أراضي الجموع بالمغرب: حكاية نهب وظلم لذوي الحقوق



“في الأرض مخلوقان: أصحابها وناهبوها”

أحمد مطر (بتصرف)

قضية الأرض وملكيتها مسألة تفجرية حاضرة في تاريخ المغرب الحديث. جرى منذ دخول الاستعمار اتخاذ أولى الإجراءات بإضفاء طابع قانوني على الاستحواذ على أراضي القبائل والأراضي الجماعية، بواسطة ظهائر سلطانية: ظهير 1 يوليو 1914 الذي ينص على تحديد أراضي المخزن، وظهير 15 يوليو الذي ينص على منع الأملاك الجماعية ووضعها تحت وصاية الدولة، وظهير 27 أبريل 1919 حول الأراضي الجماعية.

ترتبط قضية الأرض بالنمط الزراعي الذي جرى إرساؤه بعد الاستقلال، وتعميقه بعد أزمة سنوات الثمانينيات التي فرضت عبرها المؤسسات المالية الدولية برامج التقويم الهيكلي ومنها التقويم الهيكلي الفلاحي.

يقوم هذا النمط الزراعي على تشجيع الزراعات التصديرية، ما قوَّض الفلاحة المعاشية ، ودفع آلاف الأسر الفلاحية إلى الهجرة داخليا وإلى الخارج. هكذا تحولت المسألة القروية بالمغرب إلى قضية حضرية تفجرية، شهدنا بعض ملامحها في انتفاضات 1981 و1984 و1990.

تعمق هذا المسار مؤخرا مع ما يُطلق عليه “مخطط المغرب الأخضر” الذي يشجع الزراعات الرأسمالية الكبرى. أحدُ أوجه هذا التشجيع من قبل الدولة هو إعداد الترسانة القانونية لتسهيل الاستحواذ على الأراضي وتجميعها بمساحات كبرى صالحة للزراعة. وقد حث تقرير أعده خبراء البنك الدولي سنة 2017، ونُشر تحت عنوان: “المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي”، على هذا المسار حيث يوصي بــ “حماية الملكية الخاصة من خلال تحسين النظام العقاري وعبر تبني قانون موحد للعقار، وتشجيع تسجيل المعاملات العقارية في السجل العقاري وضمان أمن الحقوق العقارية وتوضيح نظام نزع الملكية وتعزيز شفافيته”.

إن التبريرات التي تقدمها الدولة لتسويق إجراءاتها الحالية بكونها تستهدف تمكين ذوي الحقوق من حق تمليك الأراضي الجماعية بهدف إقامة مشاريع فلاحية، لا تعدو كونها ذريعة لإخفاء أهدافها الفعلية. فماذا ستفعل أسر فقيرة بقطعة أرض فلاحية غير بيعها أو كرائها لمن يملك الأموال؟

أوضحت دراسة صادرة عن جمعية أطاك المغرب بعنوان “ّدفاعا عن السيادة الغذائية بالمغرب” مرامي هذه السياسة بقول: “إن التبريرات التي تقدمها الدولة لتسويق إجراءاتها الحالية بكونها تستهدف تمكين ذوي الحقوق من حق تمليك الأراضي الجماعية بهدف إقامة مشاريع فلاحية، لا تعدو كونها ذريعة لإخفاء أهدافها الفعلية. فماذا ستفعل أسر فقيرة بقطعة أرض فلاحية غير بيعها أو كرائها لمن يملك الأموال؟ ستستفيد الأسر القروية من قطع فلاحية محدودة، وسيجري تفويت أراضي شاسعة للملاكين العقاريين والشركات الكبرى. وسيتخلى صغار القرويين عن القطع الأرضية لعجزهم عن الاستثمار ومنافسة الاستثمارات الكبرى في سوق رأسمالية لا قدرة للصغار على دخولها لأنهم سيفلسون تباعا، ويختفون الواحد تلو الآخر. وهذه السيرورة جارية فعلا بل وقطعت أشواطا على أرض الواقع”.

نهب الأراضي السلالية بالمغرب، إذن، أمر مفروض يخدم المضاربين العقاريين، وكبار الرأسماليين، أجانب ومحليين، والشركات متعددة الجنسيات عبر قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وشتى صنوف الحوافز لجلب الاستثمار الخارجي. ويجري فرض نظام الاستحواذ هذا على حساب ذوي الحقوق والفلاحين/ات الفقراء وصغار المزارعين/ات المحرومين من أراضيهم التي تقدر مساحتها الإجمالية ب 15 مليون هكتار والتي تسعى الدولة إلى تسهيل استحواذ الرأسماليين عليها عبر إعداد ترسانة قانونية تزيل كل المعيقات أمام سرقتها بدون مراعاة حجم الدمار الذي لحق الفلاحة المعاشية، ومفاقمة إفقار سكان القرى، عبر نزع الدولة للأراضي الفلاحية وتركيزها بيد مستثمرين خواص.

إلا أنه رغم ضعف المقاومات وهشاشة التنظيمات الذاتية لذوي الحقوق وأصحاب الأرض الأصليين- ات تبقى نضالاتهم- هن ورفضهم- هن لهذه الجريمة الكاملة الأركان في نهب أراضيهم- هن واستغلالها من دون حق وتشريد أطفالهم ودفع شبابهم للبطالة، من أهم العراقيل التي تواجه هذا الأخطبوط الرأسمالي.

القانون في خدمة ناهبي الأراضي السلالية:

القانون السائد هو إرادة الطبقة السائدة باعتباره الآلية التي بها تنهب الأراضي وتستنزف دون وجه حق من طرف المضطهدين على حساب أصحاب الأرض. ويشكل الظهير الاستعماري الفرنسي لـ 27 أبريل 1919 أولى الهجمات التي تعرضت لها الأراضي السلالية بالمغرب، إذ أتاح للسلطات الاستعمارية التحكم في أراضي الجموع واستغلالها لصالحها بهدف نزع السلطة من القبيلة وتسهيل التحكم في نواب الجماعات وتفكيك لحمة العشيرة بعد أن كانت ملكية الاراضي في يد أصحابها الاصليين يتم استغلالها بشكل جماعي لما يخدم مصلحة الجماعة قبل الفرد.

استمر الظهير الاستعماري حتى ما بعد الاستقلال الشكلي طبعا مع إدخال تعديلات ما هي سوى تأكيد لمضمون تيسير النهب وطمس الملكية الأصلية للأرض. وجاءت بعده جملة ظهائر ومراسيم أهمها القانون62.17 بشأن الوصاية الإدارية على الجماعات السلالية وتدبير أملاكها الذي تطبق أحكامه بالمرسوم رقم 2.19.973، والقانون 63.17 المتعلق بالتحديد الإداري لأراضي الجماعات السلالية المطبق أحكامه بالظهير 25 يوليوز 1969. تنطوي مجمل هذه النصوص على ما يخدم مصلحة الرأسماليين الخواص وكذا مؤسسات الدولة لإنجاز مشاريع لا يجني منها ذوو الحقوق اي شيء.

تُقدَّرُ المساحة الإجمالية لأراضي الجماعات السلالية أو الأراضي الجماعية بـ 15 مليون هكتار، وترتبط بها 10 ملايين نسمة (أي تقريبا ثلث سكان المغرب البالغين حوالي 34 مليون نسمة). ويُظهر هذا تفجرية وخطورة ما تُعده الدولة لمصير هؤلاء الملايين، ما يدفعها إلى اللجوء للمقاومة من أجل الحفاظ على حقوقها ورد تعديات الرأسماليين ودولتهم.

المقاومة وأشكال التنظيم لتحصين ملكية الأرض:

شهد المغرب العديد من نضالات ضحايا نهب الأراضي السلالية، معارك خاضها السكان المحليون ضد قرارات تصادر حقهم في امتلاك أراضيهم واستغلالها، أو ضد مستثمر أجنبي كان أو محلي يسعى لتشريدهم ونهب ممتلكاتهم التي تعد مصدر لقمة عيشهم. إلا أن ما يطغى على مثل هكذا مقاومات شعبية هو طابع التشتت والضعف في ظل غياب جسور تواصل. 

إن افتقاد هذه الفئات أدوات تنظيم ذاتي، وتدني مستوى وعيها، يتيح للمتربصين بمساحات الأراضي السلالية التلاعب بها، تارة باسم القانون والمساطر المعقدة التي لا يفقه فيها المواطن السلالي شيئا نظرا لارتفاع مستوى الأمية وسط هذه الفئة، وتارة أخرى بالترهيب ولغة التهديد والوعيد وقمع مناضلي الحركات وصولا إلى اعتقالهم وحتى دون محاكمة، وهذا ما وقع بجل النضالات بشأن الأراضي السلالية أهمها:

  • الجماعة السلالية لأولاد بوبكر التابعة للجماعة القروية لأولاد أكناو، قيادة أولاد أمبارك إقليم بني ملال. كانت هذه الجماعة أول من ناضلت منذ سنة 1999 حيت قررت الاحتجاج ضد السلطات، معيدة طرح ملفها الذي يعود إلى فترة الاستعمار، مما عرضها للقمع والتنكيل.
  • دوار أولاد اعكيل، ودوار الدلالحة، ودوار أولاد رافع، كلها جماعات سلالية تابعة للجماعة القروية مولاي بوسلهام، إقليم القنيطرة. خاضت هاته الدواوير نضالا بطوليا سنة 2017 ضد الجهات المسؤولة والمستثمرين المتواطئين مع السلطات المحلية وحتى نواب الجماعات السلالية المنتخبين.

اعتقلت الدولة أزيد من أربعة أشخاص في كل مدشر من بينهم امرأتين. لفقت لهم العديد من التهم الواهية بغرض تخويف السكان وترهيبهم ، إلا أن رد فعل ذوي الحقوق كان أقوى وأسرع. وما زادهم ذلك إلا إصرارا وصمودا وتصعيدا بقطع الطريق الرئيسة. لكن ضعف التضامن ومؤازرة المعركة المشروعة جعلتهم لقمة سائغة للمعتدين، باستعمال أسلوب آخر أكثر انحطاطا تمثل في استخدام البلطجة وهي وسيلة متداولة وبمباركة السلطات.

  • منطقة ولاد سبيطة، الكائنة ببوقنادل بين سلا والقنيطرة، حيث خاضت جماعتها السلالية أيضا معركة ضد مافيا العقار الممثلة في شركة “الضحى” التي فوتت لها 800 هكتار من الأراضي السلالية بكل أساليب النهب والاحتيال دون أدنى تعويض لذوي الحقوق، بل أكثر من ذلك جرى إجبارهم بقوة القانون على الإفراغ وترك أراضيهم؛ ما يعني تشريد أزيد من 400 عائلة.
  • يعاني أيضا ذوي الحقوق بالأراضي السلالية بالضفة الشرقية بجماعة خميس دادس، باقليم ورزازات، من نفس الممارسات التي تسعى بها السلطات المحلية إلى تفويت أراضي الجموع لصالح مشاريع سياحية دون أدنى مراعاة لأصحاب الأرض.
الاستحواذ على الأراضي

يجب أن تصمد هذه المعارك البطولية المدافعة عن الأرض وعن كرامة ذوي الحقوق، وأن تُطور آليات التشبيك والتنسيق فيما بينها إلى أن يجري إلغاء جميع القوانين الجائرة المصادِرة لحق تملك الأرض من طرف السكان المحليين، والكف عن تفويتها لتشييد مشاريع تجارية وسياحية لا تخدم السكان المحليين.

النساء في صلب معارك الأراضي السلالية:

تكرس القوانين المُنظمة لتملك أراضي الجموع والحق في استغلالها والاستفادة منها ميز ضد النساء، شأنها شأن كثير من الأعراف في جل القبائل التي تسلب المرأةَ حقَّها من التصرف في أرض الجماعة. ولكن مسار نضالات الجماعات السلالية يعكس واقعا آخر. إذ نجد النساء القلب النابض لهذه المعارك. فمنذ سنة 2007 بسهل الغرب، بدأت شرارة احتجاج السلاليات لتنتشر في جملة جهات حيت رفعت المرأة السلالية صوتها في وجه المؤسسات التابعة لوزارة الداخلية المتحكمة في أراضي الجموع بالمغرب رافضة منطق الميز الجنسي الذي يحرم النساء من المناصفة في توزيع الأراضي مقارنة بذكور الجماعة، وهذا راجع للتفسير القبائلي الذي تضعه العشيرة كمبرر لحرمان النساء من أراضي الجموع، وهو تخوف دخول الغرباء على القبيلة عن طريق زواج النساء. وبهذا المنطق يجري حرمان النساء من أبسط حقوقهن؛ أي الانتماء لعشيرتهن، كما تجدر الإشارة أن كل نواب الجماعات السلالية بالمغرب ذكور، أي أن النساء محرومات أيضا من مواقع القرار. كما تقصى النساء في معظم الاجتماعات من التعبير عن رأيهن، تارة بسبب ما راكمنه خلال التنشئة الاجتماعية (الخجل، صوت المرأة عورة، المرأة ناقصة عقل…)، وتارة أخرى بسبب الأمية وضعف وعي النساء مقارنة بالرجال. وطبعا، ليس تجذر الأمية وسط النساء قدرا محتوما، بل نتيجة فشل برامج التنمية المخصصة لاستقطاب النساء.

يدفع سلب النساء حقهم من عائدات أراضي الجموع، ومن تملكهن لأراضيهن للهجرة، نحو المدن للعمل في ظروف قاسية ومجحفة وحاطة من كرامتهن. ويعملن معظم الأحيان في مهن موسمية، أو خادمات بيوت، أو يُستغلن يدا عاملة رخيصة في قطاع الصناعة التحويلية، في ظل اضطهاد مركب حيث فرط الاستغلال و التحرش الجنسي.

يدل انخراط النساء في النضالات الاجتماعية، سواء بالمدن أو بالقرى، ضد السياسات التي تساهم في تهميشهن وإفقارهن عن خواء مضمون برامج التنمية النيوليبرالية التي تعتمدها الدولة تجاه النساء. فنضال النساء السلاليات وصمودهن البطولي في مواجهة القمع من أجل أراضيهن دليل على أن ظفر النساء بحقوقهن يفرض النضال ضد سياسات الدولة التقشفية التي تقصف حياة ملايين النساء وتحكم عليهن بالعيش في تبعية اقتصادية دائمة، كما قد تدفعهن إلى مسارات ماسَّة بكرامتهن كما دفعتهن القروض الصغرى للدعارة والتسول.

يدفع سلب النساء حقهم من عائدات أراضي الجموع، ومن تملكهن لأراضيهن للهجرة، نحو المدن للعمل في ظروف قاسية ومجحفة وحاطة من كرامتهن. ويعملن معظم الأحيان في مهن موسمية، أو خادمات بيوت، أو يُستغلن يدا عاملة رخيصة في قطاع الصناعة التحويلية، في ظل اضطهاد مركب حيث فرط الاستغلال و التحرش الجنسي.

لا سبيل لصد الهجمة المنهجية على أراضي الجموع غير المقاومة

ستنجح مقاومة أصحاب الأراضي السلالية في صد المستثمرين الذين تسيل أراضي الجموع لعابهم، وفي فرض بدائل حقيقية تضمن السيادة على الأرض وموارد العيش، عندما تتوحد نضالاتهم-هن المحلية والجهوية والوطنية وتنسق، وتستفيد من تجاربها المتراكمة.

على الساكنة المحلية وذوي الحقوق النضال من أجل تحميل الجهات المسؤولة والدولة بمخططاتها كلفة هذا الوضع الذي يشرد الآلاف من الأسر ويجردها من أراضيها، واتخاذ إجراءات فورية تضمن صون كرامة السلاليين والسلاليات وتحصن لهم حقهم-هن في الأرض وعائداتها بشكل يساوي بين أفراد السلالة ذكورا وإناث. ورفض واقع التهجير الذي يسببه نزع ملكية الأراضي السلالية على السكان الأصليين.

لنناضل من أجل السيادة على ثرواتنا الطبيعية وضمنها الأراضي السلالية التي تشكل ملكا جماعيا وليست محض مدخلات إنتاج تُستثمَر من أجل مراكمة أرباح كمشة من الرأسمالين والمستثمرين الأجانب والمحليين. وبالموازاة مع هذا النضال من أجل سيادة غذائية؛ حيث الفلاحة المحلية تنتج ما نستهلك، بدل الزراعة الرأسمالية التي تنتج ما لا نستهلك، وتضطرنا إلى استيراد معظم غذائنا من الخارج.

يجب وقف كل الترسانة القانونية التي تضع “الوعاء العقاري” في مغرف الاستثمارات الزراعية الكبرى، والتي تحرم مالكي-ات الأرض الأصليين-ات من حق الاستغلال بشتى الوسائل، وتعويض ذلك بوضع قانون تنظيمي يُقرُّ ويثبت حق المنتجين-ات الصغار-ات في الأرض بالموازاة مع سن سياسة عمومية لحمايتهم- هن من تقلبات السوق والمناخ: تخفيض أثمان “المدخلات الفلاحية” وسعر الماء ودعم الحصول على التجهيزات، مع منع كلي للمزارع الرأسمالية الكبرى من الولوج إلى المياه الجوفية.

  • المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثاني من مجلة “سيادة”
  • للاطلاع على المقال وتنزيله من: الرابط

المراجع :

  • دفاعا عن السيادة الغذائية بالمغرب دراسة ميدانية حول السياسات الفلاحية ونهب الموارد
  • الموقع الرسمي للأراضي السلالية بالمغربhttp://www.terrescollectives.ma/ 
  • موقع أطاك المغرب: https://attacmaroc.org/
  • أنس سعدون: المغرب يصادق على قانون جديد للأراضي السلالية: المساوات…
  • حسن أكرويض : الجماعة السلالية بأولاد بوبكر إقليم بني ملال : حكاية نضال من أجل أرض مغتصبة
  • الصفحة الرسمية للجماعة السلالية ولاد سبيط 
  •  محمد الراجي :شرط “الإقامة” والفقر يدفعان سلاليين إلى بيع أراضٍ خارج القانون” هسبريس”
  • https://www.maroclaw.com/ عبرات-قانونية-على-فراغات-تشريعية-حول-الاستثمار في الأراضي السلالية