افتتاحية سيادة العدد الرابع: البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وسيادتنا الغذائية



على مدار العقود الأربعة الماضية، صمّم صندوق النقد الدولي والبنك العالمي حزمة من السياسات “النيوليبرالية” لتطبيقها على بُلدان المنطقة العربية/شمال أفريقيا/ الشرق الأوسط، جاء على رأسها تحرير قوى السوق من تدخلات الدولة التي كانت تلعب دورًا مركزيًا في الاقتصاد، وخصوصًا في الزراعة، وكانت أبرز هذه الآثار هي دمج عنيف للريف في علاقات الإنتاج الرأسمالية، والتخفيض الحاد للدعم المُقدَّم إلى الزراعة، والتحوُّل من الإنتاج الزراعي، بهدف توفير الاحتياجات المحلية، إلى الإنتاج من أجل التصدير، أي باختصار: تقويض الزراعة المعاشية / الأسرية.

ظهرت نتائج هذه السياسات في إدماج – بدأ منذ الاستعمار- اقتصادات المنطقة  في الاقتصاد العالمي من موقع التابع المَنُوط به تلبية احتياجات السوق الرأسمالية العالمية، عبر التركيز على زراعة المحاصيل الأُحادية، والالتزام بمتطلبات الذوق العام الغربي 1.

في الوقت نفسه دافعت الشركات متعددة الجنسيات عن تلك السياسات وساهمت في إقرارها بقوة الدول ومنظوماتها التشريعية والتنفيذية، بحكم انحياز “النيوليبرالية” إلى المزارع الرأسمالية التي استنزفت الموارد البيئية، من أرض وماء، في مواجهة المزارع الأُسَرية، وكسبت تلك الشركات الجولة ضد الفلاحين/ات، بفضل امتلاكها الرأسمال والنفوذ والأدوات التي تساعدها على التحكُّم في الإنتاج والتسويق.

وكانت أداتها العلمية الأهم تتمثل في تقنية الهندسة الوراثية، حيث تمكنت الشركات الكُبرى، وبالتحديد من خلال حقوق الملكية الفكرية، من السيطرة على البذور ووضع الفلاحين تحت رحمتها، إذ لا يمكن للفلاح/ة إعادة إنتاجها2، فتحوَّل الفلاحون/ات إلى مستهلكين/ات للبذور المُكلِّفة التي تُدمِّر التنوع الحيوي في الأخير، على الرغم من المقاومة الجزئية لذلك السلاح الرأسمالي3.

ظهرت نتائج هذه السياسات في إدماج اقتصادات المنطقة  في الاقتصاد العالمي من موقع التابع المَنُوط به تلبية احتياجات السوق الرأسمالية العالمية

وهكذا تُغلَق دائرةُ الحصار على الفلاحين/ات بين تخفيض استثمارات الدولة ورفع الدعم وإلغاء الحماية الجُمركية للسلع الزراعية في منطقتنا من جهة، وسيطرة الشركات الرأسمالية على أدوات الإنتاج الزراعي من جهة أخرى، وكانت المحصلة مزدوجة: أولًا تحويل جزء كبير من فلاحي- ات المنطقة إلى عمال- ات زراعيين- ات لدى الشركات الزراعية الكبرى، ثانيًا: دمج شعوب المنطقة في السوق الرأسمالية العالمية من موقع المُنتِج المنهوب والمُستهلِك السلبي بالتبادل.

وفي خضم هذا، يموِّل كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي مشاريع زراعية رأسمالية استخراجية ذات بعد تصديري تُعمِّق المديونية في بلداننا (تونس ومصر والمغرب ولبنان.. إلخ)، ما يعني استنزاف المالية العمومية، ومصادرة “السيادة الوطنية”، والضغط على النفقات الاجتماعية وتعميق سياسات التقشف التي يدفع ثمنها صِغار منتجي/ات الغذاء من الفلاحين ومربي الماشية وعمال  الزراعة، فيما تأتي النساء في مقدمة ضحايا هذه السياسات “النيوليبرالية” القاسية.

وتتيح تمويلات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي إمكانية الاستحواذ على الماء والبذور، وأيضًا على الأراضي الزراعية، لإقامة المشاريع الكُبرى على حساب المنتجين- ات الحقيقيين للغذاء، بما لذلك من آثار بعيدة المدى على استدامة التُربة والماء والطاقة، علاوةً على ما تتضمنه اتفاقيات التبادل الحُر من شروط استعمارية جديدة مثل فتح الأسواق المحلية أمام غزو المنتوجات الفلَّاحية الأوروبية والأمريكية. 

فبالتوازي مع التأثير المدمِّر للمزارع الكبيرة على أسلوب الإنتاج الفلاحي والسيطرة على أراضي الفلاحين- ات، انتشرت سلاسل السوبر ماركت العالمية، التابعة للشركات المالكة للمزارع الكبيرة نفسها، في كل ركن من أركان المنطقة، وجمَّعت حولها جمهورًا من مستهلكي الطبقة الوسطى، مزيحة التاجر الصغير من طريقها، ومن خلفه المزراع الصغير.

ولا يقتصر التخريب على الجوانب السياسية والاجتماعية، إذ أضرت تلك السياسات بالبيئة على نحو كارثي، وتسببت في إجهاد حاد للتُربة الزراعية، وبسبب الاعتماد على الوقود الأحفوري في كافة مراحل الإنتاج والنقل، ساهمت إلى حد خطير في ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي للأرض.

من أجل تعريَّة هذه السياسات والكشف عن آثارها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية… يأتي هذا العدد الرابع من مجلة سيادة، بالتزامن مع عقد المؤسستين الماليتين صندوق النقد الدولي والبنك العالمي اجتماعهما لسنة 2023 في المغرب بمدينة مراكش في شهر أكتوبر، بينما تمثل هذه الاجتماعات فرصة للحركات الشعبية وقوى النضال الاجتماعي من أجل التشهير بآثار سياسات هذه المؤسسات على مستقبل الفِلاحة في المنطقة العربية وشمال إفريقيا والشرق الأوسط، وما تغرسه من بذور التبعية والارتهان بالسوق العالمية وتدمير الفلاحة المحلية.

وإذ تتراجع شعبية الزراعة الرأسمالية في كل مكان، وتنمو المقاومة ضدها ببطء، لكن باستمرار، من قِبَل الفلاحين- ات، أصبح جشع الشركات الرأسمالية معروفًا على نطاق كوكبي ومحل إدانة في كل مكان. وبين ذلك التراجع لنمط إنتاج كارثي والمقاومة شبه الصامتة، تزداد الحاجة إلى تعميم مفاهيم السيادة الغذائية ونشر ثقافتها، ليس فقط بين منتجي/ات الغذاء المُهمشين- ات في العمليات الإنتاجية، بلْ وبين المستهلكين- ات أيضًا، نحن جميعًا متضررون- ات من هذا النمط، وعلينا التَّجمُع لوقف الاستغلال الرأسمالي للعلم، وضد سلب شعوبنا سيادتها على غذائها ومواردها.

تمثل هذه الاجتماعات فرصة للحركات الشعبية وقوى النضال الاجتماعي من أجل التشهير بآثار سياسات هذه المؤسسات على مستقبل الفِلاحة في المنطقة

فالسيادة الغذائية حق إنساني للشعوب أفرادًا وجماعاتٍ في تحديد نظامها الغذائي، وهذا يعني العمل مع الطبيعة وحماية مواردها لإنتاج غذاء صحي كافٍ يتلائم مع الموروث الثقافي، مع إعطاء الأولوية للإنتاج المحلي والمواد الغذائية الأساسية والقيام بالإصلاحات الزراعية الشعبية وضمان حرية الحصول على البذور وحماية المنتوجات الوطنية وإشراك الشعوب في بلورة سياستها الفلاحية.

  • هيئة تحرير مجلة سيادة
  • علي أزناك – محمد جبريل

المقال أعلاه هو افتتاحية مجلة سيادة – العدد الرابع: “هذا من عمل البنك والصندوق.. 40 عامًا من التخريب النيوليبرالي لسيادتنا الغذائية“.

يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط


مراجع

  1. نحو انتقال عادل في القطاع الزراعي بشمال إفريقيا، صقر النور، موقع شبكة سيادة.
  2. حروب الغذاء.. صناعة الأزمة، والدن بيلو، ترجمة خالد الفيشاوي، المركز القومي للترجمة 2012.
  3. عيش مرحرح.. الاقتصاد السياسي للسيادة على الغذاء في مصر، محمد رمضان وصقر النور، منشورات صفصافة، 2021.

علي أزناكAuthor posts

باحث ومنسق شبكة سيادة.