قوة عاملة موسمية غير موجودة وجيش من “المتطوعين” على استعداد لإنقاذ المنتجات الزراعية، والحاصلات البستانية، وضمان التوزيع اللوجستي المحلي ، وملء رفوف المنتجات الغذائية الطازجة بالمتاجر الكبيرة لإطعام المواطنين اثناء الحظر.
” استمروا انتم بالاستهلاك, ونحن سنعتني بخلاف ذلك …”
منذ بداية الجائحة، نالت قضايا الإمدادات الغذائية اهتماما سياسيا وإعلاميا نادرا. وسرعان ما تراجعت صور الارفف الفارغة للمتاجر الكبرى أمام القرارات والاجراءات المتخذة لإعادة توفير الإمدادات وضمان استمراريتها. رافق ذلك بث رسائل تطمينية للمستهلكين من محلات بيع المواد الغذائية الكبري لتؤكد علي أنه لن يكون هناك نقص في الامدادات الغذائية.
ومع ذلك ، في فرنسا كما في بلدان أخرى، كشف إغلاق الحدود ووقف تدفقات المهاجرين عن القيمة الكبيرة للعاملات والعمال الموسمين الأجانب العاملين في سلاسل الإنتاج الزراعي: من التقليم إلى البذر، وحتى تعبئة وشحن المحاصيل. ولرئب هذا الصدع الناتج عن تعذر وصول العمالة الزراعية الموسمية المهاجرة وجهت الحكومة الفرنسية في الأسابيع القليلة الماضية، الدعوة الي العاطلات والعاطلين عن العمل والطالبات والطلاب واللاجئات واللاجئين وغيرهم للقيام بتلك المهام وذلك عبر المنصة الرقمية “des bras pour ton assiette – ايادي من اجل طبقك “، والمرتبطة بشكل كبير بالاتحاد الوطني لنقابات المزارعين (FNSEA).
عرقلت الأزمة الصحية المرتبطة بـ Covid-19 نموذج “الصناعة الزراعية”، الذي كان يضمن للمستهلكين الكثير من الفاكهة والخضروات على مدار العام وبأسعار منخفضة. كان هذا الإنتاج المكثف يعتمد علي البيوت المحمية/الصوبات الزراعية والإنتاج في الحقول المفتوحة، بطريقة تسمح بحدوث تدفق للمنتجات الغذائية الطازجة بالأسواق “في الوقت المناسب”، بالارتكاز علي قوة عاملة مهاجرة هشة تستطيع عادة الحفاظ على التكثيف المناسب للعمل وتكوين مخزون الغذاء المطلوب وبالتالي تضمن الأداء الاقتصادي الكفء للقطاعات الزراعية والغذائية. لتحقيق ذلك، أظهر إغلاق الحدود بشكل لا يدع مجالا للشك اعتماد المجتمعات الأوروبية على هؤلاء العمال والعاملات من المغرب وإسبانيا وبولندا ورومانيا وحتي الإكوادور.
تتخذ العمالة الزراعية المهاجرة اشكال عمل متعددة: من العمل غير الرسمي من قبل المهاجرين غير المسجلين، إلى حاملي عقود مكتب الهجرة الوطني عام 1945 (المغرب، بولندا، إيطاليا) ، او حاملي عقود إدخال العمل الصادرة عن مكتب الهجرة الدولية او حتى حاملي عقود مهام توظيف للعمالة القادمة عبر وكالات توظيف المعمالة المؤقتة باوروبا (ETT).
تلبية للحاجة إلى العمالة “المؤقتة” في المزارع الفرنسية، فإن التواجد السنوي لهؤلاء العمالات والعمال الأجانب هو في الواقع أساس ثابت للزراعة الصناعية المكثفة المكثف المتوحشة والتصديرية. والواقع أن “موسمية العمل” لا تصف واقعًا مرتبطًا بدورة الفصول والمواسم ولكن يربط بشكل اكبر برغبة الراسمالي في خفض التكاليف حيث ان الإنتاج المكثف في البيوت المحمية وفي الحقول المفتوحة ليس باي حال موسمية بل دائمة علي طول المواسم والفصول. وبذلك تسمح خدعة الفرض الزمني موسمية العمل الزراعي للقطاع بتبرير توظيف قوة عمل مرنة، ويمكن التخلي عنها في أي وقت، وأرخص ولا يتم إعلامها بحقوقها. إن عدم دفع أجور العمل الإضافي ، والسكن الكريم، والتحرش الرمزي والجسدي والجنسي في حالة العمالات، هي سمات مشتركة لهذا النمط من التوظيف.
أبرزت الأزمة الحالية ان هؤلاء العمالات والعمال غير مرئيين اجتماعيا في الفضاءات العامة ومشتتين بين الفضاءات الخاصة للمزارع. إن القانون والخيال السياسي المسيطر يجعل منهم فئة مستبعدة رغم انهم على العكس من ذلك ، في قلب عملية إنتاج واعادة انتاج مجتمعنا. ويضاعف لهذا الاستبعاد الاجتماعي الفصل المكاني، حيث انه غالبًا ما يتم إيواؤهم في المزارع أو في مخيمات ملحقة بالمزارع، بعيدًا عن الأنظار ولكن متاحون دائمًا لصاحب العمل. وهذا الفصل المكاني يعقد من امكانيات تنظيم شبكات التضامن بين ومع هؤلاء العمال الموجودون بالظل.
ورغم انهم غير مرئيين الا ان غيابهم خلق فراغًا في قطاع اللوجستيات والصناعات الزراعية ، مما دفع أصحاب العمل الزراعي والسلطات العامة لضمان توافر فئات أخرى من السكان لتلبية طلب المستهلكين واستمرار دوران عجلة الإنتاج الزراعي المكثف: تم تسجيل العاطلات والعاطلين عن العمل والطلاب وطالبي اللجوء والعاملين التضامنيين “طوعًا”.
أيضا، في الوقت الذي أقامت فيه العديد من الدول الأوروبية جسورًا جوية لنقل العاملات والعمال إلى المناطق الزراعية بشكل عاجل، كشفت الأزمة عن مدى أهمية القضية الصحية. على الرغم من المخاطر الصحية المعتادة في العمل الزراعي (مثل: التعرض المفرط للمبيدات الزراعية، والإرهاق الناتج عن زيادة أعباء وساعات العمل ، وعدم الامتثال لقواعد الأمان، ونقص معدات الحماية) فإن العاملات والعمال الأجانب “المؤقتين” لم يتم تدريبهم علي إجراءات حمائية، ولا تأمينهم ضد مخاطر الإصابة أو الحوادث أ والمخاطر … في المزارع التي انتقلوا للعمل اليها. بالإضافة إلى ذلك ، فإن مخاطر الإصابة بكوفيد 19 تتفاقم بسبب اكتظاظ حيز العمل وصغر حجم المساحات السكنية التي لا تضمن مسافات السلامة المكانية. إن حالة الطوارئ المرتبطة بالأزمة الصحية والاقتصادية لا تبرر اطلاقا عدم الاحترام للظروف المعيشية وظروف الاستقبال والعمل اللائق لهؤلاء العمالات والعمال الزراعيين.
تمكنا مراقبة تركيبة العمل الزراعي في الأشهر المقبلة وآثاره خارج نطاق الجائحة عبر تحليل الابعاد الاقتصادية والاجتماعية والحيوسياسية التفكير بارتباط الوثيق بين اتاحة “حرية” تنقل العاملات والعمال ب “حرية” حركة البضائع في السوق الموحدة. بينما سلطت الأزمة الضوء على المركزية الهيكلية وحيوية العمالات والعمال الأجانب في الزراعة الأوروبية في الظروف الحالية، يظل السؤال مطروحا: ماذا يمكن ان نفعل لكي يؤدي فتح القوس/الاستثناء الي فتح مجالًات للنضال يجمع المعنيينات والمعنيين بالدرجة الاولي وشبكات التضامن والجهات الفاعلة في العالم الفلاحي؟