مساحات خضراء شاسعة تمتد على مرمى البصر، تزرع بميكنة زراعية متطورة تنوب عن مئات العمال الزراعيين، تروى بمحاور ري دائرية عملاقة متصلة عبر سلسلة من القنوات بواحدة من أكبر محطات الرفع في العالم. عدد من المهندسين يشرفون على تجهيزات التوسع في زراعة مساحات جديدة من البرسيم الحجازي في أرض تابعة لإحدى شركات الاستثمار الخليجية في مشروع توشكى. هنا صحراء مصر الغربية. تحركات سريعة على قدم وساق.
قبل هذا بـ21 عامًا؛ كانت هذه المساحات الخضراء صحراء قاحلة صفراء، تحولت لفكرة مشروع تنموي واستثماري زراعي طموح لخدمة الشعب المصري، ولكن آل الأمر لاستحواذ الشركات الخليجية على معظم أراضيه كجزء من خطة دول الخليج لتحقيق أمنهم الغذائي بامتلاك أراضٍ وزراعتها خارج حدودهم.
يعود المشهد اليوم إلى اللحظة التي أدركت فيها دول الخليج أهمية مواردهم المائية الشحيحة بطبعها، فأطلقت المملكة العربية السعودية مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز للاستثمار الزراعي في الخارج يناير 2009 وتحقيق الأمن الغذائي اعتمادًا على الاستثمار في الدول التي تمتلك مقومات الزراعة.
ضمن هذه المبادرة تقديم العون المادي للمستثمرين السعوديين بالخارج بنسب تصل إلى 60% من تكاليف الإنشاءات ومستلزمات الإنتاج، بالإضافة إلى الدعم السياسي عبر اتفاقيات ثنائية مع الدول المستقبلة للمستثمرين لتسهيل عملهم خارجيًا وتأمين تصدير 50% على الأقل من إنتاجهم إلى المملكة.
لم تكن المبادرة وليدة اللحظة، وإنما إستراتيجية طويلة المدى تطورت تدريجيًا بقرار تلو الآخر بدأت بالحد من زراعة القمح عام 2005 عن طريق تقليص دعم زراعته تدريجيًا وصولًا إلى وقفه نهائيًا في 2008 إثر قلق وزارة الري السعودية من استنزاف الموارد المائية في المملكة؛ متخلية بذلك عن برنامج عمره 30 عامًا حقق للمملكة الاكتفاء الذاتي من القمح لكنه استنزف مواردها المائية. عادت مؤخرًا العام الماضي وسمحت بزراعة القمح بشروط معينة في مقابل منع زراعة الأعلاف الخضراء لاستهلاكها ما يعادل 6 أضعاف استهلاك القمح من المياه.
لم تكن السعودية وحدها في هذا المأزق، فالإمارات العربية المتحدة التي تعاني هي الأخرى من شح الموارد المائية واستيرادها نحو 90% من احتياجاتها الغذائية دفعت بشركاتها لتستثمر بالزراعة في الخارج.
تشابه الظروف دفع الدولتين لتوقيع إستراتيجية العزم العام الماضي، لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري الكامل بين البلدين، وتبني إستراتيجية موحدة للأمن الغذائي لتسخير القوى الإنتاجية الزراعية والحيوانية والعمل على مشاريع مشتركة.
خلال سنوات قليلة، تمكنت الإمارات من الاستحواذ على مساحة تصل إلى 4 ملايين و250 ألف فدان في 60 دولة حول العالم كما استحوذت المملكة السعودية على مساحة 4 ملايين فدان حول العالم.
يعرف البعض استحواذ الدول الغنية على مساحات واسعة من الأراضي عن طريق الشراء أو الاستئجار في دول ذات إمكانات زراعية بشكل من أشكال الاستعمار الجديد المعني بتحقيق الأمن الغذائي للأولى على حساب المصادر غير المتجددة في الثانية ومنها الماء.
وجدت الشركات الخليجية غايتها في مصر. فبينما تعول الأولى على الاستثمار الزراعي خارج حدودها، تعتمد الثانية على دعم الزراعات التصديرية وتتجه إلى نمط إنتاج رأسمالي قائم على المزارع الاستثمارية الكبيرة والحديثة على حساب دعم المحاصيل الإستراتيجية والزراعة الفلاحية في وادي النيل ودلتاه.
مصر جديدة سنة 2000
لف معايا وشوف ويايا مصر بلدنا وصلت فين!
هتشوف صورة غير الصورة من سنة فاتت ولا سنين
مش بنهلل ولا بنقلل ولا بنفرق بين عهدين
حق ولادي يشوفوا بلادي مصر جديدة سنة 2000
بهذه الكلمات تغنت القنوات المصرية الأرضية في أثناء زيارة الرئيس الأسبق حسني مبارك بداية عام 1997 لصحراء مصر الغربية جنوب أسوان بنحو 225 كيلومترًا، معلنًا بداية مشروع توشكى بينما يرفع يده محييًا المهندسين في صورته المشهورة. كانت الخطة أن يبدأ تنفيذ المشروع عام 1997 وينتهى عام 2017، بهدف خلق دلتا جديدة جنوب الصحراء الغربية وإضافة مساحة زراعية كبيرة قد تصل إلى مليون فدان، وإنشاء مجتمعات صناعية وعمرانية جديدة، وتحريك السكان عبر خلق 45 ألف وظيفة سنويًا بحيث يستوعب المشروع في نهايته من 4 إلى 6 ملايين مواطن خلال عشر سنوات.
مرت السنوات دون تغيير يذكر لمصر أو أمنها الغذائي أو حل أزمة تمركز سكانها في الوادي القديم، بينما حقق المشروع نجاحًا ملحوظًا لبعض الشركات الاستثمارية.
وضعت الإمارات لها موضع قدم مبكرًا في المشروع عبر دعمه من خلال تقديم صندوق أبو ظبي للتنمية مبلغ 100 مليون دولار في شكل تبرع لمشروع توشكى عام 1997 للمساهمة في إنشاء وتبطين الترعة الرئيسية للمشروع التي وصل طولها إلى 51 كيلومترًا، لتسمى بعد ذلك بترعة الشيخ زايد.
خصص للمشروع 5.5 مليار متر مكعب من حصة مصر من مياه النيل التي تبلغ كاملة 55.5 مليار متر مكعب، معتمدًا على سحب المياه من مفيض توشكى المتصل ببحيرة ناصر التي تكونت نتيجة تجمع المياه خلف السد العالي، عبر إنشاء محطة طلمبات رئيسية تحتاج إلى 250 ميجاوات لضخ المياه، وتضخها في ترعة الشيخ زايد التي بدورها تغذي 4 أفرع تمتد عبر المساحة المستصلحة.
ومع بداية ضخ المياه عام 2003 لأول مرة في ترعة الشيخ زايد، بدأ تدفق الاستثمار الخليجي للمنطقة. تبلغ مساحة المشروع الآن 405 آلاف فدان، منها 100 ألف فدان لصالح شركة «الراجحي» السعودية، ونفس المساحة لشركة «الظاهرة» الإماراتية للتنمية الزراعية، بالإضافة إلى 25 ألف فدان تحت ولاية جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، بعد شراء المساحة من شركة «المملكة للتنمية الزراعية» المملوكة للوليد بن طلال في 2017. ويقع 62 ألف فدان في حوزة شركة جنوب الوادى للتنمية، و92 ألف فدان تم تخصيصها مؤخرًا لشركة الريف المصرى، وكلاهما شركات استصلاح زراعي تابعة للدولة المصرية، كما خصص 10 آلاف فدان لوزارة الإسكان لإقامة مدينة توشكى الجديدة، ويوجد حاليًّا 16 ألف فدان لم يتم تخصيصها بعد. إذن، تستحوذ شركتان خليجيتان فقط هما شركتا «الراجحي» و«الظاهرة» الخليجيتان على نحو 49.4% من أراضي المشروع.
استحوذت الشركات الخليجية بتوشكى على تلك المساحات بحق التخصيص بغرض التملك، أي تتملك الشركة المساحة الكاملة على عدة مراحل، كل مرحلة يُحدد بها عدد من الفدادين للشروع في استصلاحها، وبعد الانتهاء من استصلاح المرحلة الأولى، تتملكها الشركة وتبدأ في استصلاح المرحلة الثانية وهكذا إلى أن يتم استصلاح المساحة كاملة، لتصبح المساحة الكاملة ملكًا للشركة.
ذكر الجهاز المركزى للمحاسبات فى تقرير نشره عام 2014 أنه تم التصرف بالبيع في أراضي المشروع بسعر 50 جنيهًا للفدان، التي يحددها سعر السوق آنذاك عند حوالي ١١ ألف جنيه للفدان، وتحملت الدولة تكاليف البنية التحتية من ترع وأعمال صناعية مقامة عليها ولم يتم تحميلها على المستثمرين، ولكنهم تحملوا تكلفة أعمال الاستصلاح الداخلي وإنهاء فروع الري والصرف ومحطات الرفع الداخلية في مساحتهم الخاصة.
شبكة استثمار معقدة
شبكة علاقات الاستثمار الزراعي الخليجي في مصر معقدة للغاية، فهي عبارة عن شبكة مصالح متصلة تتداخل فيها الاستثمارات الخاصة المصرية والخليجية وعلاقات المصالح بشكل عام بين مصر والخليج.
شركة «الراجحي» هي شركة سعودية مملوكة لعائلة الراجحي وأسسها سليمان الراجحي. وهي مساهم أساسي في مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الخارجي، ودخلت السوق المصرية في 2009.
تمتلك شركة «الراجحي» شركة تبوك للاستثمار الزراعي التي بدورها شريك أساسي في تكتل شركة «جنات» السعودي الذي يضم ست شركات سعودية تعمل بالاستثمار الزراعي من بينها شركة «الخريف» لأجهزة الري المحوري وشركة «المراعي».
تمتلك شركة «جنات» نحو 77,73% من رأس مال شركة «رخاء» المصرية، التي تعمل كذلك بمجال الاستثمار الزراعي، والتي بدورها اشترت شركة «ريجوا» المصرية، والتي ارتبط اسمها بالعديد من قضايا الفساد وقضايا الاستيلاء على أراضي للدولة، كما أن «رخاء» شريك في شركة «وفرة» السعودية للصناعات الغذائية.
.أما «الظاهرة» فهي شركة إماراتية متخصصة في الزراعة وإنتاج الأعلاف وتوريدها إلى هيئة التحكم في الغذاء الإماراتية المسؤولة عن الأمن الغذائي للإمارات. مالك الشركة هو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان ممثل الحاكم في المنطقة الغربية بأبو ظبي، مما عزز مشاركتها الحكومة في تنفيذ برنامج الأمن الغذائي الإستراتيجي للإمارات. بدأت الشركة نشاطها في مصر في 2006 ثم أسست شركة «الظاهرة مصر» في 2007، التي تعاونت مع الحكومة المصرية والإماراتية بشراء شركة «نافيجيتور» المصرية للاستثمار الزراعي.
الشركتان الخليجيتان تربطهما علاقات وثيقة بحكوماتهما وبالمبادرات التي أطلقتها الدولتان لدعم الأمن الغذائي في البلدين مثل إستراتيجية العزم. ومنذ إطلاق مبادرة الأمن الغذائي الخليجي؛ استحوذت شركة «الظاهرة» وحدها على مساحة 400 ألف فدان حول العالم، منهم 116 ألف فدان موزعة بين توشكى وشرق العوينات والصالحية والنوبارية في مصر. أما شركة «الراحجي» فتستحوذ على 450 ألف فدان بالسودان كما استأجرت 120 ألف فدان بموريتانيا، هذا بالإضافة إلى استحواذها على 100 ألف فدان بمشروع توشكى.
وتعليقًا على تعقيد شبكة علاقات الشركات الخليجية المستثمرة في صحراء مصر الغربية، يقول أحد المحامين الحقوقيين المشاركين في تقديم دعاوى قضائية ضد بعض الشركات المذكورة لعوار العقود التي يعملون على أساسها في مصر وإهدارهم موارد البلاد، إن هذا التعقيد هو نهج متبع في معظم الشركات الضخمة لعدة أسباب أولها الاستحواذ والسيطرة تحت مسمى شركات أخرى.
يساعد أيضًا هذا التعقيد، بحسب المحامي الذي فضل عدم ذكر اسمه، على إخفاء نسب المستثمر في السوق عن طريق توزيعها على عدة شركات، وبالتالي يساعدهم ذلك في التهرب الضريبي.
كما أن شبكة العلاقات تشمل شبكة مصالح متبادلة، فمثلاً تعتبر «الراجحي» التي تعد زراعة البرسيم جزءًا من نشاطها شريكة لشركة «المراعي» التي تصنع الألبان ولشركة «الخريف» لأدوات الري المحوري وذلك تحت تكتل شركة للاستثمار الزراعي «جنات» لتساعدهم في التوسع وتلبية احتياجاتهم. كما أنها تتعاقد مع شركات أخرى بطريقة غير مباشرة مثل «وفرة» لتصنيع المواد الغذائية مثل الحبوب والمكرونة، ومثل شركة «مارينا» المصرية لزراعة الأعلاف. هذا النمط من الاستثمار يحاول التحكم في مجمل السلسلة الغذائية بدءًا من مستلزمات الإنتاج إلى عملية الإنتاج مرورًا بالتصنيع ووصولًا للتسويق للهيمنة الكاملة على السلع الغذائية.
عقود مشبوهة
عقود شركات الاستثمار الخليجي في مصر وخصوصًا في توشكى شابها المخالفات بحسب ما تشير له العقود التي حصل «مدى مصر» على نسخة منها، ووفقًا المعلومات الموثقة إعلاميًا.
بدأ الموضوع من أرض شركة «المملكة للتنمية الزراعية» المملوكة لرجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال، التي استحوذت على مساحة 100 ألف فدان عام 1998 كأول عقد لشركة خليجية في منطقة توشكى بمبلغ 50 جنيهًا للفدان بإجمالي 5 ملايين جنيه، تم سداد 20% منها عند التوقيع، ولم يتم ذكر تفاصيل أخرى في العقد عن طريقة سداد المبلغ المتبقي ولا نعرف فعليًا إذا كان تم سداد أي دفعات أخرى أم لا. وضم العقد العديد من المخالفات مثل الإعفاء الكامل من الضرائب، كما سمح بزراعة أي نوع من المحاصيل دون موافقة الوزارات المعنية بالتركيب المحصولي، وأعطى الشركة الحق في استيراد أي نوع من البذور وفصائل النباتات وسلالات الحيوانات دون موافقة رسمية مسبقة. وبعد أن طال العقد الكثير من الانتقادات بعد ثورة يناير 2011 تم تعديل بعض بنوده، وتنازلت شركة بن طلال عن المساحة غير المستصلحة التي بلغت 75 ألف فدان، بينما اشترت القوات المسلحة المصرية المساحة المتبقية – 25 ألف فدان – عام 2017 بمبلغ 1.25 مليون جنيه مصري.
وبالمثل، أقام المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية دعوى قضائية في 2011 ضد شركة «الظاهرة» ببطلان العقد الخاص بمساحة 100 ألف فدان في توشكى باعتباره إهدارًا للمال العام وبيع للأراضي بغير ثمنها الحقيقي، حيث بيع الفدان بمبلغ 50 جنيهًا بينما يبلغ سعر متوسط الأراضي في هذا الوقت 11 ألف جنيه. وفقًا لتقارير المركز، أصدر مجلس الدولة فتوى ببطلان العقد لكن النيابة العامة لم تستكمل التحقيق في القضية وأغلق الملف دون حكم.
وعلى الرغم من مخالفات تلك الشركات، فإن القانون المصري يمنع أي طرف ثالث من الطعن على العقود المبرمة بين الحكومة والمستثمرين، إلا أطراف العقد من أصحاب الحقوق العينية والشخصية، وذلك بعد أن أصدر الرئيس السابق عدلي منصور قرارًا بقانون لتنظيم بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة في 2014.
وبالإضافة إلى مخالفات العقود نفسها، تمتد المخالفات أيضًا لتنفيذ بنود العقود المبرمة وعملية الاستصلاح على أرض الواقع.
فمثلًا شركة «الراجحي» تسلمت 25 ألف فدان من الـ100 ألف فدان المتعاقد عليها لاستصلاحها على خمسة مراحل. تقدمت الشركة في بداية عام 2010 بطلب معاينة لإتمامها زراعة الـ25 ألف فدان الأولى ووافقت هيئة التعمير على تسليمها 17 ألف فدان العام الماضي للبدء في استصلاحها كمرحلة ثانية، على أساس أن الشركة انتهت فعليًا من استصلاح المرحلة الأولى والمقدرة بـ25 ألف فدان، ولكن يوضح تحليل صور القمر الصناعي غير ذلك، فإجمالي المساحة المزروعة في 2013 كان 6 آلاف ونصف فدان، وفي عام 2019 وصل إلى 10,402 ألف فدان.
مخالفة أخرى يسجلها مصدر داخل مركز بحوث المياه بأبو سمبل على شركة «الظاهرة» التي يثبت تحليل صور القمر الصناعي زراعتها لكامل المساحة 18351 فدان بالبرسيم الحجازي في 2019، ما يناقض العقد الذي يسمح للشركة بزراعة 5% فقط من المساحة بالبرسيم.
وفي الوقت الذي أكد فيه متحدث وزارة الزراعة، حامد عبد الدايم، لـ «مدى مصر» أن معظم تلك العقود تسمح للمستثمرين بزراعة 5% فقط من المساحات بالبرسيم الحجازي للحفاظ على الموارد المائية، صرح النائب رائف تمراز، وكيل لجنة الزراعة والرى بالبرلمان العام الماضي، بأن مساحة البرسيم في كلٍ من الوادي الجديد وتوشكى تشكل 25% من نسبة الزراعات، لافتًا إلى أن البرسيم الحجازي يصدر لعدد من الدول العربية بكميات كبيرة وعلى رأسهم السعودية والإمارات العربية المتحدة.
إهدار على كل المستويات
جمال صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، يتذكر طلب وزارة الري من أساتذة القسم القيام بدراسات جدوى لمشروع توشكى بعد إطلاقه بعامين كاملين، بعدما أثير الكثير من الأقاويل عن فشل المشروع. يشرح صيام أن لاستصلاح الأراضي لا بد من زراعة منتجات عالية القيمة مثل الخضر والفاكهة ومن ثم يتم تصنيعها وهذا يخلق قيمة مضافة وعمالة ودخل قومي.
ويقول إن هذا النوع من الاستثمار الأجنبي لا عائد منه على الإطلاق لأنه يأخذ المياه بأقل سعر وأراضٍ بمبلغ زهيد ويصدر معظم إنتاجه. كما أن رأس مال تلك الشركات لا يوجد في مصر وبالتالي لا يوجد عائد على الاقتصاد القومي. يستكمل صيام أنه على الدولة أن تتعاقد مع شركات الاستثمار بناءً على التحليل الاقتصادي وليس المالي، لأن هذا النوع من التعاقدات يجعل تلك الشركات بقعة خليجية في أرض مصر ولا يوجد للدولة أي سيادة عليها. يضيف صيام كيف تملك الدولة الأرض لمستثمر أجنبي بـ50 جنيهًا للفدان، بينما يصل سعر الفدان في الأراضي الصحراوية حاليًّا إلى 40 ألف جنيه، وحتى إذا كان ذلك مبررًا في حينه تشجيعًا للاستثمار، لماذا تمنح هذه الميزة لمستثمر أجنبي؟
في تحليل جدوى اقتصادية أعده صيام، يشرح أنه في حالة أن المساحة الإجمالية التي تزرعها الشركتان هي نحو 29 ألف فدان، فإن متوسط كمية المياه المستخدمة تقدر بما يقارب 210 مليون متر مكعب سنويًا، بينما تدفع الشركة لوزارة الري نحو 20 مليون جنيه سنويًا. وإذا قدرنا القيمة السوقية للمتر المكعب من المياه بجنيهين مصريين فإن المستثمر قد حصل على ما قيمته 420 مليون جنيه مقابل 20 مليون جنيه. الأمر لا يقتصر على الـ29 ألف فدان التي تمثل المساحة الحاليّة وإنما يمتد مستقبلاً إلى مجمل مساحتي الشركتين أي 200 ألف فدان. يؤكد تحليل صيام ما ذكره المصدر داخل أحد الشركتين الخليجيتين في توشكي الذي قال له أحد مستوردي البرسيم الحجازي الإماراتيين: «إحنا بنشتري مياه مش بنشتري برسيم».
نفس الكمية من المياه، أي نحو 210 مليون متر مكعب، يقول صيام، يمكن أن تكفي لزراعة 84 ألف فدان من القمح، وبالتالي زيادة إنتاج مصر من المحصول الإستراتيجي بـ62 ألف طن. تستهلك مصر سنويًا نحو ١٦ مليون طن من القمح، وتعد أكبر مستورد للقمح في العالم، وبلغ استيرادها العام الماضي 6 ملايين طن قمح.
عند الحديث عن الاستحواذات الزراعية بشكل رسمي، يشير المستثمرون لاهتمامهم بتوفير المياه واستدامة المشروعات التي يعملون عليها من خلال إنتاج محاصيل تخصص للاستهلاك المحلي، وفي حالة مصر، فالحكومة تضغط على الشركات لزراعة القمح كأحد أهم المحاصيل الإستراتيجية التي يعتمد عليها أغلب المصريين، ولكن دون رقابة. وفقًا للمصدر داخل إحدى الشركات الخليجية في توشكى، والذي فضل عدم ذكر اسمه، يبلغ إجمالي إنتاج الشركة من القمح 15 ألف طن، ما يعني أن إجمالي مساحات القمح ما يقارب 6000 فدان فقط.
في الوقت نفسه، كانت المملكة العربية السعودية قد أصدرت عام 2007 قرارًا وزاريًا بترشيد استهلاك المياه وتنظيم استخداماتها، ولأن البرسيم الحجازي من أكثر الزراعات المستهلكة للمياه حيث يحتاج الفدان إلى 8 آلاف متر مكعب من المياه، أصدر مجلس الوزراء السعودي قرارًا عام 2011 يقضي بإلزام مزارع الألبان باستيراد كميات من الأعلاف تكافئ ما تصدره من منتجات الألبان. وفي عام 2015 أصدر مجلس الوزراء السعودي قرارًا بإيقاف زراعة الأعلاف تمامًا، ما يعني أن مزارع الألبان السعودية قائمة بشكل شبه كامل على استيراد الأعلاف من الخارج. وهذا يوضح نمو زراعات الأعلاف، لتصديرها للمملكة في دول عديدة منها مصر.
من ناحيتها، تهدف إستراتيجية وزارة الزراعة المصرية عام 2030 إلى توفير مزيد من المياه عبر تطوير الري بالوادي والدلتا وتقليص مساحة زراعة بعض المحاصيل الإستراتيجية مثل محصول الأرز الذي يعده الفلاحون المحصول الأكثر ربحًا. هكذا توفر الدولة 14.5 مليار متر مكعب مياه من الأراضي القديمة تستخدم بعضها في ري وزراعة بالأراضي الجديدة في مشروعات الاستصلاح المتعددة التي تتبناها الدولة، مما يعني تحويل مسار المياه إلى المستثمرين الأجانب وتحريمها على الفلاحين، لزراعة البرسيم ومنتجات تصديرية تستنزف مواردها.
استنزاف الموارد من تلك الشركات بطبيعة الحال امتد ليصل إلى الطاقة، فيستهلك نمط الإنتاج الحديث المتبع منها كميات هائلة من الطاقة سواء لتوصيل المياه للمنطقة أو داخل المزارع نفسها لتوزيعها وتشغيل محاور الري. وقد قدر مصدر من داخل تلك المزارع أن شركة «الراجحي» تستهلك نحو 1.5 مليون كيلووات شهريًا بينما تستهلك شركة «الظاهرة» ما يقارب مليوني كيلووات شهريًا، ما يعني أن استهلاك الشركتين من الطاقة شهريًا يعادل 28% من الطاقة اللازمة لتشغيل خط مترو الانفاق الأول بالقاهرة، والتي تبلغ 12.5 مليون كيلووات.
ومع تلك المساحات الواسعة المتملكة من الشركتين الخليجيتين، فإن إجمالي قوة العمل في كل واحدة منهما لا تزيد على 200 عامل وموظف وفقًا للمصدر داخل إحدى الشركات. العدد زهيد جدًا مقارنة بقوة العمل اللازمة لزراعة مساحات مشابهة بالوادي والدلتا كما أنه بعيد للغاية عن واحد من أهم أهداف مشروع توشكى وهو خلق 450 ألف وظيفة سنويًا واستيعاب من 4 إلى 6 ملايين مواطن وإقامة مجتمعات بشرية جديدة بتلك المناطق.
مصر ليست الدولة الوحيدة في استقبال الاستحواذات الزراعية الخليجية التي طالت دول عديدة، ولكن هناك دول بدأت تتحفظ على هذا الشكل من الاستثمارات. فقد رفض السودان الذي يحتل المرتبة الأولى في تأجير أراضيه لزراعة الأعلاف استقبال استثمارات زراعية جديدة مؤخرًا إثر إبداء بعض نواب مجلس الشعب السوداني قلقهم من تأثير ذلك على مخزون السودان من المياه الجوفية. وفي عام 2013 شهد السودان مظاهرات رافضة لبيع الأراضي للمستثمرين الخليجيين وعادت هذه القضية للظهور على خلفية المظاهرات الجارية بالسودان حاليًا.
شريف فياض أستاذ الاقتصاد الزراعي في مركز بحوث الصحراء يوضح أن مشكلة الزراعة الصحراوية في مصر أن الدولة لا تمتلك رؤية إستراتيجية للتعامل معها، فمن المهم وجود تكامل بين زراعة الصحراء ووادي الدلتا للاستغلال الأمثل للمواد ليظل الوادي القديم للمحاصيل الإستراتيجية والصناعية لأن بعضها يحتاج كثافة عمالية كالقطن وبعضها يحتاج أرض ثقيلة وقوية كالقمح ومياه غزيرة كالأرز، ولأن مناطق تسويق هذه المحاصيل الإستراتيجية قريبة من أماكن زراعتها وأماكن تصنيعها. أما الصحراء، تخصص لزراعة الموالح وبعض الفاكهة كالعنب والرمان والجوافة، والنباتات العطرية بالإضافة لبعض الخضر لاحتياجها لمياه أقل.
يشير فياض إلى أنه لا يوجد سياسة مؤسساتية تحافظ على حق المجتمع ولا تشاركية قائمة على إسهام المجتمع المحلي في تحديد المحاصيل وإدارة موارده بالطريقة التي يراها مناسبة لصالحه ودوام الاستدامة.
ويضيف فياض أن أي مستثمر يملك أجندة لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، ولكن يجب على الدولة أيضًا أن تكون لها أجندة للتعامل مع القطاع الخاص وآلياته لإجباره على مواكبة التركيب المحصولي. المستثمر يقدم أموالًا وخبرة وتكنولوجيا وفي المقابل تقدم الدولة أرضًا ومياهًا وطاقة وعمالة رخيصة وكهرباءً ومناخًا مناسبًا وكل هذا ملك المجتمع. يشرح فياض أن أموال الاستثمار تعود لهم مضاعفة ولكن لا شيء يعوض المياه والتربة وتبعات التغير المناخي. «لو الأمور كده نأجر البلد وخلاص»، يقول، مضيفًا أن خطة المستثمر الواضحة في مقابل انعدام خطة الدولة هو ما يؤدي لفقد المجتمع لحقوقه.
صقر النور وندى عرفات