النساء الكادحات في قلب الجائحة



تقع النساء- خاصة الكادحات- في مرمى مدفعية الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. فموقعهن بأسفل المجتمع وكثافتهن العالية في أنشطة اقتصادية عدة، يرفعان خطر إصابتهن بالعدوى. هذا ما شهده المغرب. ففي أواسط يونيو/ حُزيران 2020 ظهرت بؤرة وبائية بثلاث وحدات لإنتاج الفواكه الحمراء وتصديرها بمنطقة لالّة ميمونة بإقليم القنيطرة (شمال غرب البلاد على الساحل الأطلسي) سجلت أزيد من 900 حالة حاملة لفيروس كورونا المستجد.

وبفعل دور النساء، لاسيما القرويات، في الحصول على الغذاء، فقد “تبين أن جائحة كوفيد- 19 أضرت بشكل أكبر بمصادر عيش النساء نتيجة تأثير هذا العبء الإضافي، الناجم عن التقسيم الذكوري للأدوار الاجتماعية الذي يجعل المرأة مسؤولة بشكل غير متناسب مقارنة مع الرجل عن الأعباء المنزلية غير المؤدى عنها. كما جاء هذا التأثير السلبي نتيجة طبيعة القطاعات التي تشتغل فيها النساء عموما (قطاعات ذات قيمة تجارية متدنية جدا ومنفعة اجتماعية لا تحظى بالقدر الكافي من التثمين)… إن مناصب الشغل التي تشغلها النساء تُعَد أكثر تأثرا بتداعيات هذه الأزمة بـ 1.8 مرة أكثر من الرجال… [و] إذا كانت النساء تمثلن %39 من العمالة العالمية، فإنهن يمثلن في المقابل %54 من إجمالي مناصب الشغل المفقودة”.

وفي مصر مثلا “أدت جائحة كوفيد- 19 بشكل عام إلى انخفاض الدخول المحدودة للمعتمدين على الإيراد اليومي في الريف والحضر على حد سواء. وبلغت حد فقدان مصدر الدخل أو العمل بدوام كامل، ما سبب زيادة العبء على النساء واضطرارهن لمضاعفه العمل وتحمل جزء أكبر من المسؤولية”. وفي هذا البلد “كان الأثر على الفلاحات كبيرا: ففي ظل حظر التجوال والانتقال بين المحافظات، وقيود النفاذ إلى الأسواق في المدن، وإغلاق الأسواق الأسبوعية في القرى، عانت المزارعات بالأجر من صعوبة بلوغ أماكن العمل مما تسبب في فقد مصدر الرزق. أما من يعملن في أراضي العائلة بدون أجر، ويعتمدن على المحصول وتصنيعه واستخدامه أو بيعه في السوق، فقد قاسين من فَقْدِ مصدرٍ نقدي لشراء الاحتياجات الأخرى. وفي معظم الحالات، تكدس المحصول أو المنتَج لديهن مما أدى إلى التردد في مواصلة تصنيع منتجات الألبان وغيرها، وإلى صعوبة تحديد محصول الموسم القادم. واضطررن في بعض الأحيان للبيع عبر وسيط مما سبب خسارة جزء من الدخل”.

أوردت مروة ممدوح، عضو سكرتارية شمال أفريقيا للسيادة الغذائية، شهادات حية عن عمق تأثر النساء بالأزمة، حيث ضغط فقدان الرجال للشغل بالدرجة الأولى عليهن: “هؤلاء الرجال والشباب لم يعد لديهم مصدر دخل وبالتالي زاد العبء على المرأة فهي التي ستتحمل مشقة الخروج للعمل والمخاطرة بحياتها في ظل هذا الوباء، لم يعد لديها اختيارات إما الموت جوعًا هي وأطفالها أو احتمالية التعرض لخطر العدوى”.

وفي تونس، حيث تشكل “النساء النسبة الأكبر من العاملين في قطاع الزراعة [70% من القوى العاملة] وصغار التجار وعادة ما يتلقّين أجوراً متدنّية للغاية، ويقمن بأعمال شاقّة بدنيّاً مع افتقارهنّ إلى الحماية الاجتماعيّة وضعف إمكانيّة وصولهنّ إلى المرافق الصحّيّة الجيّدة. وفي ظلّ التفاوتات الجنسانيّة الصارخة، تعاني الريفيّات من عدم مساواة في الدخل والفرص الاقتصاديّة؛ وقد أدّى تفشّي وباء كورونا إلى زيادة هذه التفاوتات، ممّا يجعل المُزارِعات بوجه خاصّ ضمن الفئة الأشدّ تأثّراً بهذا الوباء”. و”كورونا يزيد الوضع سوءاً: تكون العاملات في القطاع الزراعيّ أكثر عُرضةً من الرجال لتردّي ظروف العمل خلال أزمة كورونا؛ وذلك نظراً لاعتمادهنّ على أمان وظيفيّ أقلّ ممّا يحظى به الرجال، ونظراً لحرمانهنّ من أبسط متطلّبات الحماية الاجتماعيّة أو القانونيّة، ولوقوعهنّ ضحايا مخاطر الاستغلال، ولكفاحهنّ أيضاً ضدّ القيود المجتمعيّة والدينيّة والثقافيّة”، كما أن من “المُزارِعات اللواتي تمتلكن قطعاً صغيرة من الأراضي، وتَبِعن منتجاتهنّ عموماً من خلال أكشاك الطعام أو الأسواق- وجدن أنفسهنّ دون ضمانات للدخل، وصِرن فجأة عاجزات عن بيع منتجاتهنّ في ظلّ حالة الإغلاق التي شملت أكشاك الطعام واختفاء الزبائن من الشوارع. إضافةً إلى ذلك، تعتمد معظم أسَر المُزارِعين على محاصيل الكفاف والمواشي التي يقومون بإنتاجها وتناولها. غير أنّ هذا نفسه صار أصعب بالنسبة للأسَر التي تعولها نساء، ممّا دفع تلك الأسَر من صغار المُزارِعات إلى حافّة الفقر. ونتيجة الحجر الصحي الذي تمّ تطبيقه في آذار/ مارس، اضطرّت بعض المُزارِعات إلى بيع العدد القليل من المواشي التي يمتلكْنها لتلبية الاحتياجات الأساسيّة لأسرهنّ”.

“الجائحة قد تكون أمامنا”

كان هذا عنوان بيان السكريتارية الوطنية لجمعية أطاك المغرب بشأن إصابة المئات من عاملات مزرعة فراولة بضواحي مدينة القنيطرة مملوكة لمستثمر إسباني. وفعلا يبدو أن الجائحة لم تنته، وتشهد أوروبا حاليا موجة ثانية وظهور فصيلة جديدة للفيروس (بريطانيا وهولندا). وبدأت حالات الإغلاق الجزئي ومنع الرحلات الجوية، ما قد يسبب توقفا جديدا للتجارة العالمية والأنشطة الاقتصادية.

لكن هناك أمر مستجد، إلى جانب الفصيلة الثانية من فيروس كوفيد- 19 المستجد. ففي بداية انتشار الجائحة، وتحت وقع الصدمة، لم يجد الرأسماليون الوقت لفرض مصالحهم، لذلك تمكنت الحكومات من فرض إجراءات تبدو نسبيا في مصلحة العمال وصغار المنتجين (وقف جزئي لعجلة الإنتاج، تحويل نفقات نحو قطاع الصحة العمومية، دعم مالي لفاقدي- ات الشغل… إلخ). أما الآن فيبدو أن الرأسماليين قد استنتجوا الدرس جيدا. يُقَيِّمُ ناثان لوغران من الشبكة الدولية للجنة من أجل إلغاء الديون غير الشرعية (CADTM) في بلجيكا الأمر بالقول: كان “للطبقة المسيطرة منذ الموجة الأولى للفيروس الوقت الكافي لكي تنتظم وكانت لها الكلمة في تدبير الموجة الثانية… ومنذ أن أصبح الجزء الأكبر من الأزمة الصحية المرتبطة بالموجة الأولى للفيروس خلفها، حتى استسلمت الحكومات لمطالب الطبقة المسيطرة عبر رفع الحجر الصحي، ولم يكن أرباب العمل دون شك في حاجة لتقديم عدة حجج: فبإمكان مدبري الدولة أنفسهم أن يفهموا بأن حجرا صحيا طويل المدة أو حجرا صحيا ثانيا، سيكلفهم نقطا إضافية من الناتج الداخلي الخام، وهم يعلمون يقينا بأنهم فقدوا الكثير سابقا، إبان الموجة الأولى”.

ويبدو أن شعار الطبقة الرأسمالية على الصعيد العالمي هو- حسب ناثان لوغران- “أرباحنا أهم من أرواحكم”. وعلى غرار الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008، ستوجه الدول المالية العمومية لحقن عجلة الاقتصاد المتضررة بملايير الدولارات [في المغرب بلغت كلفة الإنعاش الاقتصادي 120 مليار درهم]، مع اتخاذ إجراءات جد استثنائية للتعامل مع التداعيات الصحية والاجتماعية للجائحة.

لكن عمق الأزمة يستوجب أكثر من تدابير جزئية. يحتاج الأمر إلى ما ورد في بيان أطاك المغرب- المشار إليه أعلاه: “لأجل مواجهة ناجحة لها [للجائحة] يجب تغيير الوجهة… لصالح الشغيلة وصغار المنتجين”.

يستدعي الأمر القضاء النهائي عن الأسباب الهيكلية لتبعية بلداننا الغذائية وانعدام سيادتنا الغذائية/ الشعبية في آخر المطاف: “السياسات النيوليبرالية المطبقة طيلة السنوات الثلاثين الماضية (تحرير التجارة في جميع الجوانب، تسديد الديون الخارجية لبلدان الجنوب، خوصصة الخدمات العمومية، السلع…)، والنموذج الزراعي والغذائي الذي يخدم منطق الرأسمالية، المسؤولة الأولى عن الأزمة الغذائية الحالية”.

المقال أعلاه مأخود من دراسة : أزمة كوفيد 19 وضرورة النضال من أجل السيادة الغذائية بشمال أفريقيا

لتحميل وقراءة الدراسة : إضغط هنا