موريتانيا: الأرض في صلب النضال من أجل السيادة الغذائية



تُعَدُّ الأرض من أهم عوامل الإنتاج، خاصة في البلدان المتميزة بندرة هذا العامل. موريتانيا بلد صحراوي بامتياز، ما يُفاقم المعضلة، ويجعلها تتعدى الجانب الطبيعي، لتشمل الجوانب الاقتصادية-الاجتماعية (تفاوت ملكية الأرض) والتاريخية؛ أي النهب/الاستحواذ الاستعماري الذي بلغ أشكالا قصوى مع العولمة الرأسمالية ولجوء فوائض رؤوس الأموال في المراكز الإمبريالية ودول الخليج العربي إلى الاستحواذ على الأراضي، لاسيما في القارة الإفريقية.

تقع موريتانيا في منطقتي الساحل والصحراء، وهي واحدة من أفقر القواعد الزراعية في غرب إفريقيا. ويُسهم الطابع الصحراوي في ندرة الأراضي الزراعية، التي تتعرض بدورها للإقحال. فالمساحات الزراعية تمثل أقل من 0,5% من التراب الوطني (حوالي 000 502 هكتار)، فضلا عن ذلك 44% من المساحة الزراعية الصالحة (أي 220.000 هكتار) تمثل اراضي قابلة للاستغلال ضمن نظم الإنتاج المطري (دييري، أعماق منخفضة ووالو)، التي ترتبط الى شكل كبير بنسبة التساقط المطري، والسيلان المائي ومن ثم جودة البنى التحتية المائية 1.

تركز ملكية الأرض

الأرض وملكيتها في موريتانيا مسألة بالغة التفجرية. فمساحة البلد تُقدر بحوالي مليون و30 ألف و70 كيلومترا مربعا، أربعة أخماسها متصحرة بشكل نهائي. ويتجمع السكان الموريتانيون على ثلث مساحة البلد، مع تركز الضغط أكثر على منطقة نهر السنغال لغايات الزراعة والرعي، وهو في تصاعد مستمر 2.

يعود فضل وضع ملكية الأرض موضع نقاش ونضال إلى حركة النضال ضد الرق. إذ أشار “ميثاق الحراطين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” الذي أصدرته “مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية” سنة 2014 إلى أن:

  • أكثر من 90% من المزارعين الصغار الذين لا يمتلكون أرضاً نتيجة المنح التقليدي أو الاستغلال الإقطاعي هم من شريحة الحراطين؛
  • أقل من 10% من 30 ألف هكتار من الأراضي الممنوحة قانوناً، والمستصلحة في ضفة النهر، تم منحها لصغار المزارعين المحليين؛ والباقي استحوذ عليه العشرات من الموظفين والتجار ورجال الأعمال المتحدر معظمهم من ولايات غيـر زراعية؛
  • تتراوح مساحة قطعة الأرض الممنوحة للمزارع المحلي بين 0.25 و0.5 هكتار، بينما يبلغ متوسط تلك الممنوحة للموظف أو رجل الأعمال 200 هكتار 3.

صراع قديم على الأرض

ليس هذا التفاوت وليد تطورٍ حديثٍ للبلد، بل يمد جذوره في تاريخه الاقتصادي والاجتماعي. فالأرض محط صراع تاريخي بين كبار المُلاك العقاريين وتجار الحواضر وموظفي الاستبداد من جهة، وفقراء المزارعين الذين يشكل الحراطين نسبتهم الأغلب. ففي ستينيات القرن العشرين، وبفعل اشتداد الجفاف وتفاقم الأزمة الاقتصادية، تغيرت نظرة الملاك للأرض، “وبدأوا بوضع يدهم عليها على أساس أنها جزء من ممتلكاتهم، وأن ملكية الأرض في موريتانيا كانت للقبائل. ولم يكتفوا بذلك بل ادعوا ملكية مَن عليها من بشر وقالوا إنهم عبيد لهم. هذا في حين كانت علاقة هؤلاء المالكين بأرضهم في السابق تقتصر على زيارات موسمية من أجل جمع المحاصيل باسم الزكاة، وكانوا يترفعون على مهنة الزراعة” 4. وفي نفس الوقت، بدأت نضالات الفلاحين-ات التي فرضت إصدار “قانون الإصلاح الزراعي سنة 1983 الذي ألغى ملكية القبائل للأراضي ووزعها على المواطنين دون تمييز وجعل السلطة الإدارية صاحبة الاختصاص في الفصل في الخلافات العقارية الجماعية”. لكن مالكي الأرض والأسياد استطاعوا استرجاع ما فقدوه، حين تمكنوا من “استصدار تعميم، سنة 1986، يفرض على ممثلي الإدارة المحلية العمل على تمكين كبار المالكين من الاستحواذ على مساحات تفوق تلك التي كان مسموحاً تملّكها في القوانين السابقة” 5.

هجوم الرأسمال العالمي والخليجي

من أهم ركائز مفهوم “الأمن الغذائي”، الذي تبنته القوى الرأسمالية العالمية ودول الخليج، الاستحواذ على الأراضي (عبر شرائها أو نزعها) لتأمين الغذاء لبلدانها الأصلية. وتُعد موريتانيا وجهة مفضلة، خاصة لدى رأس المال الخليجي.

تعتبر ملكية الأرض إحدى جبهات هجوم الرأسمال العالمي، فتحت عنوان إصلاح البنيات العقارية لتشجيع الاستثمار تجري عمليات واسعة من الاستيلاء على الأراضي وما تحتوي من موارد. وغالبا ما يغلف البنك العالمي هجماته بعبارات خادعة مثل: “ضمان توزيع الأراضي بمزيد من العدالة والإنصاف 6.

يتعلق الأمر بمساحات كبيرة جدا من الأراضي، كما جاء في تقرير للمكتب الدولي للاستشارات موَّل إعداده الاتحاد الأوروبي في أبريل 2016: “الاستيلاء على الأراضي أصبح ظاهرة تثير اهتمام مستثمرين أوروبيين وبعض دول الخليج وأفريقيا التي تحاول عبر وساطة موريتانيين الحصول على مساحات قد تصل إلى 30 ألف هكتار 7.

الاستحواذ على الأرض

عقدت موريتانيا أهم شراكة اقتصادية لها مع تحالف الراجحي السعودي عبر مذكرة تفاهم تعهد التحالف بموجبها باستثمار ملياري دولار في مشروع زراعي ورعوي وآخر لتربية الأسماك وتحويلها بعد إبرام إيجار حصري لقطعتي أرض في ولايتي اترارزة ولبراكنة.

وقد موهت الحكومة والشركة نية الاستحواذ برداء العمل الخيري والإحساني. إذ صرحت الحكومة بأن الراجحي سينجز مشروعًا خيريًا لمساعدة سكان المنطقة، وسيوفر محاصيل مهمة مثل القمح والذرة الشاكية وبعض صنوف الحبوب الأخرى والخضروات لسد النقص الغذائي.

لكن ما وقع هو العكس تمامًا، وبشهادة سكان المنطقة ذاتهم. إذ صرح “أحمد ولد بازيد، أحد مزارعي منطقة شمامة، أن هذه المشاريع أوقفت الحياة في المنطقة، وفرقت العوائل، ومنعت الفلاحين من الاستفادة من الأراضي الخصبة، ومنعت المراعي عن مربي الماشية ما اضطرهم إلى قطع مسافات طويلة من أجل إيجاد مراع جديدة 8.

واتضح أن هذه الشركة تفاقم معضلة انعدام السيادة الغذائية في موريتانيا. ففيما تستورد موريتانيا جزءً مهما من غذائها، تتخصص هذه الأراضي في زراعة منتوجات للتصدير إلى السوق الأوروبية، وهذه حالة فاكهة “التوت الأزرق” إلى بريطانيا، حيث تستثمر فيه الشركة الإماراتية “إيليت أغرو”، ما أثار اعتراضا كبيرا في وسائل الإعلام الموريتانية. إذ كتب المدوّن شيخاني الشيخ: “موريتانيا صدّرت أحد أنواع الفاكهة المسمى التوت الأزرق، لكن ليس هذا مربط الفرس. السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف لدولة أن تصدّر منتجاً مهما كانت أهميته أو تفاهته وهي تستورد تقريباً ثلثي حاجاتها من المواد الغذائية من الخارج؟ أليس هذا مضحكاً ومثيراً للسخرية؟!” 9

كما تعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة أحد الفاعلين الرئيسيين في ميدان الاستحواذ على الأراضي في موريتانيا، حيث كشفت “أرقام واحصاءات موريتانية رسمية معلنة ابتلاع شركات إماراتية لعدد كبير من الأراضي الحكومية، زاد خلال الخمسة أسابيع الأخيرة [يونيو 2018- التاريخ من عندنا] عن عدد الأراضي التي وزعتها الحكومة الموريتانية خلال عام 2017 كله”10.

رفض واحتجاج

أثار اتفاق الحكومة وشركة الراجحي السعودية ردودَ فعل واسعة في مناطق الضفة رغم تبريرات الحكومة بمساعيها الرامية لجذب الاستثمار الخليجي خصوصا، فقوبل الاتفاق برفض واسع من السكان، واتهموا الحكومة بالسعي إلى الاستحواذ على أراض مملوكة بحيازة تقليدية. فنظموا احتجاجات في تلك الأراضي، وأمام المقرات الحكومية والرئاسة للضغط من أجل التراجع عن “منح أراضي الفقراء” حسب تعبيرهم.

تواجهت الدولة وسكان قرى دار البركة وولد بيرام ودار العافية وشمامة، حول حق ملكية الأرض، بعد توقيع اتفاقية عام 2013 مع شركة الراجحي السعودية لاستصلاح أراض جنوب البلاد وزراعة القمح والذرة الشامية وأنواع متعددة من الخضراوات. صرح أحمد ولد بازيد، أحد مزارعي منطقة شمامة قائلا: “أغلب هذه الأراضي تعود ملكيتها لفقراء يعملون في الزراعة وهذه الأرض هي مصدر دخلهم الوحيد”، وتوقف المشروع بعد “الاحتجاجات التي قام بها السكان ورفضهم الترخيص لشركات أجنبية بالاستثمار في أراض تعود ملكيتها لفقراء يعملون في الزراعة وهذه الأرض هي مصدر دخلهم الوحيد”11.

كما تفجر نضال سود جنوب شرق موريتانيا ضد صفقة بين الدولة والهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي سيجري بموجبها إيجار3200 هكتار من الأراضي الزراعية بولاية لبراكنة لصالح الهيئة المذكورة مقابل 500 دولار للهكتار الواحد. قام سكان القرى المستهدفة- وأغلبهم من السود- بتأسيس تنسيقية للدفاع عن أراضيهم، وما أشعل غضبهم “هو طلب ممثل السلطات الموريتانية بمدينة بوكي إثبات ملكيتهم لتلك الأراضي، الشيء الذي اعتبروه محاولة لإشغالهم من أجل القيام بعملية تفويت الأراضي لمستثمرين خليجيين. وقد تعهد بعض سكان الجنوب الموريتاني باستعمال القوة لو استدعى الأمر للدفاع عن حوزته من أراضي، منذ عهد أجدادهم”12.

وفي أغسطس/ آب العام 2020، تظاهر حوالي 9200 فلاح يسكنون منطقة براكنة في دار البركة جنوب موريتانيا ضد تنازل الدولة عن أراضيهم المزروعة بالحبوب لمستثمر عربي من الخليج. منذ العام 2015، حصل المستثمر، الذي دخل في شراكة مع رجال أعمال موريتانيين، على تصريح أرض لتطوير مساحة 3200 هكتار من الأراضي الزراعية.

النضال من أجل الأرض في صلب السيادة الغذائية

يندرج حق صغار المزارعين والرعاة في الأرض ضمن نضال أوسع، وهو النضال من أجل السيادة الغذائية. فاستحواذ المستثمرين الأجانب على الأرض يوجه منتوجها نحو الخارج، بينما يرتهن سد حاجات سكان البلد بالاستيراد.

يتيح مفهوم السيادة الغذائية- ضمن برنامج أعم للتغيير من وجهة نظر من هم في أسفل المجتمع- إمكانية “تنمية” تلبية الحاجات الاجتماعية لسواد سكان البلد الأعظم، والحفاظ على البيئة في الآن ذاته. “إن السيادة الغذائية هي حق إنساني للشعوب أفرادا وجماعات في تحديد نظامهم الغذائي. وهذا يعني العمل مع الطبيعة وحماية مواردها لإنتاج غذاء صحي كاف يتلاءم مع الموروث الثقافي مع إعطاء الأولوية للإنتاج المحلي والمواد الغذائية الأساسية والقيام بالإصلاحات الزراعية الشعبية وضمان حرية الحصول على البذور وحماية المنتوجات الوطنية وإشراك الشعوب في بلورة سياستها الفلاحية. كما أن السيادة الغذائية مرتبطة بحق تقرير مصير الشعوب على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. كما ترتبط بإحداث قطيعة مع الدوائر الإمبريالية والمؤسسات المالية والتجارية الدولية، والنضال ضد الأنظمة والحكومات التي تنفذ هذه السياسات لصالح الرأسمال العالمي والمحلي. وللأسف، تم تقويض هذه السيادة في منطقة شمال إفريقيا. وكانت البداية مع الفترة الاستعمارية، ثم تواصلت وتدعمت بسبب السياسات الاستعمارية الجديدة ذات النهج الاستنزافي تحت مسميات التنمية”13.

علي أموزاي – المغرب

  • المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثاني من مجلة ” سيادة
  • الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط

مراجع

  • 1- موقع الاتحاد المغاربي وشمال إفريقيا للفلاحين، اتحادية المزارعين الموريتانيين
  • 2- “ملكية الأرض في موريتانيا، أبعادها الاجتماعية والسياسية، دراسة في النصوص الفقهية والوقائع”، يحيى بن البرّاء، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس- السويسي، الرباط- المغرب، الطبعة الأولى 1999، صفحة 148.
  • 3- “صراع الأسياد والعبيد على الأرض الزراعية في موريتانيا”، أحمد ولد جدو، https://raseef22.net، 24 مايو 2016.
  • 4- المرجع نفسه
  • 5- المرجع نفسه
  • 6- المرجع نفسه، صفحة 9
  • 7- “خريطة منظمات المجتمع المدني في موريتانيا ما بين فترتي تنفيذ الصندوق الأوروبي الأ 10 والـ 11، العقد الإطار رقم 368831- 2015″، أبريل 2016، مكتب الدراسات ICE- GEIE، بروكسيل- بلجيكا.
  • 8- “مشاريع استصلاح الأراضي في موريتانيا تثير غضب المزارعين والقبائل”، خديجة الطيب، موقع العربي الجديد، 18 يونيو 2017.
  • 9- “تصدير التوت الأزرق إلى بريطانيا يثير جدلاً في موريتانيا”، أقريني أمينوه، https://www.independentarabia.com، 4 أبريل 2019.
  • 10- “الإمارات تبتلع أراضي موريتانيا بالتعاون مع فاسدين “، http://el-ain.com/index.html، 06 يونيو 2018.
  • 11- “مشاريع استصلاح الأراضي في موريتانيا تثير غضب المزارعين والقبائل”، خديجة الطيب، موقع العربي الجديد، 18 يونيو 2017.
  • 12- “سكان الجنوب الموريتاني يهددون بحمل السلاح ضد الدولة!”، https://machahid24.com، 11 مارس 2015.
  • 13- “الأرضية التأسيسية لشبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية”، صودق عليها بالإجماع في الجمعية العامة للشبكة المنعقدة بأكادير (المغرب) أيام 7 و8 و9 دجنبر 2018..

علي أموزايAuthor posts

عضو جمعية أطاك المغرب/ الشبكة الدولية لإلغاء الديون غير الشرعية، وشبكة سيادة.