وشركات استثمار زراعي. ويبلغ نسبة المشتغلين بالزراعة 21% من حجم القوى العاملة في مصر والبالغ نحو 30.3 مليون فرد.

وبينما يتجه ملاك الأراضي الجديدة إلى زراعة المحاصيل التصديرية من الخضروات والفاكهة، بدعم من الحكومة والتي تعطيهم تسهيلات كبيرة سواء في أنظمة الإقراض أو التحفيزات التصديرية، فإن أعباء توفير جزء كبير من الغذاء ملقاة على عاتق صغار الفلاحين وإنتاجهم.

ويشير تقريرًا حديثًا للبنك المركزي المصري إلى أن إجمالي أرصدة القروض المقدمة لعملاء البنوك بخلاف البنك المركزي سجلت 3.348 تريليون جنيه، لم يزد نصيب أنشطة الزراعة منها عن 47.9 مليار جنيه، بينما استحوذ النشاط الصناعي على نحو 452.4 مليار جنيه، والنشاط التجاري على 211.2 مليار جنيه، ونشاط الخدمات على 454.5 مليار جنيه، بينما استحوذت بقية القطاعات غير الموزعة التي شملت القطاع العائلي وأفراداً طبيعيين وهيئات محلية لا تهدف إلى الربح وهيئات أجنبية تعمل في مصر على 654.1 مليار جنيه.

وبينما يتجه ملاك الأراضي الجديدة إلى زراعة المحاصيل التصديرية من الخضروات والفاكهة، فإن أعباء توفير الغذاء ملقاة على عاتق صغار الفلاحين.

ويواجه الفلاحون – منتجو الغذاء في مصر – جملة من المشكلات، تتشابك وتتداخل بشكل كبير، فـ أزمة تمويل الأنشطة الزراعية، وعجز المدخرات الفلاحية عن سد تكلفة الإنتاج الزراعي، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتفتت الملكية الزراعية. وهو أيضًا مرتبط بعجز الفلاحين عن تسويق محصولاتهم، وخضوعهم لاستغلال التجار تارة، ولتقلبات الأسعار في الأسواق تارة أخرى، وفوق كل ذلك السياسات الزراعية ومؤسسات التمويل الزراعي والتي تعاملت مع الفلاح في العقود الأخيرة بوصفه “زبونًا” يجب تحقيق أكبر ربح ممكن من وراء تعاملاته.

لا نستطيع أن نضع أيدينا على حلول عاجلة وناجزة، لكل تلك المشكلات، فبينما تحتاج المسألة الزراعية لخطط ممنهجة تضع الفلاح في أولوياتها وتدعم قدراته على إنتاج الغذاء، فإن سياسات الدولة غَلّبت منذ عقود مفهوم “الأمن الغذائي” على “الاكتفاء الذاتي”، فقد رأت أنها طالما كانت قادرة على توفير الغذاء عن طريق الاستيراد فلا حاجة لإنتاجه. ولكي تتغير هذه التوجهات فلا بد من خلق قوى اجتماعية وسياسية ضاغطة تتبنى قضايا السيادة على الغذاء.

كما يتطلب حل تلك المشكلات تنظيم وتكتل صغار الفلاحين في روابط ونقابات، وتأسيس تعاونيات زراعية، تسعى إلى التغلب على أزمة تفتيت الملكية الزراعية، وتخطي عقبة التمويل الزراعي وتراكم الديون، والمساهمة في تطوير طرق وأدوات الزراعة وتحسين الإنتاج.

أحمد خليفة\ مصر


مراجع ومصادر:

  • “بنوك وباشوات” – دافيدس لانذر – ترجمة الدكتور عبد العظيم أنيس
  • “نشأة وإقرار الملكية الفردية للأراضي الزراعية في مصر” – محمد مدحت مصطفى
  • “الأرض والفلاح والمستثمر.. دراسة في المسألة الزراعية والفلاحية” – صقر النور
  • “بنك التنمية والائتمان الزراعي وإمكانيات تفعيله لتنمية القطاع الزراعي” – مها محمود عبد الرازق أبوزيد
  • الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – كتاب الإحصاء السنوي (أعداد متفرقة)
    البنك المركزي المصري (بيانات متفرقة)
  • البنك الزراعي المصري (بيانات متفرقة)

أحمد خليفةAuthor posts

صحفي وباحث مصري، متخصص في القضايا العمالية والفلاحية.