الترحال الرعوي بين تحميله مسؤولية التدهور البيئي واعتباره سبيلا لاسترجاع التنوع الإحيائي


(قطيع أغنام وماعز لرعاة من قبيلة إلمشان (اتحادية قبائل أيت عطا) أثناء رحلتهم الموسمية من كتلة صاغرو نحو مراعي إزوغار، منطقة دادس، السفوح الجنوبية للأطلس الكبير الأوسط، المغرب)


الرعي من أقدم أنماط الإنتاج التي مارستها المجتمعات البشرية منذ آلاف السنين، وقد تطورت المنظومات الرعوية عبر الزمن واكتسبت خصوصيات تحت تأثيرات المناخ والجغرافيا والثقافة والسياسة. يحتل الرعي إلى اليوم موقعا مهما في مجتمعاتنا، حيث يوفر حوالي 10% من الإنتاج العالمي للحوم الأبقار و30% من لحوم الأغنام والماعز 1، بالإضافة إلى منتجات أخرى؛ غذائية كالحليب ومشتقاته، وزراعية كالأسمدة العضوية في الأنماط الزراعية الرعوية الهجينة، وصناعية كالصوف والجلد. هذا بالإضافة لكونه مصدر الدخل الأساسي لحوالي 200 مليون إنسان 2 حول العالم.

الترحال الرعوي
امرأة من قبيلة تيفنوت (اتحادية أيت واوزگيت) تسوق بقراتها للرعي قرب عزيب تيفنوت، عالية وادي أوريكة، الأطلس الكبير الغربي، المغرب

يرتبط هذا النشاط الاقتصادي في أذهان العديد من الناس بالرعي الجائر الذي يتسبب في تراجع النباتات الرعوية وهيمنة نباتات أخرى على الغطاء النباتي، ما يفضي إلى تدهور التنوع الإحيائي للحيوانات والنباتات في المراعي. كما يؤدي الضغط الرعوي إلى انخفاض مسامية التربة وتدهور خصائصها وإمكانية نفاذ المياه وبالتالي نقصان المواد العضوية وإمكانيات تخزين المياه. إلا أن المواشي الرعوية يمكن أن تساهم في إغناء التنوع الإحيائي عبر توزيع البذور بحوافرها وعن طريق روثها الذي يغني التربة بالمواد العضوية أيضا، كما أنها تلعب دورا وقائيا من حرائق الغابات، باستهلاكها الكتلة الحيوية التي يمكن أن تكون وقودا لها. وقد حافظت مختلف الأنظمة الرعوية التقليدية عبر التاريخ على التنوع الإحيائي في المراعي بفعل مصلحة الرعاة المباشرة في الحفاظ عليه 3.

يعتبر الرعي من أكثر الأنشطة الاقتصادية تأثرا بالتغير المناخي 4، فارتفاع درجات الحرارة وزيادة تردد سنوات الجفاف المرفقة بعجز في الموارد المائية سيزيد من حدة التدهور البيئي، وبالتالي في تراجع الغطاء النباتي والتنوع الإحيائي، خاصة في منطقتنا.

أثر الجفاف على مراعي إفرض نـ’زيني التابعة لاتحادية أيت سدرات القبلية، السفوح الجنوبية للأطلس الكبير الأوسط، المغرب

لا يزال الرعي التقليدي مهيمنا في مرتفعات شمال إفريقيا، حيث تشكل المراعي عمود التربية الموسعة للمواشي، وتعتبر هذه المنطقة ذات إرث ثقافي رعوي غني يعود إلى العصر البرونزي. وقد شكلت مرتفعات الأطلس عبر التاريخ ملجأ غنيا بالموارد للمجتمعات الرعوية القادمة من الصحراء هربا من الجفاف الذي حل بها بعد انتهاء الحقبة الإفريقية الرطبة 5. وتطورت، في سياق من المنافسة الحادة على الموارد النادرة بين مختلف المجموعات الرعوية، نظم رعوية معقدة متداخلة مع البنيات الاجتماعية والاقتصادية لمختلف المجموعات المستوطنة والمستغلة لهذه المرتفعات. هذه النظم محكومة بقواعد عرفية تنظم الولوج للمراعي وتحدد المجموعات التي لها حقوق استغلالها.

نقش صخري يعود للعصر البرونزي يجسد إحدى الوعليات، آثار مجتمعات ما قبل التاريخ التي عمرت السفوح الشمالية للأطلس الكبير الغربي والتي اتخذت الرعي والبحث عن الطعام كنمط عيش، عزيب سگيگي، أگدال ياگور، الأطلس الكبير الغربي، المغرب

المنظومات الرعوية التقليدية كجواب على ندرة الموارد

شهد جنوب المغرب الحالي خلال نهاية القرن 16 وبداية القرن 17 أحداث جفاف متتالية وكارثية، أدت إلى ظهور نظام أگدال الرعوي 6، وهو نظام تسيير يقوم على إتاحة فترة راحة بيولوجية للمراعي خلال فترات تكاثر الأنواع النباتية المتواجدة بها حتى يتأتى الحفاظ على الغطاء النباتي وتنوعه البيولوجي. يتم إذن تحديد مواعيد لإغلاق المرعى، ومنع الولوج إليه مؤقتا، ثم فتحه بعد مراحل الإزهار وتجدد مخزون البذور في التربة 7. ويمكن ذلك بالاعتماد على مجموعة من الممارسات المتكاملة؛ كالاستغلال الدائري للمراعي بالنسبة للقطعان المرتحلة بين السهل والدير والجبل أو بين مراعي السفوح الجنوبية والسفوح الشمالية للسلسلة الجبلية، والتكامل بين الأنشطة الزراعية والرعوية، واتفاقيات رعوية بين مختلف المجموعات للاستفادة من مراعي بعضها إلى غير ذلك من الممارسات. وقد سعت مختلف المجتمعات الرعوية إلى السيطرة على مراع متعددة على ارتفاعات جغرافية مختلفة بغية تحقيق التكامل الارتفاعي لضمان الموارد الرعوية طوال السنة، وكذا لتجنب الضغط على المراعي وتدهورها. ويتجلى ذلك في احتلال هذه المجموعات لمجالات طولية تقطع السلاسل الجبلية عموديا. ولعل مثالين من التراث الشفهي الشعبي لقبائل أيت سدرات وأيت عطّا، اللتين تحتلان مجالات من السفوح الشمالية-الغربية للأطلس الكبير الأوسط (أمالو)، والتي تتميز بمناخ معتدل رطب معرض للمؤثرات المحيطية، ومجالات في سفوحه الجنوبية-الشرقية (أسامّر)، ذات المناخ القاري الجاف المعرض للمؤثرات الصحراوية، خير معبر عن الوعي بأهمية هذا التكامل: عند الأولى “سْگْ أَفْروخْ آرْ تَسافْتْ” (من النخيل إلى السنديان.)، وعند الثانية: “سْگْ إسْلمانْ آرْ ودادْن” (حرفيا: من السمك إلى الضأن البربري، أي من مواطن الأسماك في سافلة الوديان إلى مواطن الضأن البربري في أعالي الجبال 8. حيث تمتد مجالات هذه الأخيرة على مئات الكيلومترات (اتجاه جنوب شرقي-شمال غربي) من واحات درعة الصحراوية جنوبا، وعبر كتلة صاغرو بالأطلس الصغير الشرقي وحوض ورزازات وحتى السفوح الشمالية للأطلس الكبير الأوسط، حيث تمتلك مجموعات منضوية تحت هذه الاتحادية القبلية مراعي لازال بعضها منظما بنظام أگدال.

مراعي إزوغار التابعة لاتحادية أيت عطا بالسفوح الشمالية للأطلس الكبير الأوسط، المغرب
رعاة رحل من قبيلة إلمشان (اتحادية قبائل أيت عطا) أثناء مرورهم بمراعي مجدگ التابعة لحلفائهم أيت مگون، خلال رحلة انتجاعهم، أسيف مجدگ، عالية وادي مگون، الأطلس الكبير الأوسط، المغرب

تُسمى بـأگدال أيضا فترة منع الولوج للمراعي وفي نفس الوقت المراعي الخاضعة لهذا النظام. يتم تسيير هذه المراعي بشكل أفقي من طرف مستعمليها (ذوي الحقوق) عبر مجالس تسمى لجْماعْتْ أو أَجْمُوعْ (صيّغ مُمَزّغَة لـ: الجماعة) أو أَگْراوْ، يترأسها شخص يسمى أَمْغارْ نْـ’ تُوگا أو أمغار نِـ’يگُدْلان (شيخ العشب، أو شيخ المراعي). يتم اختياره كل سنة من طرف جماعة ذوي الحقوق، وتفوض له مهام تنظيم الرعي في أگدال، والسهر على احترام قواعد استغلاله؛ كتوزيع أماكن الملاجئ والحظائر ومصادر المياه والمراعي المرفقة بها بين رعاة المجموعة المستفيدة، والحرص على عدم خرق قواعد الرعي كاحترام مسافة معينة بين الملاجئ وعدم استغلال مصادر مياه يعود حق استغلالها لرعاة آخرين أو الرعي في مراعيهم، وحراسة المرعى في فترة أگدال (منع الرعي المؤقت) أو تفويض حراسته لشخص آخر إلى غير ذلك من المهام. يتم اتخاذ إجراءات عقابية في حق المخالفين، وتختلف العقوبات المفروضة حسب نوع المخالفة، فقد يتم الاكتفاء بغرامة وربما يصادر رأس ماشية من قطيع المخالف أو يضحى بها، وفي حالات تفرض عليه إقامة مأدبة يدعى لها كل أفراد المجموعة 9. وتختلف السلط المفوضة لـ أمغار باختلاف المجموعات وبنياتها الاجتماعية والسياسية، فقد يكون صاحب القرار في مواعيد فتح وإغلاق أگدال وغيرها من القرارات وقد يكون دوره استشاريا وتترك القرارات لجماعة الرعاة.

ملجأ لرعاة رحّل من اتحادية أيت عطا بمراعي إزوغار، الأطلس الكبير الأوسط، المغرب
قطيع أغنام وماعز وجمال لرعاة رحل أثناء عودتهم للمخيم، مراعي إزوغار، الأطلس الكبير الأوسط، المغرب
النظم الرعوية
ملجأ لرعاة مزارعين من قبيلة أيت أوشگ (اتحادية قبائل مسفيوة) في عزيب تَلاتْ نِـ’يفرض، أگدال ياگور، الأطلس الكبير الغربي، المغرب
الرعي والترحال الرعوي
إحدى نقط المياه التي يتزود منها رعاة أيت عطا أثناء تواجدهم بمراعي إزوغار، الأطلس الكبير الأوسط، المغرب

السردية البيئية الاستعمارية واستهداف الترحال الرعوي

يجب علينا، حتى لا نضفي صبغة المثالية على نظام أگدال والنماذج التقليدية لاستغلال وتسيير الفضاء الرعوي، الوقوف على التحديات التي تعرضت لها ولا تزال، والتي تهدد اليوم استمراريتها ونجاعتها في الحفاظ على المراعي. فقد ضعفت البنيات الاجتماعية للمجتمعات المحلية ومؤسساتها، التي تطورت في ظلها هذه المنظومات الرعوية بشكل كبير. وبدأ تآكلها تدريجيا باضطراد مع توطد السلطة المركزية التقليدية منذ قرون، خصوصا في المناطق القريبة من مراكز السلطة والتي كانت تحت سيطرتها المباشرة. غير أن هذه السيرورة تسارعت بشكل كبير ، وتعممت جغرافيا خلال القرن الماضي، ابتداء من استعمار المغرب 10.

غداة توقيع معاهدة فاس في مارس سنة 1912، شرع المستعمِر في استهداف البنيات الاجتماعية والاقتصادية للقبائل المقاومة، والتي طالما حظيت باستقلال نسبي عن السلطة السياسية المركزية. وكان الانتجاع والترحال الرعوي أبرز الأنشطة الاقتصادية التي سعت الإدارة الاستعمارية إلى تصفيتها، وقد لعب في ذلك مؤسستان استعماريتان دورا كبيرا؛ مصلحة المياه والغابات (Service des eaux et forêts) ومصلحة تقنيات الدجانة والأوبئة الحيوانية (Service de Zootechnies et des Epizooties) اللذان تم إنشاءهما سنة 1913، ليصبحا على التوالي: إدارة المياه والغابات (Administration des eaux et forêts) ومصلحة تربية المواشي (Service de l’élevage) ابتداء من سنة 1917. كانت أول خطوة للإدارة الاستعمارية في هذا الصدد ضمّ مجمل الغابات المغربية إلى ملك الدولة العام في نونبر 1912، بما في ذلك المراعي الغابوية المملوكة تاريخيا للقبائل، لتعبئ ترسانة قانونية متشددة تستهدف مباشرة أنماط عيش المجتمعات المحلية: ابتداء من ظهير 27 دجنبر 1913 المنظم لـ “حماية الغابات” ثم ظهير 10 أكتوبر 1917 المنظم لـ “حفظ” واستغلال الغابات. شرعنت الإدارة الاستعمارية سياستها الغابوية بسردية انتكاسية عن التاريخ البيئي للمغرب وللمغرب الكبير بصفة عامة. سيطرت عليها رواية تدهور الغابات واسع النطاق بهذه المنطقة بالمقارنة مع الجنة الأسطورية في الأدب الروماني عن شمال إفريقيا، وإلقاء مسؤولية قرون من التدهور على الترحال والانتجاع الرعوي، وبالتالي اعتبارهما أكبر خطر يهدد الغابات بالمغرب. عملت الإدارة الغابوية، مستعينة بتشريعات أخرى، للتحكم في الانتجاع الرعوي والحد منه، كالمرسوم الوزاري لسنة 1921 الذي يحدد المستفيدين من الانتجاع في المراعي الغابوية بانتماءهم القبلي، ويقصي عددا كبيرا من المجتمعات المحلية التي كانت تستعمل هذه المراعي، بالإضافة إلى فرض إجراءات بيروقراطية على الرعاة الراغبين في ولوج المراعي وفرض ضرائب عليهم. بعد انتهاء الحملة العسكرية الفرنسية ضد القبائل المقاومة، باشرت الإدارة الاستعمارية التضييق أكثر على مجالات رعي وحقوق استغلال الرعاة الرحل وقلصت من عدد الماشية المسموح لها الانتجاع في عدة مجالات 11.

قافلة لرعاة رحل من قبيلة أيت عطا بمنطقة دادس، الجنوب الشرقي للمغرب.

تجاوز تأثير السردية الانتكاسية لغابات المغرب وتحميل المسؤولية للرعاة مجال عمل الإدارة الغابوية إلى جهاز تربية المواشي الذي كان يدبر أغلب المجالات غير الغابوية. فقد أوكلت له مهمة تدبير المراعي ابتداء من سنة 1920. عمل هذا الجهاز منذ سنواته الأولى على تحويل الإنتاج المعيشي للمواشي إلى إنتاج للسلع، عبر تكثيف إنتاج اللحوم والحليب والصوف وتسويقها للمستهلك الأوربي. هذا النمط من الإنتاج يحتاج إلى زراعة مزيد من الأراضي لإنتاج العلف، وغالبا ما كان ذلك يتم على حساب أفضل الأراضي الرعوية الموسمية. اعتمد الجهاز في تدبيره للمراعي على منع ولوج عدة مجالات رعوية لخلق احتياطي من العلف، وزراعة أنواع محددة من النباتات الرعوية، و”تحسين” المراعي بزراعة أنواع مستوردة. كما كان يفرض رخصا مدفوعة الأجر للولوج للمراعي التي تم العمل عليها في أغلب الأحيان 12.

كان لهذه السياسات الاستعمارية أثر بالغ على البنيات الاقتصادية للمجتمعات المحلية، خصوصا الرعاة الرحل الذين أجبر العديد منهم على الاستقرار أو التخلي عن الرعي نهائيا بعد مصادرة مراعيهم والإضرار بمؤسساتهم الرعوية ومنظوماتهم التقليدية التي لا تجد لها مكانا في التشريعات القانونية، بل على العكس تعتبرهم مشكلا يجب التخلص منه.

استمرت هذه السياسات بعد استقلال المغرب، حيث لا تزال التشريعات الغابوية من قبيل ظهير 10 أكتوبر 1917 والمراسيم والقرارات والتعديلات المتعلقة به سارية المفعول إلى اليوم، بالإضافة إلى الخيارات الاقتصادية المتعلقة بتربية المواشي وتدبير المراعي؛ كتكثيف الإنتاج، والتحكم في الرعي، وتشجيع الاستقرار وغيرها من التوجهات التي تخدم اقتصاد السوق على حساب المجتمعات المحلية والبيئة.

ركزت مشاريع تنمية المجال القروي في العقود الثلاثة الأخيرة، كمشروع تنمية الأطلس الكبير الأوسط (PHAC: MOR/92/010)، على إدخال البذور المعدلة للحبوب والثمار، وسلالات ماشية محسنة وتشجيع السكان المحليين على تبني أنظمة إنتاج كثيفة. كما ذهبت في نفس الاتجاه مشاريع أخرى مولت من طرف قروض متعددة الأطراف أو قروض حكومية أجنبية. وحتى مشروع الحفاظ على التنوع الإحيائي عبر الانتجاع الرعوي في الأطلس الكبير الأوسط (CBTHA : MOR/99/G33/A/1G/99) المراد به إعادة الاعتبار للممارسات الرعوية التقليدية ودورها في الحفاظ على التنوع الإحيائي للمراعي افتقر تفعيله إلى العمل التشاركي مع الفاعلين المحليين المعنيين بالمشروع، وركزت على السكان المستقرين أكثر من الرعاة المرتحلين، حيث اقتصر العمل مع المنظمات الرعوية على تهيئة نقاط التزود بالماء. كما افتقر برنامج العمل إلى إجراءات عملية لدعم أگدال والحد من انتشار الزراعة في المراعي. وكانت نتائجه متواضعة في علاقة بالتأثير على الغطاء النباتي والتنوع الإحيائي للمراعي، إلى غير ذلك من أهدافه 13. ويعزى فشل هذا المشروع إلى تعارض إجراءات التدخل الاعتيادية للسلطات، المحكومة بالقوانين الغابوية والرعوية وبالسردية البيئية المعتبرة الرعاة سبب التدهور البيئي، مع أهدافه. ويعبر آخر قانون منظم للرعي عن هذه النظرة بفرضه إجراءات بيروقراطية مكثفة على القطعان المرتحلة، وبجعل كل القرارات المتعلقة بفتح المراعي وإغلاقها وممرات عبورها ومناطق استقرارها بيد الإدارة وتحت مراقبتها المشددة 14.

النظم الرعوية
أگدال ياگور التابع لاتحادية مسفيوة القبلية، لا تزال هذه المراعي المحمية بنظام أگدال شاهدا على نجاعة النظم الرعوية التقليدية في الحفاظ على التنوع الإحيائي النباتي والحيواني، الأطلس الكبير الغربي، المغرب
الترحال الرعوي
زوج بومة صغيرة (موكا أو تاوُوكْت بالأمازيغية، الاسم العلمي : Athene noctua ) قرب عزيب ويگران بأگدال ياگور، الأطلس الكبير الغربي، المغرب
مراعي باكور
ثعلب بربري (أباغوغ أو أشعب بالأمازيغية، الاسم العلمي : Vulpes vulpes barbara) بالسفح الشمالي لجبل أوزغيان في مراعي ياگور، الأطلس الكبير الغربي، المغرب
الرعي في المغرب
بوعميرة (عوسق، الاسم العلمي : Falco tinnunculus tinnunculus) قرب عزيب سگيگي في أگدال ياگور، الأطلس الكبير الغربي، المغرب

الرعي وإشكالات التغير المناخي والسيادة الغذائية

طغت على السرديات البيئية التي خدمت الأجندات الاستعمارية مبالغات كبيرة ومغالطات في البيانات المعتمدة أو في تأويلها، تتحدى صحتَها الدراساتُ والأبحاث اليوم، حيث تتوفر أدلة كافية عن نجاعة أنظمة الرعي المتنقل التقليدية حتى في المراعي الجافة سواء من ناحية إنتاجيتها 15 أو استهلاكها الموارد غير المتجددة 16 قياسا بالتربية الصناعية الكثيفة للمواشي. كما أن الأدب المنتَج حول الأنظمة الرعوية التقليدية في المغرب، والاهتمام المتزايد بنظام أگدال في مختلف المجالات، من علوم النبات 17 والإيكولوجيا 18 والجغرافيا 19 إلى العلوم الاجتماعية 20، يظهر بجلاء حفاظ الأنظمة التقليدية على المراعي والغابات 21 وتنوعها الإحيائي بالمقارنة مع الإجراءات الحديثة للإدارة الغابوية. غير أنها ضعفت بشكل كبير في العقود المنصرمة، حيث أدت مصادرة المراعي إلى الضغط على المجالات المتبقية وتدهورها والإخلال بالتكامل والاستغلال الدائري للمراعي الذي يعتبر عمود هذه الأنظمة الرعوية، ما جعل الرعاة التقليديين يتخلون عن نظام أگدال في العديد من المراعي التي تشهد اليوم ضغطا رعويا وتدهورا كبيرا. كما تم، مع توطد الإدارة المركزية للدولة، القضاء على الاستقلالية السياسية لهذه المجموعات وحكمها الذاتي عبر مؤسساتها التقليدية، التي تبلورت في رحمها هذه المنظومات الرعوية.

الترحال الرعوي
راع من قبيلة أيت تيغدوين (اتحادية مسفيوة القبلية) يرعى غنمه قرب عزيب سگيگي في أگدال ياگور، الأطلس الكبير الغربي، المغرب

نعيش اليوم في ظل التغير المناخي الذي يهدد ظروف حياتنا وحياة العديد من الأنواع. ويساهم الإنتاج الصناعي للحيوانات بشكل كبير في أزمتنا هذه، حيث يتسبب هذا القطاع في أزيد من 14% من انبعاثات الغازات الدّفِئة الناتجة عن النشاط البشري 22، بالإضافة إلى اعتماده على زراعة الأعلاف غير المستدامة والتي تستنزف كمية مهمة من المياه. نقف أمام تحدي إيجاد بدائل تحفظ سيادتنا الغذائية وتراعي بيئتنا واستدامتها، ولن يتأتى هذا إلا بتقوّي المجتمعات المحلية وتحملها لمسؤولية تسيير مجالاتها ومواردها الطبيعية، ووعيها بالأخطار والتحديات البيئية التي تواجهها. يجب عدم الاستسلام للسرديات الأبوية التي تريد فرض الوصاية على مجتمعاتنا بحجة جهلها بمصلحتها وعجزها عن تدبير شؤونها، كما يجب عدم نسيان إبداعاتها لبنيات سياسية واجتماعية واقتصادية تشاركية واجتماعية خارج إطار السلطة التقليدية وحكمها، ووعيها بالأبعاد الإيكولوجية لفضاءاتها، وخير دليل النظم الرعوية العبقرية التي عاشت بها طوال قرون. لست أدافع هنا عن ماض بعيد أو أسعى لإعادته. فالبنيات التقليدية، رغم إيجابياتها وتقدمها على عدة مستويات، مقارنة بسياقها التاريخي، تظل قاصرة في مستويات أخرى. إذ رغم كونها تخدم المجموعة وتذيب السلطة وتوزعها تبقى أنظمة ذكورية يحتكر فيها أرباب الأسر القرار ولا تعطي لكل مكونات النسيج المجتمعي نفس حقوق المشاركة السياسية والامتيازات الاقتصادية، بالإضافة إلى أهمية العصبية القبلية في احتلال الفضاء والاستفادة من موارده. ومع ذلك، تشكل البنيات التقليدية، بنظرنا، أرضية يمكن الاشتغال عليها في بناء مجتمعي وخلق منظومة اقتصادية بديلة تقطع مع أوليغارشية السوق المدمرة لبيئتنا ولسيادتنا الغذائية.

الياس تراس/ المغرب

  • المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثالث لمجلة “سيادة” الكفاح من أجل العدالة المناخية والسيادة الغذائية.
  • الاطلاع على العدد كاملا وتحميله من الرابط

هوامش

  1.  De Haan, C., Steinfeld, H., & Blackburn, H. (1997). Livestock & the Environment, meeting the challenge, EC, FAO, IFAD, IDRC (Canada), WB, WRENmedia, Sullfolk, UK. https://www.fao.org/3/x5304e/x5304e00.htm 
  2.  De Haan, C., Steinfeld, H., & Blackburn, H. (1997). Livestock & the environment: Finding a balance, EC, FAO, IFAD, IDRC (Canada), WB, WRENmedia, Sullfolk, UK. https://www.researchgate.net/profile/Cornelis-De-Haan/publication/44550726_Livestock_the_environment_finding_a_balance_Cees_de_Haan_Henning_Steinfeld_Harvey_Blackburn/links/5786514408aec5c2e4e2e64f/Livestock-the-environment-finding-a-balance-Cees-de-Haan-Henning-Steinfeld-Harvey-Blackburn.pdf 
  3.  Ibid.
  4.   Thornton P., Van de Steeg J., Notenbaert A. & Herrero M. (2009). The impacts of climate change on livestock and livestock systems in developing countries: a review of what we know and what we need to know. Agric. Syst.
  5. تراس إ. (2022). سيادتنا الغذائية واستقلالنا عن الدولة: تاريخ شعبي لعلاقات الهيمنة في الأطلس الكبير الغربي وسهل الحوز بالمغرب، شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية
  6. Auclair L. (2012). Un patrimoine socioécologique à l’épreuve des transformations du monde rural. In : Auclair L. & Alifriqui M. Agdal : Patrimoine socio-écologique de l’Atlas marocain, IRCAM, IRD.
  7. Alaoui Haroni, S. & Alifriqui, M. (2012) Approche écologique des pâturages humides d’altitude et pratiques de gestion. Le plateau d’Oukaïmeden dans le Haut Atlas de Marrakech. In : Auclair L. & Alifriqui M. Agdal : Patrimoine socio-écologique de l’Atlas marocain, IRCAM, IRD.
  8.  Ait Hamza, M. (2012). Les Agdals du Haut Atlas Central : Formes d’adaptation, changements et permanences. In : Auclair L. & Alifriqui M. Agdal : Patrimoine socio-écologique de l’Atlas marocain, IRCAM, IRD
  9. استجوابات شخصية مع رعاة من اتحادية قبائل مسفيوة (أيت واگستيت، أيت تغدوين، أيت إنزال نـ’ودرار) في أگدال ياگور ورعاة من قبيلة إلمشان (اتحادية قبائل أيت عطا)، أبريل وماي وغشت 2021، يونيو 2022.
  10. تراس إ. (2022). سيادتنا الغذائية واستقلالنا عن الدولة: تاريخ شعبي لعلاقات الهيمنة في الأطلس الكبير الغربي وسهل الحوز بالمغرب، شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية
  11.  Davis, D. K. (2005). Potential Forests: Degradation Narratives, Science, and Environmental Policy in Protectorate Morocco, 1912-1956. Environmental History, 10(2).
  12.  Ibid.
  13.  Mission d’évaluation Finale, Rapport d’évaluation finale, Projet de conservation de la biodiversité par la Transhumance sur le versant sud du Haut Atlas (CBTHA), GEF, PNUD
  14.  قانون رقم 113.13 يتعلق بالترحال الرعوي وتهيئة وتدبير المجالات الرعوية والمراعي الغابوية، مديرية التشريع، وزارة العدل، المملكة المغربية
  15. Breman H. & De Wit C. T. (1983). Rangeland Productivity and Exploitation in the Sahel. Science, 221
  16. De Ridder, N., & Wagenaar, K. T. (1986). Energy and protein balances in traditional livestock systems and ranching in eastern Botswana. Agricultural Systems 20(1)
  17.  Alaoui Haroni S. & Alifriqui M. (2012) Approche écologique des pâturages humides d’altitude et pratiques de gestion. Le plateau d’Oukaïmeden dans le Haut Atlas de Marrakech. In : Auclair L. & Alifriqui M. Agdal : Patrimoine socio-écologique de l’Atlas marocain, IRCAM, IRD
  18. Dominguez Gregorio P. (2010). Vers l’éco-anthropologie. Une approche multidisciplinaire de l’Agdal pastoral du Yagour (Haut Atlas de Marrakech). EHESS, UAB
  19. Ait Hamza M. (2012). Les Agdals du Haut Atlas Central : Formes d’adaptation, changements et permanences. In : Auclair L. & Alifriqui M. Agdal : Patrimoine socio-écologique de l’Atlas marocain, IRCAM, IRD
  20.  Mahdi M. (2015). Paysages culturels de l’Agropastoralisme du Haut Atlas
  21.  Genin D., Fouilleron B. & Kerautret L. (2012). Un tempo bien tempéré. Place et rôle des Agdals dans les systèmes d’élevage des Ayt Bouguemmez. In : Auclair L. & Alifriqui M. Agdal : Patrimoine socio-écologique de l’Atlas marocain, IRCAM, IRD
  22. Rojas-Downing, M. M., Nejadhashemi, A. P., Harrigan, T., & Woznicki, S. A. (2017). Climate change and livestock: Impacts, adaptation, and mitigation. Climate Risk Management, 16

إلياس تراسAuthor posts

باحث مستقل ومصور فوتوغرافي وصانع أفلام. يشتغل على مواضيع مرتبطة بالدراسات القروية والسيادة الغذائية.