الاستعمار وجذور التبعية والتسرب الاقتصادي الأوروبي
على مدار قرن ونصف، مثَّل التوسع الرأسمالي بمنطقة المغرب الكبير حاجة أساسية للقوى الأوربية، من أجل خلق أسواق جديدة، والاستحواذ على المواد الأولية واستغلال الأيدي العاملة الزهيدة.
من هنا جاءت السياسات الاستعمارية التي تُمثِّل ذروة تطور الاقتصاد الرأسمالي الغربي. فلمعالجة أزمات القوى الأوروبية، سواء الناتجة عن فائض الإنتاج الصناعي، أم البحث عن مصادر المواد الأولية، يجب أنْ تتمدد رؤوس الأموال للمناطق التي لم تبلغ مراحل التطور الرأسمالي، والتي سعت القوى الاستعمارية إلى الوصول إليها.
السوق هي الكلمة السحرية للإيديولوجيا الأمبريالية، ومنذ القرن التاسع عشر، ومع بدايات الغزو الفرنسي لتونس، استغلت القوى الغربية، بخاصة فرنسا، إضافةً للقوى الأوروبية الأخرى أزمات البلاد المُتمثَّلة في عجز الميزانية والذي أدى إلى انتفاضات اجتماعية- لم يُكتب لها النجاح- خاضها ساكنو المناطق الداخلية بالبلاد ضد التحالفات التي نشأت بين رؤوس الأموال الأوروبية والبرجوازية التونسية.
ونتج عن تلك التحالفات استفحال التّسرب الاقتصادي والمالي عبر الاتفاقيات والقوانين التي فرضتها الدول الأوروبية للحصول على امتيازات جِبائية، وما كرَّسته آنذاك من عجز في تسديد الديون الأوروبية، لجرِّ البلاد إلى فخ الاستعمار الفرنسي لتنمية تراكم رأس المال وسلب الموارد.
السوق هي الكلمة السحرية للإيديولوجيا الأمبريالية، ومنذ القرن التاسع عشر، استغلت القوى الغربية، أزمات البلاد المُتمثَّلة في عجز الميزانية والذي أدى إلى انتفاضات اجتماعية-خاضها ساكنو المناطق الداخلية بالبلاد.
يأتي ذلك كله ضمن نفس سياسات الهيمنة التي ترى في المجتمعات المُستعمَرة مجتمعات متخلفة وغير قادرة على إدارة شؤونها، وبالتالي تحتاج إلى الاستعمار من أجل تطويرها وفق متطلبات ومنطق رأس المال الأوروبي.
هكذا فُرض الاستعمار عبر اتفاقية الحماية في عام 1881، ودُشّنت مرحلة جديدة من السطو الأمبريالي بعد حصول تونس على استقلالها، ومع ذلك لم تنتهِ الهيمنة الفرنسية بل سعت لتجديد آلياتها.
إعادة إنتاج سلب السيادة عبر الديون
تُمثِّل القروض إلى اليوم إحدى آليات الاستعمار الجديد، وهو ما عرفته البلاد خلال مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، ليستمر اقتصاد العلاقات الاستغلالي.
يستفيد المنطق الرأسمالي الغربي من الأزمات والثورات والأوبئة، وهو الذي استعمل كل هذه الظروف كآليات لحروب الهيمنة المتواصلة. وقد عاشت تونس منذ أواخر سنة 2010 على وقع ثورة طرحت مراجعة نمط الهيمنة الرأسمالية الخارجية واستهدفت التحالفات القائمة بينها وبين “البرجوازية الوطنية”.
أدَّت الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي خلَّفها الالتفاف على الثورة من قِبَل القوى الاقتصادية المُتضررة من المسار الثوري. وحافظت تلك القوى على علاقات متبادلة مع رؤوس الأموال الأوروبية لإعادة إنتاج نمط الهيمنة الرأسمالي.
استعادت القوى الأوروبية تدخلاتها السياسية والاقتصادية نتيجة الأزمات المتواصلة واستفادت من نتائجها، كما عزَّزت الآثار المترتبة عن فيروس كورونا من حضورها، وليست أول مرة، فقد نجحت الأمبريالية الأوروبية من قبل في استغلال ظروف الأزمة واندلاع انتفاضة الخبز في عام 1983.
وفي الوقت الذي فشلت فيه السياسات الحكومية التي دفع صندوق النقد الدولي إليها البلاد من أجل رفع الدعم، ولم تحقق أيًا من وعود التنمية وفق النموذج الليبرالي لسياسات النمو، هدفت القروض التي تلقتها الحكومات إلى فرض إصلاحات هيكلية تؤدي إلى تعميق التحولات النيوليبرالية للاقتصاد التونسي، وتنمية التبعية بدايةً من عام 1986 عبر برنامج الإصلاح الهيكلي.
اعتمدت تلك التحولات النيوليبرالية منذ الثمانينيات على أولوية السوق، ودعْم القطاع الخاص عـلى حساب القطاع العام، والتحيّز إلى الخصحصة على حساب خطـط التنمية العمومية التي سعت دول الجنوب إلى إرسائها بعد الاستعمار، فيما سعت مؤسسات التمويل الدولي إلى تأسيس اقتصاد قائم على تنمية الصادرات عِوَضًا عن بناء اقتصاد يستجيب إلى الحاجات الداخلية.
الاستفادة من أزمات التبعية: “الأليكا” واستمرارية المشروع الاستعماري الجديد
مع انتهاء برنامج صندوق النقد الدولي في تونس خلال عام 1992، استأنف البنك الدولي تقديمَ قروض لدعم برنامج الإصلاح الهيكلي بين عامي 1992 و1996، وحافظت توصيات البنك الدولي على نسق الخصخصة، لتأتي سنة 1995 بتوقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، بهدف إزالة الحواجز الجمركية للتجارة بـين تونـس ودول الاتحاد الأوروبي في المنتجات الصناعية وبعض منتجات القطاع الفلاحي(1).
تُمثِّل القروض إلى اليوم إحدى آليات الاستعمار الجديد، وهو ما عرفته البلاد خلال مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، ليستمر اقتصاد العلاقات الاستغلالي.
وتواصلت المفاوضات لتشمل عددًا من الجولات خلال أعوام 2000 و2004 و2006، وكان الهدف منها استكمال إزالة كل الحواجز الجمركية التي تقف عقبةً نحو الاستغلال الأمثل للاقتصاد التونسي من طرف الشركات الأوروبية.
إلَّا أنَّ المفاوضات تعطلَّت آنذاك، لاعتراض الجانب التونسي(2)، ليعود الاتحاد الأوروبي في عام 2019 ليُقدِّم العرض نفسه، لكنْ مع خطة أكبر لاستغلال الفِلاحة التونسية بشكل كامل، وذلك عبر تحرير المنتجات الفَلَّاحية، سواء المنتجات الخام أو التحويلية، وهو ما سيُطلق عليه اتفاق “التبادل الحر والمُعمَّق والشامل” (أليـكا)، الذي يُعنىَ بجملة من القطاعات مثل الفِلاحة ومصائد الأسماك والخدمات والتنمية المُستدامة، بالإضافة إلى الخدمات والتجارة والصفقات العمومية والملكية الفكرية.
استغلت برامج التمويل الدولي الارتباكَ السياسي الذي خلَّفته الثورة وغياب أي إرادة سياسية حاسمة في القطع مع الإيديولوجيا النيوليبرالية المُهيمِنة، لتُقدِّم حزمة من السياسات تهدف إلى استكمال مسار الخصخصة والتحرير الاقتصادي وفتح السوق التونسية أمام الاتحاد الأوروبي، وهي المساعي نفسها التي عَمِدَ إليها صندوق النقد الدولي، ففي عام 2013 وقَّعت البلاد قرضًا مع الصندوق على وقع اللأزمة السياسية التي تمرُّ بها البلاد، وفي عام 2015 بدأت المفاوضات حول “الأليكا” لتستمر لأربع سنوات في ظروف تعمَّقت فيها الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعيشها البلاد لتتعطل عام 2019.
تُعَمِّقُ مقاربة مؤسسات الإقراض الدولي، والمُقرضِين بشكل عام، من تبعية الاقتصاد التونسي، وتؤدي إلى تأبيد ديون تونس وهيمنة الاتحاد الاوروبي والمؤسسات المالية الدولية على السياسات العمومية.
فكانت النتيجة المباشرة للسياسات الناتجة عن توصيات مؤسسات التمويل الدولي وعروض الاتحاد الأوروبي، تتمثل في ارتفاع الدين العام الخارجي من 40.7% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 ليبلغ 63.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، لتفقد الحكومات المتعاقبة، أكثر فأكثر، قدرتها على التصرُّف بشأن القرارات السياسية والاقتصادية، بسبب هـذا الدَين الذي ما فتئ يتصاعد(3) حتى وصل إلى 81% من الناتج المحلي الخام خلال عام 2021(4).
“الأليكا” والتراكم عبر سلب الموارد الطبيعية
في اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي التي دخلت حيز التنفيذ عام 1996، استُثنيت الفِلاحة من بنود الاتفاق، ولم تُدرج في الاتفاقية سوى بعض المنتجات الفَلَّاحية مثل زيت الزيتون والخضروات والغِلال، فيما بقيت بعض القطاعات الاستراتيجية مثل الحبوب والأعلاف خارج نطاق الاتفاقية(5).
تستهدف “الأليكا” منذ عام 2015 إدراج القطاع الفلاحي في مسار التحرير الاقتصادي، وتأتي النزعة الأوروبية في إمضاء اتفاقات ثنائية في إطار محاولات القوى الأوروبية المتنفّذة في المحافظة على مصالحها في سياق الهيمنة عبر توسيع حدود تراكم رأس المال والسـيطرة الأمبريالية.
إذ تسعى القوى الاقتصادية إلى إيجاد مجالات جديدة أمام منتجاتها، من أجل غزو الأسواق التي تقع خارج حدودها، كما تسعى القوى المتصارعة إلى الوصول للموارد عبر العالم، فالاتحاد الأوروبي يعمل على تنفيذ استراتيجية تحرير الاقتصاد بالمتوسط، أما الصين فتسعى إلى إيجاد شركاء أيضًا ضِمن مشروعها “طريق الحرير الجديدة”، بينما تمثل دول جنوب المتوسط- بشكل عام- هدفًا للقوى الاقتصادية الكُبرى التي تتنافس على فرض هيمنتها التجارية على الأسواق العالمية(6).
ويمثل المجال الفَلَّاحي إحدى أهـم مجالات العـرض الأوروبي في مفاوضات “الأليكا”، وتكتسي الفِلاحة أهميةً بالنسبة إلى الاقتصاد التونسي، إذ تساهم بنحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي، و13% من قيمة الصادرات، و15% من حجم اليد العاملة، و45% من قوة العمل الريفي(7).
ويشمل الجانب المتعلِّق بالفِلاحة في “الأليكا” أساس انفتاح الاستثمار الفَلَّاحي عبر إلغاء كل السياسات الحِمائيَّة والتعريفات الجمركية، فضلًا عن تبنِّي تونس للقواعد والإجراءات الأوروبية الموحدة والمعاهدات المعنية بالبيئة والعمل(8).
وبذلك يضع هذا الاتفاق السياسة التونسية على ذمة صانع القرار الأوروبي الذي يصبح صاحب السيادة التشريعية والإجرائية، فالموافقة على الاتفاقية تعني الالتزام بكل شروطها، وأي مخالفة لذلك، أو تعارض مع مصالح المستثمرين، سيُعدُّ إخلالًا بالالتزامات المُبرَمة، وهو ما يُعرِّض الدولة إلى المساءلة القانونية وفق الشروط الأوروبية، وذلك عبر اللجوء إلى التحكيم الدولي عِوَضًا عن القضاء الوطني، والذي يتيحه هذا الاتفاق بالنسبة للمستثمرين الأوروبيين.
وبعد تعرقل المفاوضات حول “الأليكا” خلال عام 2019، في أثناء حكومة يوسف الشاهد، بسبب اعتراض بعض الأطراف السياسية التونسية، أرسل الاتحاد الأوروبي في يونيو من العام الجاري وفدًا رفيعًا إلى تونس، ضمَّ رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، ورئيسي وزراء كل من هولندا وإيطاليا، مارك روته، وجورجيا ميلوني، لاستكمال التفاوض مع رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد، على “حزمة شِراكة شاملة”، كمحاولة لفرض صيغة “شراكة” جديدة تحيل على نفس آليات تكريس التبعية الاقتصادية والسياسية للاتحاد الأوروبي، والتي قدَّمتها “الأليكا”، ما يشي بأن الاتحاد الأوروبي لن يتراجع عن فرض هذه الاتفاقية الجائرة على تونس(9).
بِنيَّة الفِلاحة التونسية: تحديات مناخية وتبعية للاتحاد الأوروبي
تتميز الفِلاحة في تونس ببِنيَّة هشَّة وتتعرض لتحديات مناخية مصيرية، حيث يعتبر الجفاف أحد المخاطر الحالية بما يحدُّ من القدرات الإنتاجية للفِلاحة وفق النموذج التصديري الذي تدعمه المؤسسات المالية العالمية، ومنه على سبيل المثال قيام البنك الدولي بتقديم التمويل اللازم لتصنيع مركب لتجميع ونقل مياه الأمطار من أقصى الشمال التونسي إلى الوطن القبلي، لدعم غراسات البرتقال الموجه لتصدير.
تتصدر تونس قائمة الدول المُهددة بخطر الفقر المائي، كما أنَّ مُعدَّل الموارد المائية مقارنةً بعدد السكان يبلغ 460 مترًا مكعبًا للشخص الواحد في العام، في حين أنَّ المعدل العالمي هو 1000 متر مكعب للشخص الواحد.
ويجيء هذا ضِمن سياسة إخضاع الاقتصاد التونسي لحاجيات السوق الدولية، ولمقتضيات التجارة الحرة دون أي مراعاة لمصالح التونسيين ولا التحديات الكُبرى التي تواجه الزراعة التونسية(10)، إذ تتصدر تونس قائمة الدول المُهددة بخطر الفقر المائي، كما أنَّ مُعدَّل الموارد المائية مقارنةً بعدد السكان يبلغ 460 مترًا مكعبًا للشخص الواحد في العام، في حين أنَّ المعدل العالمي هو 1000 متر مكعب للشخص الواحد(11)، أي أنَّ الموارد المائية القليلة بدلًا من أنْ يتم الاستفادة بها في الداخل يجري تصديرها على شكل سلع فلَاَّحية.
وكذلك تبقى إشكالية أنَّ النفاذ إلى الموارد المائية ليس متاحًا بنفس الكيفية للجميع، قائمةٌ دون حل، فالوصول إلى الماء يظل مرتبطًا بهرمية اقتصادية وجغرافية داخل البلاد، وبخيارات النُخبة السياسية المنخرطة في علاقات مع مجموعات اقتصادية تمنحهم الأولوية والامتيازات، على حساب الفلاحين، وهو ما سنشير إليه لاحقًا.
تهديد حقوق صغار الفلاحين/ات عبر سياسات الربح الخاص
شهدت أيضًا مساحات المُستغلَّات الفَلَّاحية تحولات تهدد ديمومة النشاط الفلاحي، وخصوصًا تقلُّص مساحة الأراضي الزراعية، إذ تمثل المُستغلات الفَلَّاحية التي تبلغ مساحتها أقلّ من 5 هكتارات 54% من مجموع المستغلات، بينما تمثل 11% من مساحة الأراضي الفَلَّاحية فقط، أما المستغلات التي تبلغ مساحتها أقل من 10 هكتارات، فتمثّل 75% من المُستغلات، بينما تمثل 25% من مساحة الأراضي الفلاحية فقط، والمستغلات التي تتجاوز مساحتها 50 هكتارًا تمثّل 3% من المُستغلات الفَلَّاحية، وتستحوذ على 34% من مساحة الأراضي الزراعية(12).
وعلى الرغم من أنَّ صغار الفلاحين/ات يمثلون أغلبية، إلَّا أنهم لا يملكون إلاّ نسبة ضئيلة من مجموع الأراضي الزراعية، ويعيشون على واقع سياسات تؤثر سلبًا على نشاطهم، في ظل استثناء المناطق الريفية الأكثر إنتاجية من خطط التنمية والدعم والنفاذ إلى الموارد المالية، ومع اتفاق التبادل الحر والمُعمَّق، ستتأزم وضعيتهم وسيجدون أنفسهم مهددين بمغادرة القطاع الَفلَّاحي بشكل تام.
وعلى النقيض من ذلك، تدعم الاتفاقية كبار المالكين العقاريين والمستثمرين الفلاحيين الذين يستحوذون على أغلبية الأراضي، بفضل البرامج الاقتصادية التي اعتمدتها الدولة منذ الثمانينيات وتحيزت فيها السياسات العمومية إلى صالح المستثمرين، على حساب صغار الفلاحين، عبر عدة مؤسسات نافذة على رأسها وكالة تطوير الاستثمارات الفلاحية، والبنك القومي للتنمية، في وقتٍ سعت فيه النُخبة الاقتصادية إلى التمدد من القطاع الصناعي لتوظيف أرباحها في القطاع الفلاحي، ما ساهم في إعادة إنتاج الهيمنة الاقتصادية للنُخب الاقتصادية المدينية على حساب الريف(13).
وتزامن ذلك مع تفاقم مديونية متوسطي وصغار الفلاحين/ات، ولا توجد دراسة مُعمَّقة حول ديون صغار الفلاحين/ات بشكل خاص، كما أشارت دراسة مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية(14)، لكن بالعودة إلى ديون الفلاحين/ات لدى البنك الفلاحي، نجد أن ديون الفلاحين/ات الذين يستغلون 23 بالمائة من المستغلات الفلاحية تمثل 43 بالمائة، و73 بالمائة منهم من صغار الفلاحين/ات تقل ديونهم عن 4000 دينار(15).
في خضم هذا، يجري تجاهل أنَّ هناك حالة من عدم التماثل بين القطاعين في تونس وأوروبا، ففي تونس تمثل الفِلاحة 8.9% من الناتج الداخلي الخام، بينما تقتصر على 1.9% منه في الاتحاد الأوروبي، والشيء نفسه بالنسبة للصادرات، فنجد أنفسنا في مواجهة اختلال شديد في التوازنات، فقيمة الصادرات بين تونس والاتحاد الأوروبي تبلغ ثمانية وعشرين مرةً ضعفها في تونس، بالنسبة إلى الزيوت النباتية والخُضَر والغِلال، وذلك للفوارق الكمية بين السوق الأوروبية والتونسية.
كما يهيمن الاتحاد الأوروبي على الصادرات الفلاحية التونسية، إذ تذهب 49.9% من الصادرات التونسية إليه، بينما تتوجه 0.7% فقط من صادرات الاتحاد إلى تونس(16)، كما تتفوق الفِلاحة الأوروبية بما تتحصل عليه من دعم عمومي من الحكومات في إطار “السياسية الفلاحية المشتركة الأوروبية”، وتبلغ قيمة الدعم المباشر وغير المباشر في أوروبا 700 أورو للهكتار في السنة، وفي تونس لا تتجاوز 40 أورو(17).
ويُضاف إلى ذلك أنَّ أغلبية الدعم العمومي للفِلاحة في تونس يذهب إلى كبار المالكين العقاريين والمستثمرين الزراعيين، حيث توفر الدولة التسهيلات التشريعية والإجرائية، وذلك وفق سياسة تصديرية يستفيد منها المستثمرون أساسًا، كل ذلك على حساب الفِلاحة المعيشية وحقوق صغار الفلاحين/ات في النفاذ للأرض والمياه، لتأتي “الأليكا” بمزيد من التهديد لوجود صغار الفلاحين/ات، ليصبحوا بدون أرض وأُجراءً ذا قيمة رخيصة يستفيد منها المستثمرون.
الاستثمار المحلي والأوروبي: استنزاف الموارد والحقوق
تخدم السياسة العمومية التونسية الاستغلال الرأسمالي للأرض وتفتح الأراضي الدولية الفلاحية أمام المستثمرين التونسيين والأجانب، وفي سيدي بوزيد نجد مثالين على تطبيق هذه السياسة، إذ تنازلت الدولة للمتسثمرين عن ضيعتين دوليتين هما “الاعتزاز2″، و”الاعتزاز 3″، الأولى جرى منحها لمستثمر يزرع فيها شجرة “الجوجوبا” الموجهة كُليًّا إلى التصدير والمُستعملة في مواد التجميل، أما الثانية فسوغت إلى مستثمر تونسي ينتج فيها أصنافًا أجنبية من الزيتون المُوجَّه للتصدير.
المشترك في الحالتين هو الاحتكار الخاص للأرض والموارد الطبيعية واستنزافها، وأولوية التصدير على حساب الحاجات الغذائية المحلية، بالتزامن مع حرمان صغار الفلاحين/ات من النفاذ للأرض وللموارد، ففي وقت يجري فيه تصدير الزيتون من ضيعة (كانت مملوكة للدولة) كان الكثير من التونسيين يعجزون عن الحصول على زيت الزيتون لارتفاع أسعاره(18).
لقد كرّست السياسة التصديرية مصالح الأسواق على حساب الفلاحين والمواطنين في تونس، ففي عام 2014 تعادل قيمة استيراد البذور قيمة تصدير تمور “دقلة النور”(19)، فضلًا عن أنَّ هذا يؤدي إلى تخريب الموروث الطبيعي للبذور لصالح الارتهان للبذور المستوردة المعدلة جينيّا.
كما أنَّ قيمة استيراد الحبوب تجاوزت ضعف قيمة تصدير زيت الزيتون، وهو ما يُعمِّق من التبعية الغذائية، بخاصة بالنسبة للمواد المعيشية الأساسية، ولا تكاد تصل قيمة تصدير البرتقال إلى ربع قيمة توريد القهوة والشاي، الأمر الذي يفاقم أصلا من استنزاف الموارد المائية المُهددة نتيجة التغيرات المناخية التي تعيش على وقعها البلاد.
من أجل تحقيق سيادة الشعوب على مواردها
تهدف السياسات النيوليبرالية المُتبعة في تونس إلى تعميق التبعية الاقتصادية وتدمير الموارد الطبيعية والاقتصاد المعيشي، إضافةً إلى تسخير الدولة لحماية مصالح رؤوس الأموال على حساب حقوق صغار الفلاحين/ات والمواطنين/ات بشكل عام.
وتبدو نتائج هذه السياسات واضحة المعالم، إذ أدت إلى ارتهان الدولة لسياسة السوق وتبعيتها لرأس المال، وفقدانها القدرة على حماية مواردها وسوقها وإنتاجها من أجل التنمية، ولم تَعُدْ قادرة على المحافظة على وظيفة القطاع الفَلَّاحي في توفير الغذاء بما يحترم حق الشعوب في تحديد سياساتها الفَلَّاحية وسيادتها الغذائية بمشاركة المزارعين والمزارعات.
وتعنِي السيادة الغذائية، بالنسبة لمنتجي الغذاء من الفلاحين/ت، ممارسة حقوقهم في تحديد لسياسات الزراعية، لتكون مسارات إنتاج الغذاء متوافقة مع الخصوصيات البيئية المحلية، ومع الثقافة التي راكمها الفلاحون/ات عبر قرون مديدة وتجارب متوارثة، حتى تحظى الحاجيات الغذائية للشعوب بالأولوية، مع مراعاة التحولات المناخية التي أدت إليها عمليات الاستنزاف الرأسمالي.
كما تعنِي كذلك حماية حقوق منتجي/ات الغذاء ومستهلكيه الحاليين، واحترام حق الأجيال القادمة في الموارد من خلال استدامة الثروات الطبيعية سواء تعلق الأرض أو الموارد المائية.
أمام حروب الهيمنة الاقتصادية التي تتخذ من الطبيعة إحدى مجالاتها الأساسية، وفي إطار هجمة القوى الرأسمالية من الدول والشركات الخاصة لتحقيق الأرباح الاقتصادية على حساب الجماهير الشعبية، يواجه صغار الفلاحين/ات اليوم حربًا تستهدف إنهاء وجودهم، ليتمّ تسخيرهم كأيدٍ عاملة رخيصة ضِمن دورة الإنتاج.
- علي كنيس\ تونس
المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الرابع: “هذا من عمل البنك والصندوق.. 40 عامًا من التخريب النيوليبرالي لسيادتنا الغذائية“.
يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط
الهوامش
1-علي رضا فاضل، (2020) الهامش الدائم: المؤسسات المالية الدولية وإعادة إنتاج التبعية في تونس في أثر ونفوذ المؤسسات المالية الدولية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: تحرير طارق رضوان. رابط: https://library.fes.de/pdf-files/bueros/tunesien/16621.pdf
2Mahjoub, A et Saadaoui, Z (2015) Impact de l’accord de libre-échange complet et approfondi sur les droits
économiques et sociaux en Tunisie. [en ligne]. https://euromedrights.org/fr/publication/impact-de-laccord-de-libre-echange-complet-et-approfondi-sur-les-droits-economiques-et-sociaux-en-tunisie/
3Chandoul, J. (2017), Tunisie et FMI, Injustices Transitionnelles. Observatoire Tunisienne de l’Economie [En ligne]. https://www.economietunisie.org/sites/default/files/tunisie_et_fmi_injustices_transitionnelles-pb_fr_0.pdf
4ديون تونس الخارجية والداخلية تتجاوز 100 مليار دينار. الصباح نيوز (2021). رابط: https://tinyurl.com/w8ktfhjr
5Op.cit. Mahjoub, A et Saadaoui, Z
6Jonville, M (2018) Perceptions de l’Accord de Libre Échange et Complete et Approfondie. Etude des Attentes et conséquences économiques et sociales en Tunisie. [En ligne]. https://ftdes.net/rapports/etude.aleca.pdf
7 العوادي، سامي (2020). العلاقات التجارية التونسية الأوربية. رابط: https://library.fes.de/pdf-files/bueros/tunesien/16427.pdf
8Négociations en vue d’un Accord de libre-échange complet et approfondi Tunisie-UE (ALECA) [en ligne]. https://euromedrights.org/wp-content/uploads/2015/07/Rapport-ECOSOC-version-finale-MAI-2015.pdf
(9) مونت كارلو الدولية: جدل حول اتفاق “شراكة” بين الاتحاد الأوروبي وتونس: بين مجرد اتفاق مبدئي بشروط وبين محاولة تنفيذ اتفاق “الأليكا”. رابط: https://tinyurl.com/3f7kx6x6
10 الرياحي، ليلى والعبيدي وسيم (2019) غذاؤنا، فلاحتنا سيادتنا.
11 نفس المصدر.
12Enquête sur les Structures des Exploitations Agricoles 2004-2005. Ministère de l’Agriculture et des Ressources Hydrauliques, Tunisie, Janvier 2006. [en ligne]. http://www.onagri.nat.tn/uploads/divers/enquetes-structures/index.htm#_Toc125361762
13 الهرماسي، عبد القادر (1999)، الدولة والمجتمع في المغرب العربي.
14 مرجع سابق، الرياحي والعبيدي.
15Tunisie, financement de secteur agricole. FAO, BM, et AFD. 2013. [en ligne]. http://www.fao.org/3/i3210f/i3210f.pdf
16Op.cit. Mahjoub, A et Saadaoui, Z
17 مرجع سابق، العوادي.
18مرجع سابق، الرياحي والعبيدي.
19 الرياحي، ليلى وحموشان حمزة (2021). التبعية الشاملة والمعمقة: كيف يمكن لاتفاقية تجارية مع الاتحاد الأوروبي أنْ تدمير الاقتصاد التونسي؟