المزارعون/ات، عنوان صمود في وجه الكورونا



المزارعون في المنوال الاقتصادي التونسي

كان التفاوت الجهوي، والتنمية غير المتكافئة، من الأسباب الرئيسة التي استنهضت القوى الاجتماعية للثورة على الأوضاع في ديسمبر 2010 بتونس. فالخارطة التنموية التونسية تعاني تفاوتا صارخا يعمّقه مناخ صعب يتراوح بين الجاف وشبه الجاف، وهشاشة مفرطة بوجه التغيرات المناخية في مجمل المجال الجغرافي. حيث يتركز 70 بالمائة  من سكان تونس في المجالات الحضرية الساحلية، كنتيجة لموجات هجرة داخلية متعاقبة أفضت إلى تنقل أبناء الريف نحو أحواز المدن واستقرارهم بالأحياء الشعبية الهامشية بحثا عن العمل. لكن القطاع الفلاحي لا يزال يمثل الوظيفة الاقتصادية الأساسية في ثلاثة أرباع البلاد، وذلك بالرغم من العوامل الطبيعية والاقتصادية المكبّلة.

تأسست الدولة الحديثة في ستينيات القرن الماضي على قاعدة مبدأ ”الاشتراكية الدستورية”، وراهنت بشكل أساسي على التشغيل في الوظيفة العمومية، وعلى التعاضد القسري في قطاعات الفلاحة والتجارة، واحتكار الدولة للقطاعات السيادية والإستراتيجية. ولم يبق  تقريبا اليوم من هذا الأنموذج إلّا شعور عام لدى التونسيين والتونسيات بكون الدولة الفاعل الاقتصادي والاجتماعي المركزي، ذلك بالرغم من تقهقر أجهزتها وتراجع دورها وفاعليتها على كافة المستويات. ويعزى هذا التراجع إلى التوجه الليبرالي الذي اعتمدته تونس منذ سنوات السبعين، والمملى من طرف البنك العالمي وصندوق النقد الدولي.

يتسم منوال التنمية المعتمد اليوم في تونس بانخراطه العام في أطروحة التبادل الحر، ويرتكز على القطاعات ذات ميزات نسبية في السوق العالمية –الأوربية خاصة – مثل قطاع الصناعات الاستخراجية ممثلا في الفسفاط بوجه خاص، والصناعات الكيميائية والسياحة الكثيفة، وقطاع الخدمات الثانوية، والصناعات ذات القيمة المضافة الضعيفة، وكذلك الفلاحة المكثفة والمستنزفة. وجب أن نشير أيضا إلى كون النشاط الاقتصادي الرسمي (المعترف به قانونيا) لا يمثل تقريبا إلا نصف النشاط الاقتصادي الاجمالي، إذ تهيمن أنماط نشاط اقتصادي غير مهيكلة على العديد من المناطق والقطاعات، خاصة تلك الموجهة للسوق الداخلية والأسواق المجاورة ( ليبيا والجزائر).

تم الشروع بشكل ممنهج، منذ ستينات القرن الماضي، في ترحيل فوائض القيمة المنتجة في المجالات الريفية نحو المجالات الحضرية الساحلية، وذلك عبر تبخيس منتجات الجهات الداخلية في مواقع إنتاجها. ثم يتم تثمينها، عبر الوساطة والمضاربة والاحتكار، بما يتيح لرؤوس الأموال مراكمة الأرباح على حساب المنتجين الحقيقيين والمناطق الريفية. وتنطبق هذه الإستراتيجية سواء على منتجات القطاعات الاستخراجية  أو على المنتجات الفلاحية.

لا بد من التذكير أيضا بمراهنة الدولة التونسية منذ الاستقلال على سياسة الأجور الضعيفة من أجل رفع مقدرتها التشغيلية، وعوضت ضعف الدخل بتثبيت أسعار مواد الاستهلاك الضرورية ( الطحين، الحليب، البيض…) بدعمها من صناديق عمومية واحتكار توزيعها. هو ما يمثل أنموذجا آخرا من استنزاف الأرياف لصالح المجالات الحضرية.

كان من نتائج هذه السياسات الممنهجة تخلي المزارعين والمزارعات عن فلاحتهم المعيشية، فباتت مهمشة كليا وبلا مردودية بعد أن نجح الإرث الاستعماري في ترويج أفكار التحديث وشعاراتها المركزية كالفلاحة الأحادية المكثفة والاستيراد والتصدير والإنتاج من أجل التجارة… كما أصبحت سياسة الأجور المتدنية منذ الحقبة الليبرالية ميزة تفاضلية “قيمة جدا” من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

وساهمت عدة عوامل أخرى في مفاقمة إفقار فئة المزارعين والمزارعات نذكر منها:

استحواذ متواصل على الثروات الطبيعية، من أرض وماء وبذور، من طرف المستعمر بدايةً، ثم من طرف الدولة التي فتحت الباب بعد ذلك للشركات الريعية والمستثمرين في الفلاحة التجارية.

تخريب ممنهج لأنماط الفلاحة التقليدية، كالتي تجمع الزراعة والرعي والصيد واستغلال الغابات، والتي تتأقلم مع طبيعة مناخ المنطقة.

ضعف الاستثمارات العمومية في المناطق الريفية، سواء ذلك في القطاع الفلاحي أو في المرافق العمومية والبنيات التحتية، والتعويل على الاستثمار الخاص والأجنبي.

في المحصلة، تعاني مناطق تونس الريف الآن من حالة إفقار ممنهج ومدقع، إضافة إلى كونه ضحية منوال اقتصادي غير عادل يخدم مصالح مجموعة من الوسطاء والمضاربين والشركات الريعية التي تعمل على استئصال فائض القيمة ومراكمة الأرباح بدعم من الدولة بل تحت إشرافها.

الازمة الغذائية المرتبطة بوباء كوفيد 19،بين الغامض والمُستفز

ظهرت أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا في تونس منذ 9 مارس 2020، وهو ما يطابق “فترة الحسوم” وهي عشرة أيام من هبوب الرياح تسبق فصل الربيع، وهي فترة حاسمة في دورة الانتاج الفلاحي في تونس[1]. يتم خلال هذه الفترة من السنة تلقيح النخيل بالواحات والاستعداد لحصاد القمح والشعير وجني الخضروات  أو زرعها حسب خصوصيات كل جهة. وتتميز هذه الفترة بإنتاج أصناف الجزر والفلفل والبصل واللفت والخرشف… كما تمثل هذه الفترة أيضا موسم ارتحال وتنقل لدى الرعاة و مربي الماشية (التربيع).

تم إعلان حالة الحجر الصحي في تونس بتاريخ 20 مارس 2020 . وكان مصحوبا بعدة إجراءات ساهمت في نشوب بدايات أزمة غذائية. تجلت هذه الأزمة في مرحلة أولى في نقص حاد في المواد الغذائية الأكثر استهلاكا محليا، أي مشتقات الحبوب مثل الطحين والسميد والمعجّنات، إضافة إلى الأعلاف المركبة الخاصة بقطاع تربية الماشية. ويشترك هذان القطاعان في خضوعهما لسلطة الدولة تنظيمًا وإشرافا. فهي من تحدد سعر الحبوب، وتسيّر تجميع المنتوج وتحويله وتوزيعه في إطارمنظومات احتكارية ضيقة تعتمد الدواوين وثلّة الشركات الخاصة[2]. وبمجرّد الإعلان عن الحجر الصحي العام، تزايد الطلب على هذه المنتجات الأساسية، وفُقدت فجأة من السوق. وبينما كان المواطنون يتساءلون عن مآل محصول الموسم الفارط القياسي،  انهمك المضاربون والوسطاء في تكديس الأرباح دونما إحساس بالمسؤولية أو بخجل.

وعمدت السلطات، بقصد تعميم إجراءات الحجر الصحي في الأرياف، إلى غلق تام لمتاجر المُدخلات الفلاحية، إضافة إلى مجمل الخدمات الفلاحية. واقتصر عمل أسواق الجملة على ثلاث أيام فقط في الأسبوع. تسببت هذه الإجراءات في تشديد الخناق على فئة المزارعين في أوج مواسم الاستعداد والإنتاج، ما ساهم في إرباك مضاعف لعمليات التزود والبيع والتوزيع. نتج عن ذلك ارتفاع الأسعار في الأسواق بالنسبة للمستهلكين، بينما تدهورت لدى المنتجين حتى اضطر معظمهم للبيع بأسعار تقلّ عن كلفة الإنتاج لتخفيف الضرر[3].

من ناحية أخرى، كان من إجراءات الحجر الصحي تقييد حركة التنقل بتصاريح مسبقة تسلّمها وزارة الداخلية والسلطات المحلية، وبوساطة الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري[4] فيما يخص للفلاحين والصيادين ومربي الماشية الذين تضرروا بوجه خاص من هذا الإجراء. كما كانت حالة الطوارئ التي صاحبت الحجر الصحي وبالا على الصيادين الممارسين مهنتهم ليلا و على الرعاة الذين يسكنون عادةً البراري في هذا الموسم.

ومثلت جائحة كورونا كارثة حقيقية على صغار ومتوسطي الفلاحين الذين استثمروا في منتجات موجهة للتصدير، فضلا عن اضطرارهم لبيعها بأسعار جد متدنية  بفعل استحالة التسويق وافتقادهم لوسائل التخزين. وتضرر بشكل خاص في هذا السياق منتجو الفراولة والخرشف الذين واجهوا، فضلا عن تداعيات الجائحة على نسق التصدير، عواقب محصول جيد في هذه المنتجات في أوروبا[5]

أما في المدن، فقد تعطل مجمل أشكال الاقتصاد غير المهيكل منذ فرض إجراءات الحجر الصحي: التجارة بمختلف أشكالها، بدءً بالتجارة الحدودية وصولا إلى بائعي أكياس البلاستيك في الأسواق اليومية والأسبوعية، إضافة إلى المقاهي والمطاعم الحانات والمواصلات ومحاضن الاطفال والخدمات المنزلية والخدمات الصحية والحرفيين… وهذا ما أحال فئة واسعة من القوى العاملة إلى البطالة بين ليلة وضحاها، تاركا أعداد مهولة من العائلات دون مداخيل بينما ارتفعت فجأة مصاريف التزود بالأساسيات الغذائية. استشعرت العديد من العائلات الأزمة القادمة، ما دفعها إلى الهروب إلى أرياف مسقط الرأس من أجل ضمان حد أدنى من الأمن الغذائي. ومثلت الممارسات التضامنية طوال فترة الحجر الصحي أهم آلية لتأمين القوت اليومي لضعاف الحال.

في سياقات الحجر الصحي الحالية، تجد كل العائلات المقتاتة من الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة وأشكال التشغيل الهش نفسها معرضة لمخاطر الجوع ونقص التغذية، فيما يحاول المزارعون والمزارعات وضع حد لإشكالات التزويد والإنتاج، الأمر الذي لن يؤثر على محصول هذه السنة وحسب، بل وبكل تأكيد على محصول السنة القادمة أيضا.

التحديات الغذائية، ما الذي بوسعنا انجازه حتى تستحيل الازمة مكسبا[6]

ستمثل إشكالية توفير الغذاء إحدى أبرز التحديات في تونس في الأشهر القادمة، ما يستوجب بكل تأكيد العمل على تحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي للصمود بوجه الأزمات الغذائية المحتملة. ومن الضروري، لتحقيق هذا المبتغى، دعم الإنتاج الفلاحي بجملة إجراءات أهمها تأمين السيولة الكافية للمنتجين عبر تعليق مديونيتهم  وزيادة هوامش أرباحهم. كما يجب العمل على تسهيل توزيع المنتجات الموسمية، وإخضاع الموجهة منها إلى لتصدير للتحويل محليا، أو تصبيرها وتوجيهها نحو السوق الداخلية، ما يفرض تحسين إمكانات التخزين وتشجيع التحويل وتكوين المخزونات الإستراتيجية وبنوك للغذاء.

صور : ليلى الرياحي

كما تمثل مهمة تطهير مسالك توزيع المنتجات الغذائية من كل من الوساطات المشبوهة تحديا أساسيا وجب التعجيل بالعمل على رفعه. ما يعني ضرورة تشجيع المنتجين على بيع منتجاتهم في أسواق الجملة، وذلك بدعم النقل وتحديد أسعار البيع. كما يفرض السداد للمنتجين عن منتجاتهم حال تسليمها للتجار في أسواق الجملة، والحسم جديا في كل أشكال المضاربة والاحتكار. ففي النهاية، سيتيح إقصاء الوساطات والقضاء على المضاربة انخفاضا مهما لأسعار مواد الاستهلاك، ما سيعود في هذا الظرف الصعب بالنفع على المنتج والمستهلك على حد سواء. أما على المدى المتوسط، فسيكون لزاما الشروع في إلغاء مسالك التوزيع المطوّلة وتشجيع البيع والشراء المباشر والتعاوني.

إن خيار دعم الفلاحة، وإنتاج الغذاء في هذه الظروف الحالية بالذات، خيار استراتيجي  قادر على جعل القطاع صندوق تموين وقارب نجاة جماعي في الآن نفسه. ففئة الفلاحين، من المزارعين والصيادين ومربي الماشية وعاملين بالحقول والغابات، عنوان صمود الشعب التونسي أمام هذا الوباء العالمي، لكونها من الفئات النادرة القادرة على العمل بنسق شبه عادي في مثل هذه الظروف الصحية. إن إجراء التباعد الاجتماعي ليس عائقا حقيقيا في النهاية لكون الأشغال الفلاحية عادة ما تجري في الهواء الطلق فضلا عن كون أغلبية المستغلات عائلية. إذ يمكن، باعتماد إجراءات وقاية بسيطة لوظائف الإنتاج الفلاحي، أن تتواصل بل وان تتطور.

ختاما، هل ستكون لحكومة تونس شجاعة التحرر من منوال اقتصادي أثبت فشله ؟ والإقدام على الاستثمار في المجالات الريفية والمرافق العمومية الضرورية، وتمويل القطاع الفلاحي، ودعم الإنتاج الوطني وحق المواطن في النفاذ إلى الغذاء، وتأكيد حق المزارعين غير المشروط في الأرض والماء والبذور وإعادة توجيه منظومات الدعم والامتيازات نحو الفلاحة المعاشية، وإعادة المكانة المركزية للمزارعين في المعادلة الاقتصادية والاجتماعية؟ إنه من شأن هذه الإجراءات أن تمثل خطوة في طريق انعتاق فئة الفلاحين من هذا المنوال الكارثي لو لم تتعاقد حكومة تونس مجددا مع صندوق النقد الدولي ولم تتعهد لمانحيها بمواصلة نفس السياسات الفاشلة المفقرة.

ليلى الرياحي \ تونس

جرى نشر هذا المقال في العدد الأول من مجلة ” سيادة” : رابط تحميل المجلة هنا


[1] http://www.fao.org/agriculture/seed/cropcalendar/cropcalendar.do

[2] https://news.barralaman.tn/labondance-des-cereales-une-malediction/

“رسميا”، لا يمكن للمنتجين الفلاحيين في تونس بيع منتجاتهم  إلا في أسواق الجملة التي يتحكم بها الوسطاء، محددين أسعار الشراء والبيع. ويمكن إعادة المواد الغذائية المعروضة في السوق إلى المنتج في نهاية اليوم في حال عدم شراءها. و يتحمل المنتج كذلك مصاريف تنقل بضاعته، أي انه تحت رحمة الوسطاء. وليس هذا المثال الحالة الوحيدة ضمن الممارسات المافيوزية الناتجة عن إجراءات الحكومة في فترة الحجر الصحي، اذ تشكل أيضا تصاريح التنقل مجالا جيدا لاغتناء الماسكين بسلطة منحها.

منظمة نقابية وطنية ممثلة للفلاحين3

خلال هذه السنة، وجد منتجو زيت الزيتون انفسهم في وضعية مشابهة بما ان انتاجهم لم يتم شراؤه من قبل الاتحاد الاوروبي بصفته الشريك الرئيسي لتونس[5]

[6] https://nawaat.org/portail/2020/04/07/covid-19-revoir-le-modele-economique-tunisien/

ليلى الرياحيAuthor posts

أستاذة جامعية وباحثة من تونس، وعضو مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية والمنصة التونسية للبدائل.