كوفيد- 19: جائحة عالمية حفزها منطق سوق مدمر للبيئة



شهدت نهاية سنة 2019 وبداية 2020 انتشار وباء سرعان ما صنفته منظمة الصحة العالمية “جائحة عالمية”. انطلق فيروس كوفيد- 19 من مدينة ووهان الصينية التي كتب عنها “تجمّع تشوانغ“: “تحت أفران الصين الأربعة، يقبع فرنٌ آخر أكثرُ أساسيةً يدعم المراكز الإنتاجية للعالم: طنجرة الضغط التطوّرية للزراعة والتمدين الرأسمالييْن. يوفر هذا الوسطُ المثالي البيئةَ الملائمةَ لتوليد أوبئة متزايدة التدمير.”

امتد الوباء إلى بلدان المنطقة في أواسط شهر مارس، وقد نبه بيان السكرتارية الإقليمية لشبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية، يوم 23 مارس 2020، إلى ما يشكله الوباء وتداعياته الاقتصادية من خطر على الصحة العامة وعلى الأوضاع الاجتماعية بقول: “يتحمّل ملايين الكادحين من الفلّاحين الصغار والعمّال الزراعيين والبحّارة، عبءَ توفير الغذاء اليومي للشعوب، ما يجبرهم على العمل في ظل انتشار الوباء. سيتعرّض الملايين منهم إلى خطر الإصابة بالفيروس، لضمان استمرار عجلة الانتاج القائمة على كدحهم وعملهم. والأكيد أنّ إغلاق الحدود مع أوروبا وانعدام الأسواق ستكون له انعكاسات اجتماعية كبيرة (تسريح وبطالة وافلاس…). يظهر بشكل جلي، أن خطر العدوى يتربص بالعمال الزراعيين والفلاحين الفقراء، دون اتخاذ اجراءات استثنائية لحمايتهم وباقي الكادحين الذين تدفعهم ظروف العيش إلى العمل مكرَهين في ظل هذه الأوضاع. وعلاوة على ذلك لا يتوفر غالبية الكادحين على القدرة الشرائية لدرء مخاطر الفيروس باقتناء ما يلزمهم من أدوية وغذاء سليم”.

لم تكتف شبكة السيادة الغذائية عن التحذير من مغبة انتشار الفيروس بالمنطقة، بل اعتبرت الأزمة الناتجة عنه فرصة قيام بديل: ” كل أزمة هي بمثابة فرصة، وسيسعى النظام الرأسمالي- الإمبريالي، مع نخبنا المستبدّة، لتجديد نفسه عبر طرق أخرى للاستيلاء على ثروات الشعوب. يجب علينا ألّا نسمح بذلك. نحن بحاجة ملحّة إلى البحث عن بدائل مستدامة وعادلة للنظام العالمي الحالي. الحلّ الوحيد أمامنا هو التضامن بيننا والعمل على بناء عالم جديد تسود فيه السيادة الشعبية، والديموقراطية والعدالة الاجتماعية”.

الوضعية قبل كوفيد- 19

في تقرير المنظمة العربية للتنمية الزراعية بصدد تنفيذ المرحلة الثانية (2017- 2018) من البرنامج الطارئ للأمن الغذائي العربي، ورد ما يلي حسب الدول:

تونس

تم تشجيع الخواص على اقتحام مجال تجميع الحبوب والتخلي التدريجي لديوان الحبوب على نشاط التجميع.

مصر

تحسين واعتماد وتحرير إنتاج التقاوي [البذور] الحكومية ، رفع الوعي لدى المصدِّرين ومنتجي الأغذية بالمواصفات القياسية الدولية مما يؤدي إلى إنتاج بمواصفات قياسية دولية..

المغرب

ارتكزت استراتيجية مخطط المغرب الأخضر على دعامتين، حيث تقوم الدعامة الأولى على الاستثمار في مشاريع تهم سلاسل الإنتاج ذات القيمة المضافة والقطاعات ذات الإنتاجية العالية، بينما تنهض الدعامة الثانية على الاستثمار في الفلاحة التضامنية لصغار الفلاحين من أجل الرفع من الإنتاجية الزراعية وتحسين دخل الفلاحين.

قال ألبرت اينشتاين مرة ما معناه “الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفة”. لكن لا يتعلق الأمر هنا بغباء، بل بخيارات اقتصادية واجتماعية مفروضة: ماذا سيخسر واضعو السياسات الفلاحية إذا كانت الشعوب هي من سيدفع كلفة ما يسببون من أزمات؟

لم يكشف كوفيد- 19، والحالة هذه، غير ما كان مُعَدًّا قبله. فهو لم يسبب الأزمة، بل فجر أزمةً عواملُ اندلاِعها قائمةٌ في بنية المنطقة الاقتصادية والاجتماعية منذ عقود، وموروثة عن تشكيل اقتصاداتها منذ الاستعمار لخدمة المراكز الإمبريالية.

لن يسبب كوفيد- 19 الجوع وسوء التغذية وصعوبة الحصول على الغذاء لملايين الضحايا، إذ “ذكر المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي، دايفيد بيسلي، بأن حوالي 135 مليون شخص حول العالم كانوا يواجهون الجوع قبل الوباء، ما يعني أن أي صعوبات إضافية جراء الوباء قد تدفع بهم إلى المجاعة.

أصدرت “المنظمة العربية للتنمية الزراعية” تقريرا بعنوان “أوضاع الأمن الغذائي العربي 2018″، هذه بعض معطياته:

“إن مجموعة الحبوب شكلت ما نسبته %56.2 من أجمالي قيمة فجوة السلع الغذائية الرئيسية، تليها مجموعة اللحوم بنسبة %19.76، والألبان ومنتجاتها بنسبة %6.62″ ” تركزت الفجوة الغذائية في ست دول عربية من بينها: مصر بـ %16.55 والجزائر بـ %13.25 من إجمالي قيمة الفجوة الغذائية”، “يعاني الميزان الغذائي العربي من عجز واضح نتيجة لاعتماد المنطقة العربية على احتياجاتها من الخارج، وشكلت الواردات الغذائية نسبة تتراوح بين %81 و%87 من إجمالي الواردات الزراعية للفترة 2016- 2018… إن نسبة تغطية الصادرات الغذائية للواردات الغذائية لا تتجاوز الثلث، حيث بلغت نحو %28.03 في العام 2017، ونحو %22 لعام 2018”.

وبحسب نفس التقرير لم تتعد نسبة الاكتفاء الذاتي من الحبوب %22.1 في تسع دول عربية ضمنها موريتانيا وتونس والجزائر ومصر والمغرب.

مساهمة المجموعات السلعية الرئيسية في الفجوة الغذائية العربية عام 2018

في الوقت الذي ارتفع فيه المتوسط العالمي لنصيب الفرد من الناتج المحلي الزراعي، شهد نظيره بالمنطقة العربية انخفاضا ملحوظا.

متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الزراعي (دولار للفرد) فترة 2015-2018

بعد إيراد هذه الأرقام الكارثية- بالنسبة للشعوب طبعا- اختتمت “المنظمة العربية للتنمية الزراعية”  تقريرها بهذه التوصية: “يعتمد مستقبل الاستثمار الزراعي والغذائي في البلاد العربية على مدى النجاح في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية واحتواء نتائجها السلبية من خلال البرامج الاجتماعية، ومدى القدرة على التعامل مع المتغيرات الناجمة عن تزايد العولمة وتدويل النشاط الاقتصادي من خلال الالتزام لتنفيذ منطقة التجارة العربية الحرة التزاما جديا وصولا إلى السوق العربية المشتركة. كما أنه يعتمد على مدى القدرة على تحريك آليات التمويل العربية من صناديق ومؤسسات مالية ومصرفية لتوسيع نشاطها ليشمل القطاع الخاص، نظرا للدور الكبير الذي يضطلع به حاليا في التنمية الاقتصادية العربية”: وداوني بالتي كانت هي الداء!

بحسب تقرير لوزارة الزراعة الأمريكية في مايو 2019، نشر موقع “الجزيرة مباشرة” مقتطفات منه، إن “9 من الدول العربية ستستورد نحو 40.2 مليون طن من القمح خلال العام 2019-2020، وهو ما يمثل 21.9% من واردات القمح العالمية”.

وبحسب نفس التقرير، جاء ترتيب مصر والجزائر ضمن أكبر خمس دول مستوردة للقمح في العالم. تحل مصر في المرتبة الأولى بـ 12.5 مليون طن، والجزائر في المرتبة الرابعة بـ 7 ملايين طن. ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة الواردات إلى إجمالي عدد السكان فستكون الجزائر [43 مليون نمسة] أكبر مستورِد للقمح في العالم، مقارنة بمصر [100 مليون نسمة].

نسبة واردات القمح إلى إجمالي عدد السكان
( أرقام 2020 من وكيبيديا-“موقع الجزيرة مباشر”، 15 مايو 2019)

تبعيةُ المنطقة العربية وشمال أفريقيا غذائيا تبعية صارخة، حيث تنفق هذه المنطقة “زهاء 110 مليار دولار على الواردات الغذائية، أي حوالي %4 من ناتجها المحلي الإجمالي. و%50 من السعرات الحرارية المستهلَكة في المنطقة العربية هي من أغذية مستوردَة. ويمثل القمح الحَبُّ الرئيسي المستهلَك في المنطقة، حث يبلغ استهلاكه الفردي حوالي 127 كيلوغراما في السنة، غير أن %65 من كميات القمح المستهلَكة مستوردة. والأرز نوع رئيسي آخر من الحبوب المستهلَكة، حيث المنطقة مستورِد صافٍ له. وتمثل كميات القمح والأرز، مجتمعة، نحو 11 مليار دولار من عجز المنطقة التجاري”.

نرى إذن أن التبعية الغذائية، التي تشكل أحد أوجه (وفي نفس الوقت) نتائج تبني مفهوم “الأمن الغذائي”، وما يترتب عنها من صعوبة الحصول على الغذاء والوصول إلى وسائل وعناصر إنتاجه (البذور والأسمدة…)، ليس نتاج كوفيد- 19، بل سمة رئيسة للسياسة الزراعية/ الغذائية المنتهَجة في بلدان شمال أفريقيا منذ عقود. سياسةٌ مملاة من طرف مؤسسات الرأسمال العالمي [صندوق نقد وبنك دوليين، منظمة التجارة العالمية] وتنسخها منظمات الأمم المتحدة [الفاو، الإسكوا]، وتترجمها إلى اللغة العربية المنظمات الإقليمية [المنظمة العربية للتنمية الزراعية/ جامعة الدول العربية]، وتنفذها الأنظمة بكل حرفية.

الوضع أثناء كوفيد- 19 وما بعده

لا يتعلق الأمر بحصول مجاعة كالتي شهدتها بلدان إفريقية في النصف الثاني من القرن العشرين [إثيوبيا 1984 والصومال سنة 1992]. فحتى أثناء أزمة الغذاء العالمية لسنتي 2007- 2008 لم يصل الأمر إلى ذلك المستوى. بل بصعوبة الحصول على الغذاء بشكل عام، والغذاء الجيد والمغذي والصحي بشكل خاص. يوضح عمر أزيكي عضو فرع الجمعية الدولية “أطاك المغرب/ عضو الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية” الأمر قائلا: “إن فرضية المجاعة لا تُطرح في السياق المغربي، باعتبارها حالة تحيل على احتمال عدم توفر ما يغني الناس من جوع، حيث يشدد على أنه يمكن النظر إلى الموضوع من زاوية سوء التغذية، على اعتبار أن الناس قد لا يجدون ما يكفي من السلع المغذية والمفيدة للنمو، خاصة بالنسبة للأطفال”.

ما سبب صعوبة الحصول على الغذاء؟

أنجزت منظمة الأغذية والزراعة [FAO] برنامجا بعنوان “بناء جيل القضاء على الجوع”، هو برنامج تعليمي بشأن القضايا العالمية الهامة التي يقوم عليها عمل المنظمة.

طرح البرنامج سؤال: “من أين يأتي الجوع وسوء التغذية؟”. وكان الجواب: “بالنظر إلى التاريخ، كان الجوع دائمًا موجودًا، ودائمًا لنفس الأسباب. والفقر هو أحد الأسباب الرئيسية للجوع”. نعم لقد كان الجوع دائما موجودا، لكن ليس “دائما لنفس الأسباب”. فعالم اليوم قائم على الوفرة وفوائض الإنتاج وتصدير ملايين أطنان الفواكه والمزروعات التجارية المحملة بملايين الأمتار المكعبة من “المياه الافتراضية” التي تتسرب إلى الخارج عبر المواد الفلاحية المصدرة.

لكن ما سبب الفقر؟ يجيب تقرير البنك الدولي حول الفقر لسنة 2020 بقول: “ثلاثة عوامل متجمعة يذكي التقاؤها الأزمة الحالية، وسيستمر تأثيرها في المستقبل: جائحة فيروس كورونا (وما يرتبط بها من ركود اقتصادي عالمي يمحو اتجاهات تراجع معدلات الفقر سريعا)، والصراع المسلح (الذي تزايدت تأثيراته باطراد في الأعوام الأخيرة) وتغير المناخ (وهو خطر يتصاعد ومن المحتمل أن يؤدي إلى سقوط ملايين من الناس في براثن الفقر)”.

بين اتهام الفقر من جهة، وكورونا والنزاعات والمناخ من جهة أخرى، يظل المسؤول الرئيس خارج قفص الاتهام: النظام الرأسمالي العالمي، والاستحواذ الخاص على عناصر إنتاج الغذاء (أرض، مياه، بذور…) وفرض الزراعة التصديرية على شعوب نصف الأرض الجنوبي.

ويؤكد والدن بيلو هذه المسؤولية عند حديثه عن أزمة الغذاء العالمية 2007- 2008، التي يعزوها إلى “جملة من التطورات، من بينها المضاربة المالية على السلع وتحويل الأراضي إلى زراعة الوقود الحيوي”. ويضيف “إلا أن هذه المسببات قصيرة الأمد لم تكن لتفضيَ إلى أزمة عالمية لولا توفر الظروف البنيوية المهيئة لها. وعلى رأس هذه الظروف عولمة الزراعة الصناعية الرأسمالية من خلال عملية إنتاج قائمة على “إلغاء خصوصيات الزمان والمكان في كل من الزراعة والنظم الغذائية”، على حد تعبير هارييت فريدمان”.

المقال أعلاه مأخود من دراسة : أزمة كوفيد 19 وضرورة النضال من أجل السيادة الغذائية بشمال أفريقيا

لتحميل وقراءة الدراسة : إضغط هنا