في ثمانينيات القرن الماضي، قررت مصر، بتوجيهٍ من الوكالة الأمريكية للتنمية، تصفية الزراعة الفلاحية في الوادي والدلتا والتركيز على المزارع الرأسمالية المُوجَّهة للتصدير، والاعتماد على الغذاء المستورد، ضمن سياق التَّخلِّي عن السيادة على الغذاء، والاعتماد على مفهوم “الأمن الغذائي”، وهو ما وضع الشعب تحت رحمة تقلُبات السياسة العالمية، وارتفاع أسعار/ أو توقف توريد الغذاء بين حين وآخر.
الأمن الغذائي.. إعادة تقييم
إذا أخذنا السلعة الغذائية الأكثر أهمية في مصر نموذجًا- وهي القمح- سنجد أنها أكثر دولة مستوردة للقمح في العالم، ويتم استيراده من أكثر من 14 دولة، وتستهلك البلاد نحو 13 مليون طن سنويًا، وتستورد أكثر من ثلثي احتياجاتها من الخارج، فيما تمثل واردات القمح نسبة تتراوح بين 4-5٪ سنويًا من إجمالي الواردات المصرية(1).
إنَّ ما يجعل القمح بمثابة مشكلة مُزمِنة في قائمة الواردات المصرية، هو ضخامة الكمية المُستوردة بالتزامن مع التغيرات المستمرة في أسعاره بفعل المضاربات في الأوقات الحرجة (2)، فضلًا عن تعرُّض إمداداته للاضطراب من وقت إلى آخر، بفعل النِزاعات العسكرية أو الأوبئة، أو حتى الأزمات الاقتصادية، وهو ما يجبر صُنَّاع القرار على تحمُّل فوارق الارتفاعات السِعرية عبر دعم الخبز المحلي الذي يمثل ضغطًا دولاريًا خصوصًا في أوقات الأزمة الاقتصادية، ويجبرهم أيضًا على البحث عن مُوردِين جُدد باستمرار.
وخلال العقدين الماضيين تعرَّضت مصر للعديد من الصدمات الغذائية، كانت أبرزها في عام 2008 حين أوقفت بعض الدول المُصدِّرة للقمح عمليات البيع وألغت العقود واتفاقات التوريد، خوفًا من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.
إذ رأت الحكومات في أوروبا الشرقية وروسيا- حين ذاك- أنَّ الاحتفاظ بالحبوب أكثر قيمة من الحصول على دولارات أمريكية تنخفض قيمتها بفعل تأثير الأزمة الاقتصادية، وهو ما أجبر الإدارة المصرية لتعديل قواعد التخزين الاستراتيجي بما يكفي لمد احتياجات السكان من القمح لمدة 6 شهور، بعد أن كانت تتراوح بين 3 و4 شهور، مع التوسع النسبي في زراعات القمح.
إنَّ ما يجعل القمح بمثابة مشكلة مُزمِنة في قائمة الواردات المصرية، هو ضخامة الكمية المُستوردة بالتزامن مع التغيرات المستمرة في أسعاره بفعل المضاربات في الأوقات الحرجة.
لكنَّ ذلك لم يمنع مصر من التعرُّض لصدمة غذائية في عام 2011 (3)، وهو درس كان كفيلًا بجعل الدولة تميل إلى الحلم القديم بالاكتفاء الذاتي من القمح، ولأن الدولة هي المُشترِي الأكبر للقمح المحلي، وصاحبة القدرات الأكبر على التخزين، فقد كانت الحكومة تشتري القمح من الفلاحين بسعر ثابت أعلى بكثير من أسعار السوق الدولية، وبفارق يصل إلى 84 دولارًا مقابل طن القمح المُنتَج محليًا في عام 2014، قبل أن يصل الفارق إلى نحو180 دولارًا عام 2016 زيادةً عن الأسعار العالمية (4).
في تلك الأثناء، كان بعض مسؤولي وزارة التموين متورطين في استغلال اتجاه الدولة لدعم إنتاج القمح المحلي في تحقيق أرباح طائلة عبر خلط القمح المُستورد الرخيص بالقمح المُنتج محليًا، واستغلال فارق السعر لصالحهم، وجرت إقالة وزير التموين، خالد حنفي في العام نفسه، بعد تورطه في قضية فساد، ليتولى اللواء علي مصيلحي الوزارة خَلفًا له.
جاءت وزارة مصيلحي لتحقق بعض التوازن بين أسعار القمح المحلي والمُستورد، بما يُحدُّ من نطاق الربح الناتج عن فروق الأسعار، وبالتالي تضييق دائرة الفساد (5) مع تفضيل استيراد القمح على توريده من الفلاحين.
في كل تلك المحطات، لم تتراجع الدولة عن الاعتماد على مفهوم الأمن الغذائي، والذي يتلخَّص في “توفير الغذاء” دون الخوض في سُبُل وإمكانات توفيره (6)، والذي عنيّ واقعيًا استمرار الحكومات في الانحياز إلى “لوبيات” استيراد القمح النافذين على حساب الفلاحين، حتى تعرّضت البلاد إلى صدمة أخرى في ظل انتشار وباء “كوفيد 19” (كورونا) الذي عطَّل سلاسل الإمداد والتوريد.
وهو ما دفع الحكومة إلى محاولة زيادة الرُقعة المزروعة من القمح لتقليص حجم الاستيراد دون جدوى، إذ ظلَّت البلاد تعتمد على ثلثي احتياجاتها من القمح المُستورد قبل أنْ تتعرض إلى صدمة غذائية أخرى نتجت عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إذ غطى حجم استيراد مصر من قمح الدولتين نحو 80% من احتياجاتها السنوية(7).
أثناء تلك الصدمات جميعها، كانت الاستجابة الحكومية تدور حول زيادة الاحتياطي الاستراتيجي، كوسيلة لتحسين الأمن الغذائي، وفي الصدمة الأزمة الأخيرة، حرصت على تنويع مصادر الحصول على القمح وتوفير مسارات بديلة للإمداد عن تلك المتقاطعة مع الحرب الدائرة في أوكرانيا.
أما الجانب الأهم في الاستجابة الحكومية لمشكلة اضطراب سلاسل الإمداد حاليًا، فهي رفع سعر توريد القمح من الفلاحين بنسبة 50% عن العام الماضي (2022) ليصل إلى 1500 جنيه بما يعادل 48 دولارًا في الأَرْدَب (وهو أقل من السعر العالمي) فقد تذكرت الدولة الفلاحين بعد أن كانوا ينامون بمحاصيلهم أمام الشِوَن الحكومية، ليبيعوا محصولهم إلى الحكومة التي كانت تحابي المجموعات العاملة في مجال استيراد الحبوب (8) على حساب الفلاحين الذين اتضح أخيرًا أنهم نقطة قوة ورصيد لهذه الدولة.
وينتج فلاحو مصر الجزء الأكبر من العشرة ملايين طن من القمح المحلي، في حين تستورد الهيئة العامة للسلع التموينية التابعة للدولة نحو 6 أطنان، مقابل استيراد القطاع الخاص لـ4 ملايين طن تقريبًا، وهو ما يخلق فجوة بين الإنتاج والاستهلاك تتجاوز النصف تقريبًا، ويتم سدها بالاستيراد الذي يثقل كاهل الموازنة العامة (9).
كُلفَة النموذج التصديري
لا شكَّ أنَّ السياسات الغذائية المُرتَكِزة على المساعدات والمِنح، بغرض تمويل الاستيراد، عُرضة لمخاطر كبيرة وقد تحمل بداخلها أوراق ضغط سياسي في ملفات بعينها، وحتى لو توفرت التسهيلات الائتمانية، فإنَّ التموينات الدولية لا يُعتمد عليها بشكل يقيني بالنسبة إلى بلد مُستورِد دائم للغذاء(10).
ويُمكِن النظر إلى آخر المساعدات التي تلقتها مصر في هذا الصدد، ففي يوليو الماضي، أعلن وزير التموين المصري، علي مصيلحي، عن توقيع اتفاقية تسهيل قرض متجدد بقيمة 100 مليون دولار مع صندوق أبو ظبي للتنمية، لتمويل مشترياتها من الحبوب من شركة “الظاهرة”، وهي شركة إماراتية متخصصة في زراعة وإنتاج الأعلاف وتوريدها إلى هيئة التَّحكُّم الإماراتية المسؤولة عن الأمن الغذائي للإمارات، وتستحوذ شركة “الظاهرة” في مصر على 116 ألف فدان مُوزَعة بين توشكى وشرق العوينات والصالحية والنوبارية (11).
في كل تلك المحطات، لم تتراجع الدولة عن الاعتماد على مفهوم الأمن الغذائي، والذي يتلخَّص في “توفير الغذاء” دون الخوض في سُبُل وإمكانات توفيره.
لقد كانت لعبة الاستثمارات الزراعية في الصحراء جذَّابة للحكومات المصرية المُتعاقِبة على مدار العقود الماضية، بحجة تحقيق الأمن الغذائي، لدرجة أنها انخرطت في تحقيق أمن الخليج الغذائي أيضًا!
هناك أكثر من 200 ألف فدان من الأراضي المصرية تملكها شركات سعودية وإمارتية تقوم بتصدير نصف إنتاجها إلى البلدين الثريين، ويمثل “البرسيم الحجازي” نسبة 50% من حجم هذه الصادرات، ويحتاج في زراعته إلى كمية من المياه تصل إلى 6 أضعاف الكمية المطلوبة لزراعة القمح.
ويجري تصدير “البرسيم الحجازي” لصالح المراعي الحيوانية الرأسمالية في الخليج والتي تعيد تصدير منتجاتها من الألبان إلى السوق المصرية، في استثمارٍ أقل ما يقال عنه أنه عديم العائد، بلْ ويستنزف موارد البلاد الشحيحة من المياه دون مقابل فعلي (12).
لذا؛ فإنَّ اقتراض ملايين الدولارات لشراء قمح مزروع على أرضِ مصرية وبمياه مصرية وبأيدٍ مصرية جرى منحها للمستثمرين الإماراتيين بثمن بخس، يثبت القصور الكُلي والفادح لتطبيق مفهوم الأمن الغذائي في مصر، ويعني بصورة واضحة فُقدان السيادة على الغذاء ونزح الثروة باتجاه البُلدان الغنية مع تحميل الميزانية عبء ديون يصعب ردها.
سارت مصر على مدى العقود الأربعة الماضية على خطط وتعليمات الوكالة الأمريكية للتنمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، واقتنعت الحكومات المتعاقبة بوجهة النظر “النيوليبرالية” السلبية في الزراعة الفَلَّاحية على أنها غير نموذجية، وأنَّ أساليب الإنتاج الفَلَّاحي تقف عائقًا أمام الإنتاج الزراعي الحديث، وأنَّ الفلاحين لا يعرفون شيئًا عن التجارة ولا يهمهم غير تأمين الغذاء لأنفسهم.
وتبنت البلاد النموذج البرازيلي للزراعة المُجهِدة للبيئة، والذي سار جنبًا إلى جنبٍ مع سياسات التكيف الهيكلي، وكان كلاهما عنصرين أساسيين للتحول الرأسمالي إلى الزراعة الذي أضرَّ بمنتجي الغذاء لصالح الشركات الرأسمالية الكُبرى (13).
لكنْ بعد أربعة عقود من الاستجابة لإرشادات المؤسسات الدولية بتصدير الفواكه واستيراد القمح، لا تزال مصر تقبع في المركز 77 من بين 113 دولة حول العالم، وفقًا لمؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2022 (14)، وضاع الهدف من التحوُّل نحو الزراعة الرأسمالية، وهو تحرير التجارة من أجل تمكين السلطات من جمع النقد الأجنبي وتسديد الديون الخارجية، إذ تضاعفت تلك الديون الخارجية من 22 مليار دولار عام 1981(15) إلى 165 مليار دولار بنهاية الربع الأول من هذا العام (16).
لقد وصل نموذج التوسع في الصادرات (تصدير الفواكه واستيراد القمح) الذي يرعاه صندوق النقد الدولي إلى أقصاه، وبينما تتحمل أغلبية السكان كُلفَته، يحصل القِلة من أصحاب المزارع الرأسمالية على الربح والفوائد، بفضل دعمهم من قِبَل الدولة مائيًا وضريبيًا وتوفير البِنيَّة التحتية لهم على حساب صِغار منتجي الغذاء.
ولم يَعُدْ الاعتقاد بأن الصادرات الزراعية تسهم في التنمية الاقتصادية عبر إمداد البلاد بالعُملة الصعبة اللازمة لشراء العناصر الإنتاجية الأساسية من الخارج، فعَّالا، وثبت خطؤه مرارًا، وفي كل مرة يفضي إلى أزمات حادة في سيولة النقد الأجنبي وتضخم الدَين العام وارتفاع معدل التضخم والعجز في الموازنة على نحو يجعله غير قابل للاستمرار (17).
سارت مصر على مدى العقود الأربعة الماضية على خطط وتعليمات الوكالة الأمريكية للتنمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، واقتنعت الحكومات المتعاقبة بوجهة النظر “النيوليبرالية” السلبية في الزراعة الفَلَّاحية على أنها غير نموذجية.
إذ يسير التوسع في التصدير مع ما تمنحه الدولة إعفاءات ضريبية وجمركية، جنبًا إلى جنبٍ مع التوسع بشكل أكبر في استيراد السلع الزراعية أيضًا، بعد أن تشكلت “لوبيات تجارية نافذة” تستفيد من جلب السلع الغذائية من الخارج.
الأمر الذي يؤثر سلبًا على احتياطات الدولة من العُملة الصعبة من ناحية، وعلى الأداء طويل الأمد للقطاع الزراعي ككل من ناحية آخر، ويصيب المزارعين بخسائر لا يمكن تعويضها يدفع بعضهم إلى تبوير الأرض والبناء عليها، أو ترك مهنة الفِلاحة كُليًا، أو اعتبار الزراعة نشاطًا جانبيًا إلى جانب العمل في مهنة أخرى، وهو ما نستطيع تلمسه في كامل أرجاء الريف المصري.
النظرة الشاملة للواقع الاقتصادي المصري تقرر أنه يمكن للبلد أنْ يقيد بعض المكاسب المباشرة من تجارة السلع الزراعية التي تؤدي إلى خلق جيوب تصديرية معزولة عن بقية القطاعات الاقتصادية، بل وتميل بطبيعتها إلى تحجير هيكل الاقتصاد والعيش على حسابه بشكل طفيلي، فلا توفر فرص عمل كافية، بلْ وتستنزف موارد البلاد الطبيعية، بالإضافة إلى كونها مَشُوبَةً بالفساد السياسي في الكثير من الأحيان، وذلك مقابل تصميم سياسات زراعية مُستَدامة تعتمد على الفلاحين وتدعمهم، بدلًا من فتح نوافذ للتربُح للقِلة النافذة سياسيًا.
فبعد درس الحرب الأوكرانية، لم يَعُدْ هناك مفر من إعادة النظر في هذا الاختلال الهيكلي بالاقتصاد المصري، وزيادة معدلات الاكتفاء الذاتي وتحسين القدرة التخزينية التي تتسبب في الهدر والتلف في الحبوب، وإعادة الدعم لمُدخلات الإنتاج، ورفع الإنفاق على مراكز البحوث والإرشاد الزراعي، وتحسين قدرة الفلاحين الذين ينتجون أغلب حاصلات مصر المُستَهلَكة في الداخل في الوادي والدلتا (الأراضي القديمة) على الرغم من الإهمال والتجاهل والانحياز لأصحاب المزارع الرأسمالية الكبيرة.
فالزراعة الفَلَّاحية- على الرغم من كل عيوبها- لا تزال أكثر كفاءة وأقل تكلفة واستنزافًا للموارد من أشكال الاستغلال الأخرى، وهو ما يقتضي التركيز عليها والعمل على تحويلها نحو زراعة بيئية، بعد التخلص التدريجي من آثار الثورة الخضراء وفي القلب منها الاعتماد المُكثَّف على الأسمدة والكيماويات، بما يحقق الاحتياجات المحلية ومصالح منتجي الغذاء ويصون التُربة وبالتالي البيئة (18).
حصيلة الإصلاح!
لم تساهم برامج الإصلاح المتكررة منذ عام 1991 في معالجة الهشاشة الاقتصادية للبلاد أو ضعف صمود البِنيَّة الاقتصادية أمام المؤثرات الخارجية، ولم تقترب من المشكلات الهيكلية في الاقتصاد المصري التي تتمثل في ضعف الإنتاجية (19) وسوء توزيع الموارد وضعف الأجور وضآلة المُدَّخرات المحلية اللازمة للتصنيع وإهمال الزراعة، لصالح التوسع العقاري الفائض عن الحاجة، استجابةً لتوصيف البنك الدولي لمشكلة مصر بالتقوقع في الوادي وضرورة “غزو الصحراء” (20)، لكنَّ صندوق النقد والبنك الدوليين يغضان أنظارهما عن كل ذلك ولا يريان سوى الضبط المالي وتقليص النفقات الاجتماعية.
وكما هو مُعتاد، تؤثر إجراءات الإصلاح الاقتصادي على دخول السكان وإنفاقهم وحصولهم على الخدمات العامة، فالسياسات الانكماشية وصعوبة الحصول على مُدخلات الإنتاج المُستوردة زادتا من معاناة منتجي الغذاء، كما أدى تخفيض سعر العُملة إلى تآكل دخولهم.
من ناحية أخرى، أثَّرت توجيهات الصندوق بتخفيض سعر العُملة على حصول المستهلكين على ما يكفيهم من الغذاء، فالفقراء الذين ينفقون الجزء الأكبر من دخلهم على الغذاء، اضطروا إلى تغيير الكثير من عاداتهم الغذائية وبدأوا في التنازل عن البروتين لصالح النشويات، وفي زيارة لمحل بيع طيور، بمنطقة الطالبية بمحافظة الجيزة، أكد صاحب المحل على أن النسبة الأكبر من المبيعات لم تعد تأتيه من بيع “البانيه” ولا الطيور الحية، بل من بيع الهياكل العظمية للطيور التي تنفد قبل أن تأتي الساعة الثانية ظهرًا.
بعد درس الحرب الأوكرانية، لم يَعُدْ هناك مفر من إعادة النظر في هذا الاختلال الهيكلي بالاقتصاد المصري، وزيادة معدلات الاكتفاء الذاتي وتحسين القدرة التخزينية التي تتسبب في الهدر والتلف في الحبوب.
وتشير تلك الظاهرة، وغيرها، إلى تدهور الأحوال المعيشية للفقراء في ظل الإصلاح الذي يستهدف تقليص الطلب الكُلي في السوق المصرية بغض النظر عن آثاره وأضراره على الفقراء، ولا يقتصر الأمر على البروتين، إذ تشهد أسعار معظم السلع الغذائية الأساسية في مصر ارتفاعًا لا يتوقف عند حد، وعلى رأسها البدائل النباتية للبروتين الحيواني، التي كانت في السابق بديلا آمنا للسعرات الحرارية في فترات ارتفاع أسعار اللحوم، في ظل تسعير المستوردين للدولار على سعر يوازي يقابل 40 جنيهًا (رسميا 30.95 جنيهًا).
إعادة تقييم
كل هذه المُعاناة تُوجِب إعادة النظر على الخطة “النيوليبرالية” لتقليل الإنفاق وتقليص الدعم الحكومي للمزارعين وتقليل الاستثمارات العامة، وفي المقابل ينبغي التأكيد على أهمية استراتيجيات بديلة قائمة على زيادة الاستثمارات الحكومية في المشروعات الإنتاجية، ودعم المنتجين في قطاعي الصناعة والزراعة الفَلَّاحية.
وبدلًا من الإلحاح “النيوليبرالي” على تخارج الدولة من الاقتصاد، سيكون من الضروري التأكيد على أهمية خلق الحكومة للوظائف لتعويض النقص في فرص العمل في القطاع الخاص، بسبب الأثر الانكماشي على الاقتصاد (21)، مع رفع القيود على النقابات الزراعية والقطاع التعاوني وتحريرهما من قبضتي الأمن والبيروقراطية، والسماح للمُنتِجين بتنظيم أنفسهم وإعطائهم الأولوية في المشروعات الحكومية بدلًا من كِبار المستثمرين، كي تتحقق للبلاد سيادةٌ لا غنى عنها على غذائها ومواردها.
محمد جبريل – مصر
المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الرابع: “هذا من عمل البنك والصندوق.. 40 عامًا من التخريب النيوليبرالي لسيادتنا الغذائية“.
يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط
الهوامش
1- دويتشه فيله: تحليل: أمن مصر الغذائي يحتاج إلى سياسة زراعية جديدة
2-The Myth of Global Grain Shortages
3- البنك الدولي: سلسلة الحبوب.. الأمن الغذائي وإدارة القمح في البلدان العربية 2012.
4-يزيد صائغ: أولياء الجمهورية، تشريح الاقتصاد العسكري، مركز كارنيجي للسلام، 2019.
5- نفسه.
6-شبكة سيادة: السيادة الغذائية أم الأمن الغذائي؟
7- دويتشه فيله: مصدر سابق.
8- لقاء مصور مع الاقتصادي المصري جودة عبد الخالق بتاريخ 13 إبريل 2023
9- فاتورة القمح توجه لكمة اقتصادية لمصر 2024
10- التنمية الزراعية في العالم الثالث، تحرير كالر ايتشر وجون ستاتز، ترجمة سمير عبد الرحيم الجلبي، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1989.
11- مصر تقترض 100 مليون دولار من «أبو ظبي» لتمويل شراء قمح من شركة “الظاهرة” الإماراتية
12- صقر النور وندى عرفات: كيف تحقق مياه مصر أمن دول الخليج الغذائي؟
13-حروب الغذاء.. صناعة الأزمة، والدن بيلو، ترجمة خالد الفيشاوي، المركز القومي للترجمة، 2012.
14-الديون الخارجية والداخلية لمصر.. من 1876 حتى 2018.
15-الدَين الخارجي المصري يرتفع إلى 165 مليار دولار بنهاية الربع الأول من 2023.
16- مؤشر الأمن الغذائي العالمي 2022.. استكشاف التحديات وتطوير الحلول للأمن الغذائي عبر 113 دولة
17- عمرو عدلي، الأصول السياسية للتنمية.. الاقتصاد السياسي للإصلاح المؤسسي في مصر وتركيا 1980-2011، 2013.
18- الأرض والفلاح والمُستثمِر.. دراسة في المسألة الزراعية والفلاحية في مصر، صقر عبد الصادق هلال النور، 2017.
19- موقع حبر: حلول الصندوق.. تخفيض سعر الجنيه المصري بديلًا للإنتاجية، مقال لمحمد رمضان، 26 يناير (كانون الثاني) 2023.
20- حُكم الخبراء، تيموثي ميتشل، ترجمة بشير السباعي وشريف يونس، المركز القومي للترجمة 2010.
21- الفقر والعولمة.. مصر والدول العربية، كريمة كُريَّم، ترجمة سمير كُريَّم، المشروع القومي للترجمة، مصر 2005.