هل ستلجُ بلدان البحر الأبيض المتوسط، وبوجه خاص بلدانُ شمال أفريقيا (من المغرب إلى مصر)، حقبةً مطبوعة بأزمة غذائية غير مسبوقة؟ فمع الملحوظ من تحسن مؤشرات انتشار نقص التغذية وانعدام الأمان المعتدل أو الحاد في أثناء السنوات الأخيرة في هذه المنطقة من العالم (1) -وذلك حتى حلول الأزمة الصحية-، نرى مستويات التضخم غير المسبوقة المسجلة خلال السنتين الأخيريتين (2021-2022) في هذه البلدان تُسهم اليوم في تدهور قدرة سكانها الشرائية، وبخاصة قدرة طبقاتها الشعبية(2). هل يهدد هذا التضخم، المترافق منذ العام 2020 مع اختلالات عديدة في توزيع المواد الغذائية الأساسية، مستقبلَ استقرار تمويناتها الغذائية (3)؟
لم تعد دول المنطقة تضمن على الإطلاق تغذيةً لسكانها. وذلك بفعل حدثين كبيرين؛ أزمة الأسواق العالمية للمواد الأولية الزراعية والطاقية مع آثار مباشرة على أسعار المواد الغذائية الأساسية (الحبوب، منتجات الحليب، السكر، الزيوت…) والمدخلات الزراعية (أسمدة آزوتية، اليوريا، أمونترات والمحروقات) من جهة؛ وتفاقم ظرفية الأسواق هذه بفعل حرب روسيا وأوكرانيا، البلدين ذوي المكانة الهامة في المبادلات العالمية لهذه المنتجات، من جهة أخرى.
ارتفاع الأسعار العالمية للمنتجات الزراعية في 2020-2021 بفعل حرب روسيا وأوكرانيا
تبدو أزمة الأسواق، وما تلاها من ارتفاع في أسعار المواد الأولية والمدخلات، كعاقبة لأزمة كوفيد-19 التي بدأت منذ ربيع العام 2020. وستُفاقم حرب روسيا وأوكرانيا، المندلعة يوم 24 فبراير 2022، ازمة ارتفاع أسعار المواد الأولية الزراعية والأسمدة.
إن كانت أسعار المواد الغذائية، والمواد الأولية الزراعية، قد تميزت، في العام 2019، بميل إلى الانخفاض، فإن الظرفية الاقتصادية المطبوعة بالأزمة الصحية قد جعلت كل أسعار المنتجات الزراعية تشهد ارتفاعًا قويًا خلال الموسم التجاري الأخير 2020-2021.
وبين مايو العام 2020 ومايو العام 2021، قامت الصين بشراء كميات هائلة من الحبوب في ظل انخفاض المخزونات في الولايات المتحدة الأمريكية في يونيو العام 2021 (4). كانت أسعار القمح الطري، السائرة نحو 200 دولار للطن في سنوات 2011-2012، قد وصلت مبالغ متراوحة بين 290 دولار للطن، (بحساب التسليم على ظهر السفينة FOB) (5) في الربع الأخير من العام 2021. منذ أغسطس العام 2021، كان الديوان الجزائري المهني للحبوب، أحد الفاعلين الأساسيين في أسواق الحبوب، يؤدي سعر تموينات قمح طري فرنسي الأصل، في سبتمبر العام 2021، بكلفة معالجة تتجاوز إلى حد بعيد جدا 300 دولار للطن(6). كان القمح الصلب الذي كان يُشترى في الأسواق العالمية بـ300 دولار قبل عشر سنوات، يصل مبلغ 430 دولار للطن FOB في متم العام 2021. كانت الذرة تباع، في هذا التاريخ، بحوالي 240 دولار للطن، ومسحوق الحليب المقشود بأكثر من 3500 للطن (FOB) مقابل 2000 للطن في العام 2015. وقفزت الأسعار في مايو العام 2021 بزهاء 40% في سنة، لتصل أعلى مستوياتها في سبتمبر-أكتوبر-نوفمبر العام 2021، بحسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو). كان ارتفاع سعر الذرة بنسبة 88%، والصويا بنسبة 73%، والقمح ومنتجات الحليب بنسبة 28%، والسكر بنسبة 34%.
يُبرز تفحص تطور مؤشرات أسعار المنتجات الغذائية الأساسية أن أوضحَ الارتفاعات خلال الربع الأخير من العام 2021 شملت الحبوب، ومنتجات الحليب، والسكر، وبنحو أقل اللحم والزيوت النباتية، وهي منتجات تمثل في العام 2021 معظم واردات بلدان جنوب المتوسط من الأغذية.
رسم: تطور مؤشرات أسعار المواد الغذائية (2020-2021)

يتجلى من هذه المؤشرات أن الحبوب ارتفعت بنسبة 40,5%، ومنتجات الحليب بنسبة 28,2%، والزيوت النباتية بنسبة 78,5%، والسكر بنسبة 16,4% في الحقبة ذاتها. كان ارتفاع الأسعار الزراعية هذا، الذي لم يبلغ قط هذا المستوى منذ العام 2012، نتيجة لاستئناف واردات الصين-التي باتت خلال موسم 2020-2021 أول مستورد عالمي للمنتجات الزراعية والزراعية الغذائية- وارتفاع لأسعار النقل وتقليصات مؤقتة للصادرات، مطبقة في عدد من البلدان المنتجة (روسيا، بولونيا، رومانيا، بلغاريا، الأرجنتين…) (7).
وللأزمة الأوكرانية دور المواصلة لاحقًا كي تعيد إطلاق الأسعار في فبراير العام 2022
منذ بداية الحرب، ارتفع سعر القمح الطري بنسبة 50% ليصل إلى 450 دولار للطن، وارتفعت الأسعار العالمية للزيوت النباتية بنسبة 23%، والخاصة بالسكر بنسبة 7%، وسعر اللحوم بنسبة 5%.
على هذا النحو، ستشتري الجزائر 600.000 طن من قمح الطحن، فرنسي الأصل، بـ485 دولار للطن (كلفة ومصاريف) عند الشحن في مارس-أبريل العام 2022 (8). ومن جانبها، ستشتري مصر، أول مستورد للقمح الطري عالميًا، 240.000 طن من القمح الطري الفرنسي في مايو، بسعر 492,5 دولار للطن(9). وحالة سوق الذرة أشد توترًا من سوق القمح، عقب حوادث مناخية في البرازيل وفي الأرجنتين. ولن تستطيع السوق العالمية للذرة، بفعل الحرب التي تحول دون البذر في أوكرانيا، تعويض تموينات أوكرانيا (15% من السوق العالمي)، ما سيؤدي إلى غلاء أغذية الدواجن، ومصاعب في التموين باللحوم والحليب وغيرها من المنتجات الحيوانية.
لم يسبق، منذ 60 سنة، أن كان الحصول على المواد الغذائية الأساسية مكلفا، فعليا، بهذا القدر
تجدر الإشارة الى أن كل بلدان جنوب المتوسط وشرقه قد شهدت تجديد استراتيجيات تجارية بفعل إغلاق السوقين الروسية والأوكرانية، لاسيما من جانب بلدان شديدة الارتباط بهاتين السوقين (لبنان، مصر، تركيا، ليبيا، تونس والمغرب بدرجة أقل). وسارعت كل البلدان المستوردة، بقصد تعزيز مخزوناتها الاستراتيجية قبل إغلاق السنة التجارية، إلى استكمال مشترياتها من مناطق أخرى مصدرة(10). كانت هذه التدخلات، المترافقة مع إجراءات وقف صادراتها الغذائية (كما حال الجزائر ومصر) ترمي الى تأمين تموينها الداخلي(11).
وإلى جانب آثاره المباشرة على التوازن العالمي بين العرض، تسبب النزاع الأوكراني في دوامة ارتفاع لتكاليف الإنتاج الزراعي.
ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة ارتفاع أسعار المدخلات
يجدر التنويه إلى أن ارتفاع أسعار الحبوب كان مصحوبًا بارتفاع تكاليف الأسمدة الكيماوية والطاقة. إذ زادت أسعار الأسمدة بنسبة 82% في سنة، وأسعار الطاقة بنسبة تفوق 35%. وإن كانت تكاليف المدخلات الزراعية (بذور، أسمدة، وقود، أغذية الدواجن) في ارتفاع مستمر منذ سبتمبر العام 2020 في سياق ضغط على الأسواق العالمية مرتبط بالأزمة الصحية، ثم بالانتعاش الاقتصادي بعد كوفيد، فإن الحرب في أوكرانيا ستؤدي في الأخير إلى تأجيج هذه التوترات في السوق العالمية للمدخلات الزراعية. فعلى سبيل المثال، انتقل سعر السماد الآزوتي في السوق الفرنسية من 230 يورو للطن في مطلع أبريل العام 2021 إلى 845 يورو للطن بعد سنة من ذلك. أما سعر أغذية الحيوانات فقد ارتفع، بالنسبة لمربي الماشية، بنسبة 14,6% في فبراير الأخير قياسا بفبراير العام 2021، بفعل ارتفاع أسعار الحبوب والنباتات الزيتية. ومن زاوية تفصيلية، زادت أسعار أغذية الخنازير بنسبة 17,5% في ظرف سنة، وأسعار أغذية الدواجن بنسبة 15,1 %، وأسعار أغذية البقرِ مُنتِجِ الحليب بنسبة 12,5%(12). وبسبب النموذج التقني الكثيف المعتمد في هذه البلدان، المستهلك بقوة للمنتجات الكيماوية، وللبذور الممنوحة من كبريات الشركات وللآلات المستوردة، ستؤثر ارتفاعات أسعار المدخلات بشدة على تكاليف الإنتاج. وسيسقط مستعملو هذه المنتجات، بنحو طبيعي، تلك التكاليف، على أسعار الاستهلاك، ما سيسهم في انخفاض القدرة الشرائية للطبقات الشعبية.
وسيكون صعبًا جدا حاليًا على كبار مستوردي الأسمدة الآزوتية (البرازيل والأرجنتين) إيجاد بدائل للتدفقات القادمة من روسيا، أول مصدر للأسمدة في العالم.
على هذا النحو، تُغذي الحرب في أوكرانيا دوامة خطيرة، من ارتفاع الأسعار والتكاليف الزراعية، تشكل عامل تضخم في العالم. تجاوز سعر هذه المواد الزراعية، معبرا عنه بالقدرة الشرائية بالنسبة إلى المواد الصناعية، في شهر مارس أعلى مستوياته التاريخية الذي بلغه إبان أزمة العام 1973، لما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حصارها على الصوجا ومنظمة أوبيب حصارها على البترول. يضرب هذا التضخم، المرشح للاستمرار، الأمن الغذائي الإقليمي والعالمي، وكذا الاستهلاك الشعبي. ويطرح مطلبَ بناء نموذج انتاجي وطني متحرر من الأسواق العالمية، واستعادة للسيادة الغذائية القائمة على استعمال أوسع للبذور المحلية القروية المقاومة للقحولة، وتحديد نموذج تقني زراعي ينهل من ممارسات الفلاحين ومعارفهم ودرايتهم مع إغنائها بالمبادئ الكونية للزراعة الايكولوجية الحديثة.
إذا تعذرت تغطية كاملة لتزايد الطلب الغذائي، لا سيما القمح، في معظم بلدان شمال أفريقيا – التي تمثل قطبا بالغ التبعية للأسواق العالمية فيما يخص التمون- بالعرض المحلي، فيمكن تحسين الإنتاج المحلي بتعبئة أكبر للمقدرات الإنتاجية لفلاحي كل بلد.
مستقبل الأمن الغذائي في شمال أفريقيا
تمثل منطقة شمال أفريقيا (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر) 2,5% من السكان في العام 2022، وتمثل اليوم، بشرائها أكثر بقليل من 30 مليون طن، نسبة تفوق بقليل 15% من عرض القمح المتبادل في العالم؛ وباتت في هذه السنة التجارية 2021-2022 المنطقة المستوردة الرئيس للقمح في العالم(13). وإذا تمكنت هذه المنطقة، بوجه الأزمة السياسية المفتوحة بالصراع بين أوكرانيا وروسيا، من تغطية حاجاتها في الأمد القصير، وذلك لقاء تعبئة متنامية لموارد مالية، فمن الأرجح أن تواجه في السنة التجارية المقبلة 2022-2023 وضعًا مطبوعًا بأوجه عدم يقين كبيرة فيما يخص تمويناتها الخارجية. وإذا استبعدنا النقص في الحبوب في عدد من البلدان التي كانت تابعة للسوقين الأوكرانية والروسية (مصر وتونس وليبيا)، بفضل الإمكانات المتاحة من قبل بلدان مصدرة صافية أخرى (الاتحاد الأوربي او الارجنتين او الهند)، يمكن التساؤل عن الآفاق في الأمدين المتوسط والطويل بفعل إغلاق السوقين الأوكرانية والروسية. هل ستكون فوائض القمح التي ستوفر في أوروبا (فرنسا وألمانيا أساسا) أو مناطق أخرى (الأمريكيتين أو أستراليا أو الهند) كفيلة مستقبلاً بسد نقص السوقين الأوكرانية والروسية بفرضية استمرار –محتمل-للصراع؟ إذ يجب تعويض ما سُحب من السوق، أي زهاء 50 مليون طن من قمح أوكرانيا وروسيا، لتلبية طلب استيراد سيستمر، وبهذا النحو تدبير توترات في الأسواق العالمية كانت أصلا مستعصية-قبل اندلاع الصراع الأوكراني الروسي-بالنسبة لعدد من البلدان التابعة بشدة لتلك الأسواق فيما يخص تمويناتها (14).
إن كانت كميات قياسية من إنتاج الحبوب بوجه خاص قد أتاحت منذ العام 2012 التحكم في تقلب الأسعار البالغ هذا، فليس من المؤكد استمرار هذه الوضعية مستقبلا، بسبب اتخاذ قرارات سياسية من البلدان الحريصة على تأمين تمويناتها أولا (بإجراءات ضريبية و/أو تقليصات و/أو منع تصدير)، وأيضا بسبب اغلاق السوقين الأوكرانية والروسية. في هذا السياق الجيوسياسي المطبوع بعدم اليقين وبالصراعات الكامنة، تغدو ديمومة التموين من الأسواق العالمية مسألة جسيمة.
هل ستتوافر لبلدان المتوسط الأشد هشاشة على صعيد غذائي (تونس، لبنان، مصر، ليبيا، المغرب) القدراتُ المالية لشراء المواد الغذائية التي ستزداد غلاءً، و في الآن ذاته، مواصلة ليس فقط دعم سعر الخبر في السوق الوطنية، بل أيضا أسعار الحبوب المدفوعة للمنتجين المحليين؟
إن التضخم المؤثر على أسعار الطاقة والمدخلات الزراعية، أو دوامة ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، المترافقة غالبًا مع انخفاض قيمة العملات المحلية (قياسا بالدولار الأمريكي) تشكل عوامل أخرى من عوامل المخاطر الاقتصادية المهددة للبلدان التابعة.
إن التحديات التي تطرحها مخاطر انعدام أمن غذائي إقليمي البادية في الأمدين المتوسط والطويل تتطلب على هذا النحو التحرك بتعبئة عدة روافع.
التأثير على روافع عدة: داخلية لإنماء الإنتاج، وخارجية للتحكم في الأسواق العالمية
رغم أن الظروف الزراعية -المناخية تمثل حدا طبيعيا بوجه ارتفاع كبير للإنتاج لتغطية طلب متزايد باستمرار على المنتجات الأساسية، سيكون لازما تخصيص مزيد من المساحات للإنتاج الأساسي (تعويضا للمنتجات المستوردة) في عدد من البلدان، وإعادة توجيه الإعانات الممنوحة حاليا للزراعات التصديرية نحو الإنتاج الأساسي (الحبوب، الحليب، الخ). كما سيكون لازمًا في السنوات التجارية المقبلة، بقصد تحسين التموينيات، زيادة المعدلات الوطنية لجمع القمح والحليب المحلي بالسهر على تحديد أسعار مجزية لمنتجي القمح والحليب، وتقليص الخسائر اللاحقة لجني المحصول. وتمثل استثمارات عمومية أكبر، مرفوقة بتحفيزات اقتصادية، وبتأطير تقني مُجَوَّد لفائدة صغار المنتجين الزراعيين، رافعة أخرى ستكون تعبئتها مطلوبة من الدول. كما يمكن دعم السياسات التجارية بمزيد من مراصد متابعة للأسواق بقصد إنماء إمكانية توقع تكاليف الواردات، ومقدرات تخزين أفضل بقصد ضبط مشتريات القمح (15)، وخبرة في المفاوضات مستعملة لأدوات تدبير أسواق المنتجات الأساسية. ولا يمكن لإجراءات الأمد القصير هذه أن تكون فعالة إلا مع إصلاح عميق لاتفاقات التبادل الحر، واتفاقات الغاء الجمرك والتخصص في منتجات التصدير المفروض على بلدان شمال أفريقيا في إطار قسمة عمل غير عادلة. ومن وجه آخر، يستدعي تغير المناخ، شديد الضرر ببلدان جنوب حوض المتوسط والمهدد للأمن الغذائي، إجابات تقنية وسياسية مناسبة أكثر. ويجب لزوما تطبيق خطط تكييف الزراعة مع تغيرات المناخ من أجل وقف انخفاض انتاج الحبوب المرتقب من طرف الخبراء، وأن تستفيد من دعم مالي حقيقي(16). إن مسؤولية البلدان المتطورة في التغيرات المناخية الجارية، والتي تضررت منها مناطق جنوب المتوسط، تتطلب تخصيص مزيد من الصناديق الخضراء لدعم سياسات التكيف المحلية مع التغيرات المناخية.
ويجب القيام ببرامج على الصعيد الإقليمي و/أو الدولي بقصد تفادي أوضاع انعدام الأمن الغذائي المحدقة، والتصدي للتصرفات تجار القمح المضاربية. تلك حال مبادرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة وغيرها من المنظمات الدولية (البرنامج الزراعي العالمي، اليونيسف، برنامج الأمم المتحدة للتنمية، الصندوق الدولي للتمية الزراعية …). ليس لدى أي من البلدان المستوردة الكبرى مخزونات ضبط للأسواق العالمية، وسيكون مفيدا العمل لانخراط كبار البلدان المنتجة – حتى الصين والهند- للمشاركة في تحرير المخزونات المتوافرة حسب الحاجات. المقصود أخيرا تنظيم التضامن الدولي مع البلدان التي تواجه مصاعب. يجب أن تعبأ بشكل أكثر فعالية المساعدة الغذائية، وتتجه أيضا نحو تشجيع أوجه التعاون الدولية في مجال أنظمة البحث الزراعي والابتكارات التقنية. ولن يكون هذا التضامن الدولي غير عودة إلى الأصل، إذا جرى في منتصف القرن التاسع عشر التزود بالأغذية من 17مستعمرات الجنوب لفائدة البلدان الأوربية التي عانت في أثناء حرب القرم (1853-1856) من نقص في القمح سبَّبَ لسكانها انعدام أمن غذائي.
من الأمن الغذائي إلى السيادة الغذائية
تُسائل الأزمةُ الغذائية اليومَ بقوة نماذجَ النمو الزراعيةَ القائمة على المبادئ النيوليبرالية. فهي لا تدعو إلى توطيد الأسس الإنتاجية للقطاع الزراعي وحسبُ، بل حتى إلى تقليص عجز الانتاجات الاستراتيجية (حبوب، حليب، سكر، وزيوت نباتية)، وتعزيز استقلالية القطاع الزراعي والزراعي-الغذائي عن الأسواق الخارجية، وحصول الفلاحين على الموارد المادية والعقارية والمالية). وتدعو إلى تقوية أسس سياسة زراعية تروم تأمين إنتاج كافٍ على صعيد وطني، وحفز الزراعات الأسرية التي تشجع الإنتاج المعيشي لتطبيق تدابير تكيف مع تغير المناخ من أجل ضمان استدامة الإنتاج الزراعي، وأخيرا تشجيع حصول السكان في وضع هشاشة قصوى على تغذية سليمة.
تطرح هذه المقاربة مطلب هجر المنطق النيوليبرالي، وتحديد سياسات عمومية قائمة على منظورات اقتصادية وتقنية جديدة.
يجدر، بعبارة أخرى، وضع معالم مُؤدية إلى السيادة الغذائية تروم إنتاج ما يمكن محليا، وعدم اللجوء إلى الأسواق الخارجية سوى للحصول على منتجات يتعذر إنتاجها محليا (القهوة، الشاي، التوابل…)
المقصود في نهاية المطاف إرساء نموذج تقني زراعي جديد، مُتَمِّم لعمل نزع الاستعمار عن نظام تقني زراعي مُستهلكٍ جدا للمنتجات الكيماوية والمبيدات والتجهيزات الزراعية المستورد معظمها، ومُستَلهَم من بلدان الشمال ذات الظروف الزراعية المناخية المغايرة لما في بلدان شمال أفريقيا. آن أوان إعادة تملك الممارسات المعرفية لدى الفلاحين الذي عرفوا كيف يستفيدون من الموارد الهشة في الغالب باختراع أنظمة تقنية مستدامة، من جهة، ومن جهة أخرى تثمين المعارف التقنية الفلاحية والشروع في انتقال زراعي ايكولوجي وطاقي. الظفر من جديد بأول حلقات السيادة الغذائية-البذور المحلية-وتنويع أنظمة الزراعة، وحماية التنوع الأحيائي المحلي، والموروث الجيني المحلي، كلها أهداف أساسية للاستجابة لمختلف التحديات (الاقتصادية والاجتماعية والصحية والمناخية) التي تواجهها بلدان شمال أفريقيا.
عمر بسعود
مختص في اقتصاد الزراعة
CIHEAM مونبولييه – فرنسا
الرابط الأصلي للمقال : هنا
ترجمة موقع سيادة
مراجع
انظر
Rapport FAO (2021). Etat de la sécurité alimentaire et nutritionnelle dans le monde. 240
معدلات التضخم المسجلة في العام 2021 بلغت: في تونس 7,5% و 7,3% في مصر، و4,7% في المغرب، و9,2% في الجزائر.2
أنظر اليومية الإعلامية «La presse» في تونس. تجدر الإشارة إلى أن السلطات العامة في كل بلدان شمال أفريقيا تدخلت بقصد تسقيف سعر الخبز، وطمأنة السكان بشأن حالة مخزونات المواد الغذائية الأساسية المتوافرة في كل بلد.3-
4-تبلغ هذه المخزونات 850 مليون صاع (يعادل الصاع الأمريكي27,21 كلغ). وكان هذا المستوى أخفض مما سُجل منذ 14 سنة.
5-FOB=تسليم على ظهر السفينة، ما يعني بدون رسوم
6- دفع الديوان الجزائري للحبوب 394,50 دولار للطن التموينات في سبتمبر 2021 لقاء 000 300 طن قمح من أصل فرنسي.
7- Rapport Cyclope. 2021
8- كل المعلومات المتعلقة بعمليات الشراء هاته والاسعار أوردها موقع Terra-net Média المختص في أسواق المنتجات الزراعية
9- في نفس الفترة، وبهدف تدعيم مخزوناتها الاستراتيجية، اشترى أيضا هذا البلد في إطار نفس طلب العروض 000 50 من قمح بلغاريا بسعر 480 دولار للطن، لا تزال صوب وجهتها. ومن المفارقة أن الكميات الهامة التي تستوردها بلدان شمال أفريقيا (الجزائر ومصر بالخصوص) ستسهم في رفع الأسعار (حسب Terra-net média ليوم 8 ابريل 2022).
10- طمأن الوزير الجزائري، في مطلع شهر مارس 2022، بأن لدى البلد” مخزون حبوب كاف حتى متم العام، ولن تنال منه التغيرات الحاصلة على صعيد عالمي”. وكانت مصر أعلنت عن شراء مخزون من 6 مليون طن لسنة 2022-أي 6 أشهر من الاستهلاك-وهي كمية ارتفعت ب2,4 مليون طن قياسا بالموسم السابق. تتضمن المنتجات المُخَّزَّنة السكر، 5,6 أشهر، والزيت والأرز، 5,9 أشهر، والدجاج ،7,8 أشهر، واللحوم الحية 16,6 أشهر، صرح المدير العام للمرصد الوطني للزراعة بوزارة الزراعة في تونس في متم فبراير 2022 أن مخزونات الحبوب كانت كافية حتى نهاية شهر يونيو القادم؛ لمواجهة جفاف استثنائي يضر بالبلد، أعلن وزير الفلاحة المغربي تشكيل مخزونات حبوب وسكر وزيت مائدة وحتى البذور والمبيدات، وأعلن رئيس الفيدرالية الوطنية للمطاحن وجود مخزونات قمح كافية لخمسة أشهر استهلاك.
11- حتى بلدان ذان موقع مريح أكثر في الأسواق اتخذت تدابير لتعليق تصدير فوائضها من المواد الغذائية (هنغاريا، مولدافيا، بلغاريا…)
12- معلومات النظام الفرنسي الزراعي Agreste
13- Tanchum, M (2021). The fragile state of food security en the Maghreb. Middle East Institute. NW, Washington
بوجه عام قدرت وزارة الزراعة الأمريكية في 2021 أن افريقيا الشمالية ستصعد في الموسم التجاري 2021-2022 كقطب استيراد عالمي أول للقمح بزهاء 29,6 مليون طن مستوردة، متجاوزة بذلك جنوب شرق آسيا (27,1 مليون طن) انظر أيضا:
Perspectives agricoles de l’OCDE et de la FAO 2021-2030. Principaux éléments des projections
14- يشير عديد من المحليين، إلى الأزمة الصحية والحوادث المناخية المتواترة في المناطق المنتجة للحبوب، إلى أن ” أسعار القطاع الغذائي ستكون طيَّارة مما سبق”. محللون من Tallage/Stratégie Grains ، وهو مكتب دراسات اقتصادية زراعية مختص في الأسواق الأوربية و العالمية للحبوب و النباتات الزيتية.
15- تظل مستويات المخزونات في معظم البلدان المستورِدة غير كافية (4 مليون طن في المغرب، 3,5 مليون طن في الجزائر، أقل من 0,7 مليون طن في تونس، وأكثر بقليل من 4 مليون طن في مصر).
16- أعلن خبراء الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ GIEC أن حرارة البحر المتوسط باتت ترتفع أسرع بنسبة 20% من سائر العالم”، وأن انخفاض الإنتاج يلوح في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مسببا بذلك ارتفاع هشاشتها وتبعيتها للصادرات.
17- بمفارقة لا يُعَلِّمُها غير التاريخ، أدت حرب القرم في 1853-1856 إلى إغلاق سوق البحر الأسود، واندلاع أزمة في تموين أوربا بالقمح، أفضت إلى قلاقل جوع. وكان قمح الجزائر الصلب نجدة كبيرة لفرنسا الإمبراطورية الثانية. انظر مقال
Wouter Ronsijn. Des « émeutes de la faim » à l’heure de la mondialisation du marché des denrées alimentaires 1854
