اصدار جديد: “رهان السيادة الغذائية: إكراهات المديونية والتبادل الحر بالمغرب”



ملخص تنفيذي:

نقدم هنا ملخصا تنفيذيا للحوار الذي أجراه موقع “شبكة سيادة” مع الأستاذ والاقتصادي نجيب أقصبي حول “رهان السيادة الغذائية تحت إكراهات المديونية والتبادل الحر”.

تضمن الحوار 9 محاور/ أسئلة هي كالآتي:

1- هل هناك فرق حقيقي بين مفهوم “الأمن الغذائي” ومفهوم “السيادة الغذائية”؟

2- منذ عقود واقتصاد المغرب يسير تحت ضغط المديونية: كيف تؤثر هذه في الاختيارات الفلاحية، وبوجه خاص السيادة الغذائية؟

3- ما هي مكانة السيادة الغذائية في استراتيجيات الدولة قبل المخطط الأخضر والجيل الأخضر؟

4- ما هي أوجه تبعية المغرب الغذائية وما أسبابها؟

5- يرتبط المغرب باتفاقات تبادل حر مع الاتحاد الأوروبي ومع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما، ما وقع تلك الاتفاقيات على الفلاحة المغربية، وضمنها المسألة الغذائية؟

6- كيف تؤثر إكراهات الموارد الطبيعية، وندرة الماء، على السيادة الغذائية؟ وما الوقع المرتقب للتغيرات المناخية على رهان السيادة الغذائية؟

7- قامت الدولة بتضمين مفهوم “السيادة الغذائية” في وثائقها، وعلى رأسها “تقرير لجنة النموذج التنموي”، وأحدثت لجنة خاصة بمجلس المستشارين تحدثت هي أيضا عن السيادة الغذائية. ما علاقة منظور الدولة لمفهوم السيادة الغذائية، بنظيره لدى لا فيا كامبيسينا وشبكة السيادة الغذائية وحركات الفلاحين والشعوب الأصلية؟

8- هل يفتح الإطار المغاربي أو العربي فرصا أكبر لسيادة غذائية إقليمية؟

9- كيف ستكون السياسات الفلاحية في ظل سيادة غذائية فعلية؟

بدأ الأستاذ أقصبي بعرض تاريخي لظهور وتطور مفهوم “الأمن الغذائي”، بدءا بطرحه من طرف المؤسسات المالية الدولية في ثمانينيات القرن العشرين، والتي ربطت تحقيق الأمن ذاك بالتزود بالغذاء من السوق الدولي. وبعد ذلك تطور مضمون المفهوم، بواسطة منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) في قمة الغذاء العالمي سنة 1996، والتي ربطت تحقيق الأمن الغذائي بالشروط الخمس: الوفرة، الولوج، الاستمرارية، احترام البيئة، الحفاظ على الصحة. واعتبر الأستاذ أقصبي أن “الأمن الغذائي” لدى منظمة الفاو أغنى وأصح من نظيره لدى المؤسسات المالية الدولية.

أما مفهوم “السيادة الغذائية”، رغم أنه ظهر في تزامن مع نظيره “الأمن الغذائي” كما طرحته منظمة الفاو، فيعني أن يملك كل بلد القدرة على التحكم في القرار وفي الاختيار في مجال السياسة الفلاحية: الإنتاج والتوزيع والتطوير والتكوين… وكل ما يتعلق بالسياسة الفلاحية. وهاجسها ودافعها الأول هما المصالح والحاجيات الداخلية. لذا، مصطلح “السيادة الغذائية” يدمج مفهوم منظمة الفاو حول “الأمن الغذائي” ويغنيه بإضافة قدرة كل بلد على التحكم في القرار والاختيار.

يتقدم الأستاذ أقصبي بتحليل تاريخي لارتباط السياسة الفلاحية بالمغرب مع المديونية. تدخلت المؤسسات المالية الدولة (البنك وصندوق النقد الدوليين) منذ ستينيات القرن العشرين، ومذ ذاك التاريخ وهي توجه السياسة الاقتصادية بالمغرب، وضمنها السياسة الفلاحية.

فرضت تلك المؤسسات على المغرب اختيارا فلاحيا قائما على تجهيز البنية التحتية الموجَّهة لسقي الفلاحة الكبيرة، ولتمويل تلك البنية التحتية أتاحت إمكانية الولوج إلى السوق الدولي للاقتراض. ولكن لضمان تسديدها بالعملة الصعبة، على المغرب أن يوجه فلاحته للتصدير. وهكذا وُّجِّهت السياسة الفلاحية لتلبية حاجيات السوق الدولي وليس الحاجيات الداخلية، وفي نفس الوقت لخدمة أداء الدين الخارجي.

أدى هذا- حسب الأستاذ أقصبي- إلى إغفال الحاجيات الداخلية وبالتالي تقويض الأمن الغذائي للمغاربة، الذين فُرض عليهم أيضا التخلي عن نموذجهم الاستهلاكي القديم (الشعير وزيت الزيتون مثلا)، وتعويضه بمواد غذائية مدعومة عبر صندوق المقاصة (القمح الطري والزيوت النباتية). وهذا ما أدى إلى انفصال (déconnexion) بين النموذج الاستهلاكي والنموذج الإنتاجي.

بالنسبة للأستاذ أقصبي هناك استمرارية بين السياسة الفلاحية التي جرى إرساؤها في ستينيات القرن العشرين، وبين المخططات الحالية (المغرب الأخضر والجيل الأخضر). فمخطط المغرب الأخضر حافظ على هدف “الإنتاجية/ الإنتاجوية” و”الإنتاج الموجه للتصدير”، ما فاقم تقويض الأمن الغذائي وفي نفس الوقت استنزاف موارد الطبيعة، وعلى رأسها الثروات المائية. وقدَّم مثالا على ذلك اختيار تقنية “السقي بالتنقيط goutte à goutte”، المدعومة من المالية العمومية، والتي أدت بدورها إلى استنزاف شديد للثروة المائية، يجري تغطية تلك الكارثة بأرقام الإنتاج المرتفعة، التي يستفيد منها كبار المصدِّرين.

يسفِّه الأستاذ أقصبي ادعاءات المؤسسات المالية الدولية ومعها الدولة حول استفادة البلد من عائدات خيار فلاحي قائم على التصدير. فالسوق الأوروبي مثلا يقيم جدرانا لحماية مُنتِجيه من منافسة البضائع القادمة من الجنوب (وضمنه المغرب). كما تجعل المعايير التي يفرضها الأوروبيون أفضل المنتوجات وأكثرها قيمة غذائية توجَّه إلى أوروبا، في حين يتبقى الغذاء ذو جودة أدنى للسوق الداخلي، وهو ما يقوض أحد ركائز الأمن الغذائي: الغذاء الصحي والمغذي.

عمقت هذه السياسة الفلاحية تبعية المغرب الغذائية تجاه السوق الدولي. فالمواد الخمس الرئيسة في استهلاك المغاربة (الحبوب والسكر والزيوت واللحوم والحليب) تعرف نسبا متدنية من تحقيق الاكتفاء الذاتي، بعد أن استطاعت ذلك في السنوات الأولى من “الاستقلال”.

حصيلة السياسات الفلاحية- حسب أقصبي- هي تبعية قوية بالنسبة لمواد حيوية واستراتيجية كالقمح والدرة والسكر والزيوت واللحوم. وضعية اليوم بالنسبة لهذه المواد (ويمكننا قول ذلك بكل موضوعية وبلا مزايدات)، هي أصعب وضعية في ما يخص الأمن الغذائي مما كانت عليه. هكذا أصبح المغاربة يستوردون ما يستهلكونه، وينتجون ما لا يستهلكونه: إنها مفارقة الفلاحة التجارية التصديرية.

الوجه الآخر لهذه التبعية هو ضعف صادرات المغرب في السوق الدولي. ما يستورده المغرب هو مواد أساسية استراتيجية حساسة، ليس فقط بالنسبة للمغرب، بل هي كذلك على الصعيد الدولي. أما ما يصدره، مع الأسف، عبارة عن خضراوات وفواكه. وهي مواد لا تملك نفس القيمة الاستراتيجية لما يستورده. وينتج عن هذا ميزان قوى ليس في صالح المغرب: استيراد مواد ذات قيمة استراتيجية على الصعيد الدولي، وتصدير مواد، لديها أهمية ولكن ثانوية. ينتج عن هذا- حسب الأستاذ أقصبي- ضعف القدرة التفاوضية للمغرب في مواجهة المصدِّرين الأوروبيين وغيرهم (مثل الولايات المتحدة وتركيا… إلخ).

أسهمت اتفاقيات التبادل الحر في هذا المصير. وقع المغرب ما يقارب 60 اتفاقية تبادل حر، أهمها تلك الموقعة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1996، وتلك الموقعة مع الولايات المتحدة سنة 2004. أحد أهم الانتقادات التي وجهها الأستاذ أقصبي إلى تلك الاتفاقيات هو أنها كانت ذات هاجس سياسي بالدرجة الأولى، وقد خص الاتفاق الموقع مع الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الانتقاد. لم يكن هناك أي مكسب اقتصادي للمغرب من هذا الاتفاق، الذي كانت الولايات المتحدة في حاجة ماسة إليه، لإبرازها كحامل للازدهار الاقتصادي والتبادل التجاري، لمنطقة كانت ساحة لعربدتها العسكرية. هذا ما جعل المغرب- حسب أقصبي- في موقع تفاوضي ضعيف: “كان لدى الولايات المتحدة 800 خبير مكلفون بمهمة التحضير لمضمون الاتفاقية! أما نحن فقد كان هناك ثلاثة أو أربعة أطر بدون إمكانيات ولا خطة عمل”.

الوجه الآخر لكارثية اتفاقيات التبادل الحر تلك، هو أن المغرب كان يسجل عجوزا تجارية مع الدول التي وقعها معها تلك الاتفاقيات. تساءل الأستاذ أقصبي: “أليس هناك جانب «مازوشي»: الدولة تعرف أنها دخلت في لعبة خاسرة بالنسبة للبلد، ورغم ذلك تصر على لعبها!”.

ارتباطا بموضوع الحوار، أكد أقصبي أن اتفاقيات التبادل الحرة مبنية على منطق يدمر الأمن الغذائي ويقوض سيادة البلد على إنتاج غذائه. ففتح السوق أمام بلدان أقوى اقتصاديا يعني غزو سلعها الغذائية وتدمير الإنتاج المحلي الذي يشكل أساس الأمن الغذائي. وفي نفس الوقت، فإن ارتفاع قيمة منتجات الدول الأخرى يجعل صادرات المغرب في موقف ضعف في السوق الدولي.

أدى هذا- حسب الأستاذ أقصبي- إلى تفضيل الاستيراد على التصدير لدى الكثير من رجال الأعمال المغاربة. في المغرب 5000 مُصدِّر وضمنهم 500 مصدِّر دائم فقط، في حين هنالك أكثر من 25 ألف مستورِد. يخلص اقصبي قائلا: “إنها أرقام دالة. وهي تُظهر أن المستثمرين المغاربة انتهزوا التبادل الحر لمراكمة الأرباح عبر الاستيراد وليس عبر التصدير”.

ينتقل الأستاذ إلى تناول تأثير الاختيارات الفلاحية للمغرب على البيئة وموارد الطبيعة. وبالنسبة له هناك ارتباط وثيق بين السياسة الفلاحية والسياسة المائية: “أي سياسة مائية لأي سياسة فلاحية؟”. اعتمد مخطط المغرب الأخضر على حفز الفلاحة الكبيرة ودعم تلك الموجَّهة للتصدير. وهذه الأخيرة متخصصة في منتوجات مستهلكة بشدة للماء (فضلا عن إنهاك التربة)، وكان المبرر هوا دائما: إنها منتوجات ذات قيمة مضافة عالية وستجلب العملة الصعبة. بعد سياسة السدود الكبرى، اعتمد مخطط المغرب الأخضر تقنية السقي بالتنقيط، ولأنها مدعومة (أحيانا بنسب %100)، فإن الفلاح/ المستثمِر يفضل إنتاج المواد الموجَّهة للتصدير. هكذا أدت تلك التقنية إلى عكس المأمول منها: المزيد من استنزاف الفرشة المائية.

كانت النتيجة والمحصلة النهائية لتلك الاختيارات، هي تقويض الأمن الغذائي للمغاربة وتعميق تبعيته لسوق الغذاء العالمي وتهديد سيادته على إنتاج الغذاء. انفجر المشكل مع جائحة كوفيد- 19 بداية سنة 2020. أصاب الإغلاق الاقتصادي نظام الغذاء العالمي في الصميم. وتوارى خطاب تحقيق الأمن الغذائي عبر السوق الدولي، ليحل محله الإنتاج المحلي وتحقيق الأمن الغذائي بناء على الإنتاج الداخلي.

أدى هذا إلى تكيف رسمي مع هذا الواقع الجديد، لكن على مستوى الخطاب. إذ تسلل مفهوم السيادة الغذائية إلى وثائق الدولة، وعلى رأسها “التقرير العام للجنة النموذج التنموي الجديد”. يقول الأستاذ أقصبي: “الخطاب يمجد «السيادة»، ولكن بدون أن يتبع هذا الكلام أي توجه جديد ولا أية إجراءات عملية تعطيه مضمونا فعليا وعمليا، وتعبر عن إرادة حقيقية في التغيير. لأن هذا طبعا يقتضي تغيير الاختيارات الكبرى للسياسة الفلاحية لتنسجم مع متطلبات “السيادة الغذائية”. لكن لا شيء من هذا حدث! الاختيارات الأساسية للسياسة الفلاحية هي نفسها القائمة منذ عقود، بل تجد في «التقرير» مديحا مغاليا فيه لمخطط المغرب الأخضر! إنها سكيزوفرينيا تفقأ الأعين!”.

أنهى الأستاذ نجيب أقصبي الحوار بنقاش السيادة الغذائية، مؤكدا على أنها مشروع منفتح على الأفق الوحدوي المغاربي، الذي فتح آفاقا فسيحة لتحقيقها. وأشار في البداية إلى أن التعويل على الحكومات لتحقيقها أمر غير مطروح على جدول الأعمال. كما يستبعد إمكان تحقيق تلك الوحدة بناء على آليات السوق، فهذه الأخيرة قائمة على التنافس وليس على التعاون. لكن التكامل بين دول المنطقة، التكامل في الموارد الطبيعية يجعل بالإمكان إحداث تكامل في إنتاج واستهلاك الغذاء. ويعول أكثر على مبادرات من أسفل لتشييد اللبنات الأولى لتلك السيادة، مركزا على دور تنظُّم صغار منتجي الغذاء.

ولأن السيادة الغذائية تقوم بالأساس على ضبط الاختيارات وقدرة كل بلد على أن يكون رب وسيد قراره، وأيضا على أن الهدف الأول لإنتاج الغذاء هو تلبية الحاجيات الداخلية، مع احترام حاجيات الشعوب الأخرى، على عكس منطق السوق والسوق الدولي، فإن الخيار لتأمين الغذاء للشعوب هو تبني سيادة غذائية بدءا بإحداث قطيعة جذرية مع الاختيارات الفلاحية الحالية، وإبدالها بخيارات تأخذ بعين الاعتبار حاجيات الشعب بشكل يحترم التوازنات البيئية.

يمكنكم\ن الاطلاع على الدراسة كاملة من الرابط

نجيب أقصبيAuthor posts

دكتور وباحث اقتصادي مغربي.