كولومبيا توقّع “عهد الأرض والحياة: ثورة من أجل الحياة”
لإعادة توزيع الأراضي وإرجاع العمال الريفيين لأراضيهم وتمكينهم من المعاش اللائق اقتصادياً وبيئياً
في فبراير 2025 في شيكورال بمقاطعة توليما في كولومبيا، تجمّع خمسة آلاف فلاح من أصول أفريقية ومن الشعوب الأصلية ومسؤولين حكوميين لمدة يومين، وكانت النتيجة “عهد الأرض والحياة: ثورة من أجل الحياة“. العهد الصادر في 12 نقطة الذي وقعه الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو وممثلون عن حركات اجتماعية شعبية، يدور حول الالتزام بإعادة توزيع الأراضي وإرجاع القدرة للعمال الريفيين على تحقيق معاش لائق ومستدام اقتصادياً وبيئياً، في ظل تمثيل حقيقي لمصالحهم. إن عهد شيكورال إذن هو محاولة لجبر الضرر عن الماضي في كولومبيا، مع مواجهة تحدٍ صعب في الوقت الراهن.
إصلاح أخطاء الماضي
في 1972 في شيكورال تآمرت النخب المالكة للأراضي والأحزاب السياسية المحافظة على تفكيك إصلاحات الأراضي التي انطلقت في الستينيات. دفعوا معاً بتخفيف متطلبات معايير تعريف الأراضي غير المنتجة وتعريف الاستخدام الجائر للأراضي لتجنب تأميمها. وعُرف ذلك الاتفاق سيئ السمعة بمسمى “عهد شيكورال”. كان بمثابة مسمار نعش إصلاحات الأراضي في كولومبيا. كان في جوهره اتفاق على القتل، قتل إصلاحات الأراضي وعمليات إعادة التوزيع، وهو اتفاق تستمر عواقبه في تشكيل المجتمع الكولومبي حتى اليوم. بدلاً من إعادة التوزيع، تعرضت كولومبيا لأكثر من خمسين سنة من إجراءات مناوئة لعملية الإصلاح، ما أدى إلى تزايد معدلات العنف في المناطق الريفية وتوسع غير مسبوق في مساحة جبهات الاستصلاح الزراعي والاستعمار الداخلي تحت راية “إعادة التوزيع”. أسهم هذا أيضاً في صعود زراعة الكوكايين تحت رعاية تكتلات المهربين. وفي نهاية المطاف، غذت هذه العملية استراتيجية “فرق تسد” التي انتهجتها النخب ضد الفلاحين والشعوب الأصلية والمنحدرين من أصول أفريقية.
عهد شيكورال 2025 هو عهد تاريخي لأنه يُلغي عهد شيكورال 1972: إنه تحول من موت إصلاح الأراضي والانتقال إلى الالتزام بسياسات إعادة التوزيع. إنه عهد تاريخي لأنه يشمل التعهد بتكوين جبهة موحدة لنضالات الأراضي بين الفلاحين والمنحدرين من أصول أفريقية والشعوب الأصلية، الذين يطمحون معاً إلى إنهاء تكتيكات فرق تسد التي يستعين بها المنائون لإصلاح وإعادة توزيع الأراضي.
مواجهة التحديات الراهنة
لطالما كانت سياسات المناخ والأرض معادية تماماً لسياسات إعادة توزيع الأرض، وهي تعكس استمرار عمليات الاستيلاء على الأراضي في كولومبيا. وهو ظرف يتحقق في سياق إجماع عالمي بين القوى الرجعية على الاحتفاء بنهب الأرض، مع وصم أي محاولات لإعادة توزيع الأرض، كما يتضح من خطة ترامب لنهب أرض غزة، بالتزامن مع رفض خطط إصلاح الأراضي الليبرالية المتواضعة في جنوب أفريقيا التي لا يرضى عنها حتى المدافعون عن أجندة إصلاحات سياسات الأرضي هناك.
هذا الظرف الراهن لم يظهر من العدم. إنه نتيجة مباشرة لعقود من سياسات الأراضي النيوليبرالية. ولقد استعان الإجماع النيوليبرالي الراهن بتكتيكات منسقة على النحو التالي:

- أولاً، الانتكاس عن مكتسبات سياسات إعادة توزيع الأراضي، بالأساس عبر انتهاج سياسات اقتصاد السوق المعادية لصغار المزارعين.
- ثانياً، احتواء مدى تنفيذ سياسات إعادة توزيع الأراضي المعمول بها حيثما وُجدت.
- ثالثاً، تعطيل أية مبادرات لإصدار سياسات جديدة لإعادة توزيع الأراضي في المجتمعات التي تحتاج إليها.
- رابعاً، إعادة تفسير القوانين والسرديات القائمة بما يجعلها بعيدة كل البعد عن حيثياتها المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، مع اقترابها أكثر من عقائد السوق الحرة، من ثم يصبح أمان الحيازة الزراعية معناه الأمان لكبار ملاك الضياع والمزارع الكبرى ورأس المال.
- أخيراً، تُستخدم هذه الإجراءات الأربع في الترويج لسياسات الأرض النيوليبرالية المنحازة للسوق، مع تبرير وتعزيز مطالبة كبار الملاك بالاعتراف بملكيتهم دون أن ترافق هذه العملية سياسات إعادة توزيع فيقتصر الأمر على “التصديق” على الوضع الراهن.
عندما رسّخت النيوليبرالية مركزها في الثمانينيات، كان من أول ضحاياها سياسات إعادة توزيع الأرض. وكان عقل وقلب سياسة إصلاح الأرض الكلاسيكية ما يلي:
- حد أقصى لمساحة الحيازة الزراعية، أي حد أقصى لمساحة الأرض التي يمكن للفرد أن يملكها.
- الحق في حد أدنى من الأرض للأفراد بحيث تكون المساحة كافية كوحدة منتجة اقتصادياً لمعاش الفرد، أو الأرض التي يعمل بها العمال الزراعيين.
لكن أصبح الكلام عن الحد الأقصى لملكية الأرض مسألة شبه محرمة. من ثم فالبرامج الخاصة بتوفير حد أدنى من النفاذ إلى الأرض تواجه صعوبات في العثور على أراضٍ يُعاد توزيعها.
على مدار السنوات الأربعين الماضية، كانت هناك قلة من الدول التي تمكنت من اتباع سياسات إعادة توزيع أراضي فعالة: بوليفيا والبرازيل وكولومبيا والفلبين وزيمبابوي. ولقد نُفذت برامج مهمة لتقديم الملكيات الجماعية للأراضي لصالح جماعات الشعوب الأصلية، مثل البرنامج الخاص بكولومبيا، رغم أن العديد من هذه الأراضي كانت معزولة ومهمشة جغرافياً.
أما الإنجازات الأكثر شيوعاً فهي عبارة عن مجموعة متنوعة من الإصلاحات الصغيرة. ليست الإصلاحات الصغيرة جيدة أو سيئة في حد ذاتها، وهي جيدة بشكل خاص عندما توفر إغاثة فورية للناس العاملين. وهي تمثل “نهج إصلاحي صغير ومتواضع” وهو مصطلح سلبي، عندما تحدث الإصلاحات الصغيرة بدلاً من الإصلاحات الممنهجة العميقة. ومنها الحد من حجم الأراضي التي يمكن تملكها، والاعتراف الرسمي بحيازة الناس للأرض، وفردنة وخصخصة المشاعات – تُسمى بمسميات مُضللة أحياناً: أمان الحيازة الزراعية مثلاً، وهي عادة ما تكون عملية جوهرها هو تمكين كبار الملاك وأصحاب رأس المال.
التعلم من دروس شيكورال 2025
نحن بحاجة ماسة ومُلحة إلى إعادة توزيع الأراضي وإعادة الناس لأراضيهم والاعتراف بحيازتهم لها، في كولومبيا وفي جميع دول العالم ومناطقه. إننا في عصر تقوم فيه الطبقات المهيمنة والمسيطرة – فضلاً عن النخب الريفية – بنهب الأراضي بعنف من الفلاحين: من هؤلاء المتربحين من سياسات تخفيف آثار التغير المناخي والتكيف معه، والشركات في قطاع الطاقة المتجددة، وعمالقة منظومة الغذاء العالمية وأصحاب رأس المال المالي الكبير. إن القوى الداعمة لوقف الإصلاحات قد تزايدت وتكاثرت. لكن زادت كذلك القوى التي يُحتمل أن تدعم الإصلاحات. إن التحالف الرئيسي المنشود لسياسات إصلاحات الأراضي في الوقت الراهن لم يعد مقتصراً على الطبقات الفلاحية والإصلاحيين في أجهزة الدولة، إنما أصبحت هذه القوى تشمل أيضاً قوى اجتماعية مرتبطة بقضايا الغذاء، والبيئة، وتغير المناخ، وكذلك القوى الداعمة للعدالة العمالية والحركات والنضالات العمالية.
في سنة 1971 عقدت منظمة الفاو في روما المؤتمر العالمي للإصلاح الزراعي والتنمية الريفية، أملاً في جلب قوى جديدة لسياسات الإصلاح الزراعي العالمية. في السنة التالية تبين أن تلك الفعالية كانت بداية نهاية إصلاحات الأراضي الكلاسيكية، مع انطلاق النيوليبرالية التي أنهت سياسات إعادة توزيع الأراضي التي سبق أن نهضت بها الحكومات. في مارس 2006 عقدت الفاو دورة ثانية من نفس المؤتمر العالمي في بورتو أليجرو في البرازيل، وكان هدفه هو إحياء جهود “دمقرطة” سياسات الأراضي. في السنة التالية، انطلقت ظاهرة نهب الأراضي بكل قوة وأدت إلى سلب الملايين من الفلاحين وأبناء جماعات الشعوب الأصلية حول العالم. في فبراير 2026، بعد دورة بورتو أليجرو بعشرين عاماً، سوف يُعقد مؤتمر “الإصلاح الزراعي والتنمية الريفية + 20” بتنظيم الحكومة الكولومبية. إنها مبادرة دولية حان وقتها. تؤشر عملية شيكورال2025 بطبيعة الأجندة التي ترغب فيها الحكومة الكولومبية للمؤتمر: التزام عميق وحقيقي بسياسات أراضي ديمقراطية من أجل تحقيق المعاش اللائق لصالح الناس والبيئة والحياة.
- جون بوراس: أستاذ بالمعهد الدولي للدراسات الاجتماعية (هولندا)
- إتايوسارا روخاس هيريرا – طالبة دكتوراه بالمعهد الدولي للدراسات الاجتماعية
ترجمة: عمرو خيري
جون بوراس – أستاذ الدراسات الفِلاحية في جامعات روتردام والجامعة الزراعية الصينية ورئيس التحرير السابق لدورية "الدراسات الفلاحية" المرموقة (JPS). يدعم بوراس سلسلة "التغير الفلاحي والدراسات الفلاحية" في طبعتها العربية، سعياً لتعميم المعرفة بمجال الدراسات الفِلاحية في العالم العربي. كتب السلسلة تقدم خُلاصة خبرات أهم الباحثين في العالم في ملفات منها التنمية الريفية والاقتصاد السياسي والزراعة الإيكولوجية. صدر عن السلسلة بالعربية حتى الآن:
"الطبقة والتغيّر الفِلاحي"
"الفلاحون وفن الزراعة: بيان تشايانوفي"
الرابط الأصلي للمقال: هنا