“تتضح طبيعة الاقتصاد السياسي للتمويل الخارجي في كونه في الجولة الأولى الجزرة التي وعدت بتوفير الموارد الأجنبية لتمويل التَّنمِيَّة وسد عجز ميزان المدفوعات، أما في الجولة الثانية فكان تخفيف عبء الديون التي تراكمت، جرَّاء الركون للتمويل الخارجي هو العصا”.
(الاقتصادي السوداني علي عبد القادر).
لم يعُدْ يتذكر الكثيرون أن السودان كان دولةً مُكتفِيَّةً ذاتيًا من الغذاء، تعتمد نسبةٌ كبيرةٌ من سكانها على الزراعة مصدرًا للغذاء والدخل قبل أن تنتقل إلى دولة تعيش في حالة من انعدام الأمن الغذائي والفقر، وهو أمر ناتج عن سلسلة من السياسات التي جرى تنفيذها بواسطة الإدارة، النُخَب الاستعمارية، ونُخَب ما بعد الاستعمار التي قامت بتوجيه الموارد الطبيعية للبلاد لخدمة مصالحها الضيقة، والتي غالبًا ما تعارضت مع مصالح أغلبية فئات الشعب(1).
ويركز هذا المقال على تلك السياسات التي جرى إملاؤها، أو فرضُها، في كثير من الأحيان، بواسطة مؤسسات “بريتون وودز” مُمثَلة في البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، ويسلط الجزء الأول منه الضوء على السياسات المتعلقة بالقطاع الزراعي بصورة مباشرة، والتي ساهمت في تشكيل النهج الذي اتبعته الحكومات المتعاقبة، منذ سبعينيات القرن الماضي، في تحديد أولويات تطوير القطاع والميزانيات المخصصة.
أما الجزء الثاني فيركز على السياسات العامة لهاتين المؤسستين في البلاد، وهي السياسات التي أثَّرت- ولو بشكل غير مباشر- على نشاط ومعاش المزارعين والرُعاة، ويتطرق أيضًا إلى انعكاسات ذلك على منظومة الغذاء المحلية (الهشة) عمومًا، واستقرار ورَفاه المجتمعات الريفية بصفة خاصة.
إذ انكشفت فداحة هذه السياسات في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ البلاد التي تعيش تحت ظلال الحرب الأكثر تهديدًا لوجود السودان كدولة حديثة، والتي تعد بمثابة تجسيد لانفجار الغَبْنِ التاريخي للمجتمعات الريفية المُهمَّشة، والتي شهدت تدميرًا مُمنهجًا، على مدار عقود، لسُبُل كسب عيشها التقليدية، جرَّاء هجمات النُخَب الكومبرادورية المتوالية على الأرض ومواردها الطبيعية، كما سنوضح فيما يلي.
الجزرة: الإصلاحات النيوليبرالية كضمان للقروض
اعتمد سكان المنطقة، التي تُعرَف اليوم بالسودان، لقرون على الذرة الرفيعة والدَخَن كمصادر أساسية للغذاء بصورة رئيسة، وعلى القمح بدرجة أقل، وتنقلت المجتمعات بين رُقَع جغرافية مختلفة للحفاظ على خصوبة الأرض على مدى سنوات (2)، ومثلت الأمطار وسيلة الري الأساسية في معظم المساحات، بينما استخدم سكان الشريط النيلي مياه النهر سواء عن طريق الري الفيضي في موسم الأمطار أو ضخ المياه من النيل بواسطة تقنيات تقليدية مثل الساقية.
مثلت الزراعة المعيشية، لحظة دخول المستعمر، النشاط الاقتصادي الأساسي في البلاد، لكن الاستعمار الإنجليزي-المصري (1898-1956) لم يُولِ أهمية كبرى لمسألة الزراعة المعيشية، وتركزت جهوده وميزانياته على زراعة القطن بغرض التصدير، إذ جرى إنشاء العديد من المشروعات الزراعية لهذا الغرض (3)، أبرزها مشروع الجزيرة الذي يعتبر من أكبر مشروعات الري الانسيابي في العالم (4) بمساحة تُقدر بأكثر من 2 مليون فدان (0.9 مليون هكتار).
اقتصرت محاولات تحديث قطاع الزراعة المعيشية على استجلاب الآلات الحديثة في مناطق الزراعة المطرية، وبدأت أُولَى التجارب بشرق السودان في أربعينيات القرن الماضي، حيث جرى تأجير الأراضي للمستثمرين، وحين ذاك تم إعطاء الأولوية للسكان المحليين، إلَّا أنَّ ذلك كان أمرًا اسميًا، إذ تجاوزت شروط الاستثمار في تلك المشروعات المقدرات المادية المحدودة لمجتمعات تعيش على حد الكفاف، ما فتح الباب للاستثمار أمام النُخَب العسكرية ورجال الأعمال الذين يوجهون فائض الربح بعيدًا عن مناطق إنتاجه ويتجاهلون الآثار طويلة المدى لأنشطتهم الاستثمارية(5).
وقد دشَّن هذا النمط الزراعي لـ”المُلَّاك عن بُعد” بداية الهجوم المتسارع على الأراضي البِكر بواسطة استخدام الآلات الحديثة لإنتاج محاصيل موجهة للتصدير بصفة رئيسة، فيما يجري تدمير الأرض في غضون سنوات معدودة، ليهجرها المستثمرون بحثًا عن أراضٍ جديدة، وجرى الترويج لهذا النمط من استغلال الأرض باعتباره جزءًا من عملية التحديث الاقتصادي وحصل على رعاية من طرف الدولة التي وفرت للمستثمرين مجموعة من التسهيلات المالية، ووجهت بنود صرف الميزانية واستثمارات البنى التحتية من طرق وخدمات عامة لمصلحتهم(6).
لتتوج الجهود في هذا الاتجاه بإنشاء مؤسسة الزراعة الآلية عام 1968 كضمان لقرض البنك الدولي الأول، إذ عملت هذه المؤسسة على ضمان توجيه التمويل من البنك العالمي لصالح المشروعات الحديثة المملوكة لكبار مستثمري القطاع الخاص التي استحوذت على نصف قيمة قروضه سنة 1975(7).
من جانب آخر، وبالتوازي مع عمليات التوسع في الزراعة الرأسمالية، كانت تجري أكبر عملية تغيير في طبيعة النظام الغذائي للشعب السوداني لينتقل من استهلاك الحبوب المحلية إلى القمح المستورد، بعد أنْ قبلت حكومة الجنرال إبراهيم عبود العسكرية (1958-1964) المعونة الأمريكية عام 1959 والتي رفضتها أول حكومة ديمقراطية للسودان المستقل حديثًا والتي انقلب عليها الجنرال(8)، لتتوالى التسهيلات (الأمريكية) لاستيراد القمح والترويج للخبز المصنوع منه كخيار غذائي أساسي، خصوصًا وسط البرجوازية الحضرية الناشئة الطموحة لتَبنِي نمط حياة استهلاكي حديث، بالمقارنة مع البدائل المحلية التي تتطلب وقتًا ومجهودًا لتحضيرها وينحصر استهلاكها بصحبة الوجبات التقليدية.
وظل هذا التوجه مسيطرًا في المراكز الحضرية للبلاد وتبنَّتُه نسبة محدودة عدديًا من مجموع السكان تتمتع بثِقَل اقتصادي سياسي كبير، مما شكل عبئًا ماديًا معتبرًا على خزينة الدولة وارتهانًا للأسواق العالمية، وكرست من هيمنة الدولار الأمريكي بصورة سهلت عمليات الابتزاز التي مارستها المؤسسات المالية العالمية على السودان على مر العقود لتمرير شروط الإصلاحات النيوليبرالية.
بالتوازي مع عمليات التوسع في الزراعة الرأسمالية، كانت تجري أكبر عملية تغيير في طبيعة النظام الغذائي للشعب السوداني لينتقل من استهلاك الحبوب المحلية إلى القمح المستورد.
في هذا السياق من التوسع في الزراعة بغرض التصدير وزيادة الاعتماد على واردات القمح للغذاء، مصحوبًا بفشل الحكومة العسكرية فاقدة البوصلة التنموية، والتي راكمت الديون للبنوك الداخلية وللدول الخارجية لتمويل مشروعاتها غير المدروسة، اتسمت السبعينيات بانخفاض أسعار المواد الخام من الصادرات الزراعية وارتفاع أسعار السلع المستوردة من مُدخلات الإنتاج والوقود والبتروكيماويات، بعد صدمة البترول الأولى، فتواصل اختلال ميزانية الدولة وميزان المدفوعات، وهو أمر جرى استخدامه لتبرير حِزَم الإصلاحات الهيكلية الأولى في 1978(9).
تضمَّن البرنامج عدة محاور للإصلاح تجمعها تيمة أساسية وهي النظر إلى الاقتصاد السوداني كمصدر للمحاصيل الزراعية، ويشير علي عبد القادر (1990) إلى أنَّ برنامج الإصلاحات الأول هذا جعل من السودان “حقل تجارب” لسياسات صندق النقد الدولي فيما يتعلق بإلغاء قوانين النقد للدول النامية ضمن ما عُرِف بـ “مقترحات فيتيفين” نسبة لرئيس صندوق النقد وقتها(10).
تمحورت تعليمات الصندوق للإصلاحات حول تخفيض قيمة الجنيه السوداني استنادًا إلى معايير أُطلِق عليها “تنافسية المحاصيل”، إذ يعتمد هذا المنهج على تقدير التكاليف على أساس الأسعار العالمية باعتبارها أفضل مؤشر لأسعار السوق التنافسي، وأثبتت أولى تجارب الإصلاحات الهيكلية للنقد فشلَها باعتراف صندوق النقد نفسه، بسبب مساهمتها في الارتفاع الحاد في الأسعار- خصوصًا أسعار القمح والبترول المستورد- وفتحها أبواب المضاربة على العملة وارتفاع تكلفة المعيشة خصوصًا للفئات الضعيفة، لكن ذلك لم يثنِ الصندوق عن مواصلة تجاربه الإصلاحية الفاشلة حزمة تلو أخرى بآثارها الكارثية على السيادة الغذائية للبلاد.
فقد ساهمت “السياسات الإصلاحية” في مفاقمة المجاعة التي ضربت الأجزاء الغربية من البلاد في بداية ومنتصف الثمانينيات، ففي وقتٍ كان يزداد فيه الطلب المحلي على القمح تسارعت ضغوط المؤسسات العالمية لتقليل المساحات المزروعة بالقمح لصالح منتجات التصدير مثل القطن(11)، إذ قامت مؤسسة الزراعة الآلية، بإملاء من البنك الدولي، بإحلال القطن محل القمح في بعض مناطق الزراعة المطرية(12)؛ لقد وصلت قسوة شروط الإصلاحات حدًّا جرى فيه فرض متطلبات التصدير حتى على محاصيل الغذاء الرئيسية مثل الذرة الرفيعة.
في تلك الآونة كانت السودان تصدر621 طنًا من الذرة الرفيعة إلى المملكة العربية السعودية، وبالتحديد بين عامي1981-1985، أي في الفترة التي عانت فيها الأقاليم الغربية للبلاد من موجات الجفاف التي ضربت دول الساحل والتي تطورت إلى مجاعة حادة لم يتمكن ميزان البلاد الغذائي المختل من معالجتها مثلما حدث في موجة الجفاف التي سبقتها في بداية السبعينيات وراح ضحيتها الآلاف(13)، وبدأت موجات النزوح من الريف إلى المدن- وخصوصًا صوب العاصمة الخرطوم- مُعْلِنةً ميلاد أحياء الكرتون والعمالة الحضرية الهشَّة.
ساهمت “السياسات الإصلاحية” في مفاقمة المجاعة التي ضربت الأجزاء الغربية من البلاد في بداية ومنتصف الثمانينيات، ففي وقتٍ كان يزداد فيه الطلب المحلي على القمح تسارعت ضغوط المؤسسات العالمية لتقليل المساحات المزروعة بالقمح لصالح منتجات التصدير مثل القطن
يصف أمارتيا صن (14) كيف أن مجاعة السودان كان من السهل تجنبها، ويقارن “صن” كارثة المجاعة التي حلَّت بالسودان وإثيوبيا التي تراجعت فيهما معدلات الإنتاج الزراعي بنسبة 11% و12% على التوالي، ويقارنها مع الأوضاع في زيمبابوي وبوتسوانا، حيث نجت الدولتان من فك المجاعة، على الرغم من تسجيل معدلات تراجع أعلى في الإنتاج الزراعي (17% و38% للدولتين على التوالي) وحدث ذلك بفضل مجموعة من سياسات الاستجابة العاجلة المدفوعة بالضغط السياسي والشعبي، الأمر الذي لم يحدث في السودان وإثيوبيا تحت الديكتاتوريات.
ويستخدم “صن” تلك المجاعة كمثال على أن غياب الديمقراطية وتأثير الرأي العام يتيحان للسلطات التباطؤ في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنب كوارث بهذا الحجم، الأمر الذي يجعل من التحول الديمقراطي جزءًا لا يتجزأ من معركة استعادة السيادة الغذائية في السودان، في ظل اتضاح دعم مؤسسات التمويل للديكتاتوريات، ومحاولاتها إبقاء التحولات التي تلت الثورة السودانية في 2018 في إطارها الصوري دون تغيير يُذكَر في موازين القوى الاجتماعية وقنوات صُنع القرار لصالح الأسواق العالمية.
ومع تواصل هجمة الزراعة الرأسمالية الحديثة على الأراضي تمددت المساحات المُستَغلة بواسطة مشروعات الزراعة الآلية لتصل إلى 20 مليون فدان في منتصف الألفينيات مقارنة بـ 6 آلاف فدان عند الاستقلال في 1956، إذ جرى توظيف تلك المشروعات بواسطة حكومات النُخَب المدنية والعسكرية الريعية لتسيير عمليات “الزبونية السياسية” وتمكين الموالين لهم، خصوصًا في ظل أطول ديكتاتورية عسكرية في عهد عمر البشير 1989-2019.
وأدى هذا الاستغلال الجائر للأرض لإهلاك الأراضي الزراعية الخصبة، ولإزالة ما يزيد عن 95% من غابات شرق السودان، ما يهدد بمفاقمة موجات الجفاف التي تتربص بالإقليم(15)، وفوق كل ذلك فإنَّ الزراعة الرأسمالية شكلت خطرًا دائمًا على مسارات الرعيِّ التقليدية التي يعتمد عليها الرُعاة في شرق وغرب السودان بصفة خاصة، والذين يحتكمون على أكبر ثروات البلاد التصديرية في الوقت الحالي بعد انهيار أسواق القطن العالمية، حيث تبلغ الثروة الحيوانية للبلاد ما يزيد عن 109 مليون رأس(16).
وتسبب التدمير المتسارع للمراعي الطبيعية في زيادة حدة النزاعات بين المزارعين والرعاة في دارفور، ما شكَّل وقودًا لاستمرار الحروب في الإقليم، كما وفَّر هذا الصراع قوى بشرية للمليشيات المسلحة من وسط المجتمعات الرعوية التي لم تقدم لها الدولة أي بدائل منطقية لكسب العيش(17).
العصا: الإصلاحات الهيكلية لتخفيف عبء الديون
ظل الشعب السوداني يدفع فاتورة الإصلاحات النيوليبرالية المُفقِرة جيلًا بعد جيل، ولم تُثنِ الاحتجاجات التي اندلعت ضد هذه الإصلاحات الحكومة الانتقالية، التي أتت بها الثورة الشعبية، عن تطبيق وصفات التحرير الاقتصادي التي اشترطها صندوق النقد الدولي، حيث خرجت أول مظاهرة في ديسمبر 2018 في مدينة الدمازين، احتجاجًا على زيادة سعر الخبز من نصف جنيه إلى جنيه(18)، حيث وصل سعر رغيف الخبز المحرر بالكامل 50 جنيهًا قبل قيام الحرب في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
بعد سقوط البشير في 2019، تسلَّمت حكومة عبد الله حمدوك رئاسة الفترة الانتقالية (2019-2021) بخزانة أفرغتها عقود من الفساد والمحسوبية وفاتورة للدَين الخارجي تقف عند 56 مليار دولار(19)، ولم يكن بإمكان الأفق المحدود لموظفي المنظمات الدولية الذين شغلوا المناصب المهمة للحكومة الانتقالية التفكير خارج نطاق وصفات هذه المنظمات.
فجاءت سلسلة إصلاحات الاقتصاد الكُلِيِّ المُشترطة لتخفيف عبء الديون السابقة ولتوفير فرص تمويل جديدة بدون اختلاف يُذكر عن إلإصلاحات التي فُرضَت في 1978 من ضرورة تعويم سعر الصرف، ورفع الدعم بالكامل عن الوقود والخبز ورفع الدعم التدريجي عن تعريفة الكهرباء وتقليل الإنفاق على الخدمات الاجتماعية(20).
ارتفعت أسعار السلع والخدمات بمعدلات أُسيَّة جرَّاء هذه الإصلاحات، ولم تزدد معاناة الطبقات الحضرية العُليا ذات الاستهلاك المرتفع نسبيًا وحدها كما وعدت الحملات الترويجية للتحرير، بل وجدت الفئات الهشَّة من المزارعين والرُعاة (40% من القوى العاملة بالبلاد)(21) نفسها تحت أعباء زيادات تكلفة المعيشة ومُدخلات الإنتاج والتضخم المتسارع.
فمثلًا في 2020 زادت تكلفة الوقود للمزارعين بنسبة 875% وزادت تعريفة الكهرباء للقطاع الزراعي بنسبة 400%، واستجاب المزارعون لهذه الإصلاحات بالقيام بواحدة من أطول مظاهر الاحتجاجات الشعبية(22) بإغلاق الطريق القومي مع مصر لأكثر من 4 أشهر مطالبين بخفض تعريفة الكهرباء الزراعية، والتي نجح حِراكُهم في خفضها من 21 جنيها إلى 9 جنيهات، لكنها تظل أكثر بكثير من الجنيهين الاثنين اللذين سبقا عملية رفع الدعم(23).
بينما ظلت نسبة التمويل الحكومي لصغار المزارعين عند نفس النسب الضئيلة التي لا تتجاوز 1% (24)، بل يظل الدعم الحكومي على محدوديته موجهًا لخدمة مشاريع الزراعة الحديثة وكبار المزارعين-المستثمرين في الحقيقة- على الرغم من أنَّ فئة صغار المزارعين الذين يشكلون 40% من القوى العاملة بالبلاد تعتبر من الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة والأكثر احتياجًا للدعم، خصوصًا صغار المزارعين الذين لا يملكون أكثر من 5 أفدنة ويعتمدون فيها على أفراد الأسرة كقوى عاملة.
ويتركز معظمهم في مناطق الزراعة المطرية، ويواجهون مخاطر تقلبات المناخ بين الجفاف والفيضانات، ويعتمدون على وسائل زراعة تقليدية وإنتاجية مُتدنِية للفدان الواحد، كما يتعرضون لجشع التجار المحتكرين لسلاسل الإمداد من تقديم لقروض خارج القنوات الرسمية بفوائد عالية وتوفير مُدخلات الإنتاج وخدمات النقل بأسعار عالية(25).
وتتضاعف معاناة المزارعين في المناطق الغربية للبلاد، خصوصًا في ولايات دارفور وكردفان الواقعة في قلب حزام الساحل الجاف بعيدة من نهر النيل وروافده، والتي تحولت إلى بؤرة للنزاعات المشتعلة لقرابة العقدين من الزمان، ويقع النصيب الأكبر من هذه المعاناة على كاهل النساء اللاتي فقدن أزواجهن في الحرب أو بسبب النزوح نحو المدن ومناطق التعدين، بحثًا عن مصادر رزق أفضل، حيث تمثل النساء أكثر من 60% من القوى العاملة(26)، ويساهمن في إنتاج النسبة الأكبر من محصول الدَخن الذي بلغت إنتاجيته 2 مليون طن في 2020 (شكل 1) والذي يعتبر مصدر الغذاء الرئيس في غرب السودان وشرقه بدرجة أقل، لتأتي الحرب في أبريل المنصرم لتزيد من تلك المعاناة في ظل نزوح ما يزيد عن المليون شخص وسوء الأوضاع الأمنية وصعوبة حركة الأشخاص والبضائع، بينما يلوح شبح المجاعة من جديد في البلاد عامة وفي غربها بصفة خاصة.
أما باقي ولايات البلاد، فعلى الرغم من الاستقرار الأمني في أكثر من 10 ولايات من ضمن 18 ولاية منها، فإنَّ شلل المركزية المفرطة للدولة في ظل الحرب يهدد أمنها الغذائي، فبينما يمثل القمح المستورد ما يقارب 75% من إجمالي القمح المُستهلك بالبلاد (شكل1) تعتمد معظم حلقات سلسلة الإمداد، من استيراد وطحن وتخزين وتوزيع، على البنوك والمؤسسات الحكومية والشركات والمصانع الخاصة الموجودة بالعاصمة، وينطبق الأمر على الصناعات الغذائية الأخرى من منتجات ألبان وزيوت ومُدخلات إنتاج زراعي مستوردة أو مُصنَّعة محليًا(27).
ويهدد شلل جهاز الدولة المركزي بدوره الموسم الزراعي الصيفي الذي يبدأ التحضير له عادةً منذ بدايات يونيو، فبينما تتوارد الأنباء عن شروع وزارة المالية في تمويل الموسم وتوريد مُدخلات الإنتاج للولايات خارج دائرة الحرب، إلَّا أنَّ ذلك لا يُبشِر بوضع أفضل لصغار المزارعين.
فبالإضافة لأسعار السماد والبذور الكبير، جرى رفع سقف المساحات المُستحقة للتمويل من 500 فدان إلى ألفي فدان، ما يقصي صغار المزارعين المنتجين لأكثر من 80% من المحصول(28).
وقد نوه “الجزولي” و”توماس”(29) بضرورة ربط مطالب ثورة ديسمبر 2018 بمظالم الريف وسكانه من المزارعين والرُعاة لتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي وعادل، الشيء الذي ظلت النُخَب الحضرية المهيمنة على المجال والخطاب السياسي تفشل فيه باستمرار.
وعلى الرغم من ضَراوة النزاع الجاري في البلاد الآن، فإنَّ المدنيين لم ينخرطوا في الصراع الذي ظلَّ محصورًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ومع ذلك فإن تداعيات الحرب تهدد الموسم الزراعي وعمليات الاستيراد الرسمية، ما ينذر بمجاعة حادة قد تساهم في إشعال مزيد من النزاعات وجذب المكونات الأهلية لدائرة الحرب، الأمر الذي يضع عبئا على القوى المدنية والشعبية لابتكار حلول وتنظيمات ونماذج عضوية لمجابهة سؤال الغذاء في ظل ارتباك الدولة ومؤسساتها، فلا مناصَ من توظيف الفراغ الذي خلَّفتُه الحرب في استعادة السيادة الشعبية.
على الرغم من ضَراوة النزاع الجاري في البلاد الآن، فإنَّ المدنيين لم ينخرطوا في الصراع. ومع ذلك فإن تداعيات الحرب تهدد الموسم الزراعي وعمليات الاستيراد الرسمية السودانيين
فكما يتولى الشعب الآن مهام تسيير الحياة اليومية(30) في معظم القطاعات الحيوية من خلال تنظيم غرف الطوارئ الصحية والخدمية بالأحياء، استنادًا على المبادرات الشعبية وخبرة التنظيم الذاتي المُكتسبة من سنوات الثورة الخمس وتجارب لِجان الأحياء، انطلقت دعوات التدخل الشعبي العاجل لتنسيق عمليات إنتاج وتوزيع المحاصيل الغذائية(31)، وذلك من خلال تكوين وتشبيك التعاونيات الاستهلاكية بالمدن والإنتاجية بالريف، وإنشاء صناديق التمويل الشعبية البديلة، وفتح قنوات الاتصال المباشر بين مكونات سلاسل الإمداد، لكسر حلقات الاحتكار التي ظلَّ التجار يتحكمون بها غالبًا تحت رعاية السياسيين ورجال الدولة.
خاتمة
تتبع المقال التحولات الاقتصادية والاجتماعية في سودان ما بعد الاستقلال، والتي لعبت فيها المؤسسات العالمية من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية دورًا حاسمًا في تحديد المسار الاقتصادي للبلاد وانعكاساته الاجتماعية، ابتداءً من قرض البنك الدولي الأول في 1968 وصولًا للحِزم الإصلاحية القاسية التي تَلَتْ- وللمفارقة- أكبرَ انتفاضة شعبية قامت ضد نفس سياسات التقشف والإفقار.
ورأينا كيف عززت هذه السياسات الممارسات الاستخراجية الاستعمارية بتوجيهها الاقتصاد القومي نحو التصدير في تجاهل تام لآثار ذلك على مصادر الغذاء والدخل لملايين المزارعين والرُعاة واستدامة أراضيهم والبيئة المحيطة بهم بصفة عامة، ما يترك الريف السوداني تحت وطأة الفقر والغَبن التنموي الذي لم يجد وسيلة سوى السلاح كمصدر للدخل وأداة تعبير ضد المظالم التاريخية التي مارستها النُخَب المتواطئة مع المؤسسات العالمية والمستفيدة من فُتات البورصات العالمية.
الأمر الذي يضع السودانيين اليوم أمام سؤال السيادة الغذائية بصفة خاصة في وقت يلوح فيه شبح المجاعة، بسبب ارتباك سلاسل الإمداد عالية المركزية، ليجد الشعب نفسه أمام لحظة نادرة من الهجرة العكسية من المدينة للريف لملايين الأيدي العاملة والخبرات التقنية والإدارية والتنظيمية، ما يفتح ثغرةً أمام أمل صغير في أن تستعيد المجتمعات المحلية التي تعايشت لآلاف السنين مقدراتها ومهاراتها في تطوير صيغ عضوية للاستجابة لسؤال البَشر الأول المتمثل في الغذاء وما يتطلبه ذلك من التعاون والتضامن والذي قد يشكل الضامن الوحيد لسلام مُستدام بعيدًا عن صفقات جنرالات الحرب والوسطاء الدوليين.
- رزاز حسن/ السودان
المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الرابع: “هذا من عمل البنك والصندوق.. 40 عامًا من التخريب النيوليبرالي لسيادتنا الغذائية“.
يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط
الهوامش:
- علي. عبدالقادر. 1990. من التبعية إلى التبعية: صندوق النقد الدولي والإقتصاد السوداني. دار المستقبل العربي. القاهرة.
- – علي. تيسير. 1994. زراعة الجوع. مركز الدراسات السودانية. القاهرة
- Niblock, T. 1987. Class and power in Sudan: the dynamics of Sudanese politics, 1898-1985. Houndmills, Basingstoke: Macmillan.
- مشروع الجزيرة. التاريخ والنشأة. https://gezirascheme-sd.com/index.php/ar/elgazerascheme/about-us
- Niblock, T. (1987) Class and power in Sudan: the dynamics of Sudanese politics, 1898-1985. Houndmills, Basingstoke: Macmillan
- علي. تيسير. 1994. زراعة الجوع. مركز الدراسات السودانية. القاهرة
- سليمان. محمد. 2006. السودان حروب الموارد والهوية. دار عزة للنشر. الخرطوم
- علي. تيسير. مصدر سابق
- علي. عبدالقادر. مصدر سابق
- نفسه
- سليمان. محمد. 2006. السودان حروب الموارد والهوية. دار عزة للنشر. الخرطوم
- نفسه
- مصدر سابق
- Sen. Amartya. 2000. Development as Freedom. Anchor Books. New York.
- المرجع السابق
- FAO. (2021). Special Report – 2020 FAO Crop and Food Supply Assessment Mission (CFSAM) to the Republic of the Sudan. Rome. https://doi.org/10.4060/cb4159en
- Thomas. Edward. and El gizouli magdi. 2021. Creatures of the Deposed: Connecting Sudan’s Rural and Urban Struggles. African Arguments. https://africanarguments.org/2021/11/creatures-of-the-deposed-connecting-sudans-rural-and-urban-struggles/
- BBC. العيشه_بجنيه: احتجاجات في السودان بعد “#ارتفاع_الاسعار_المتصاعد 2018 https://www.bbc.com/arabic/42583824
- International Monetary Fund. 2021. Sudan to Receive Debt Relief Under the HIPC Initiative
- https://www.imf.org/en/News/Articles/2021/06/29/pr21199-sudan-to-receive-debt-relief-under-the-hipc-initiative
21- The World Bank. 2021. “Reforms, Arrears Clearance Pave the Way for Sudan’s Full Reengagement with the World Bank Group”. https://www.worldbank.org/en/news/feature/2021/03/29/reforms-arrears-clearance-pave-the-way-for-sudan-s-full-reengagement-with-the-world-bank-group
22- FAO. (2021). Special Report – 2020 FAO Crop and Food Supply Assessment Mission (CFSAM) to the Republic of the Sudan. Rome. https://doi.org/10.4060/cb4159en
23- بيم ريبورتس. 2022. “(ترس الشمال) كيف تشكلت حركة المقاومة وما مطالب المحتجين؟”. https://www.beamreports.com/2022/02/12/ترس-الشمال-كيف-تشكلت-حركة-المقاومة
24- The World Bank. 2019. “From Subsidy to Sustainability: Diagnostic Review of Sudan’s Electricity Sector. http://documents1.worldbank.org/curated/en/486961588608080192/pdf/From-Subsidy-to-Sustainability-Diagnostic-Review-of-Sudan-Electricity-Sector.pdf. [Last accessed August 5th, 2020].
FAO. (2021). Special Report – 2020 FAO Crop and Food Supply Assessment Mission (CFSAM) to the Republic of the Sudan. 25- Rome. https://doi.org/10.4060/cb4159en
26- مقابلة. 2023. عمر. أبوبكر. خبير زراعة وأنظمة غذائية. بوكالة التحول الزراعي . السودان
The Challenge Fund for Youth Employment. 2021. Sudan Country Scoping. https://fundforyouthemployment.nl/wp-content/uploads/2021/03/Scoping-Report-Sudan-2021-Challenge-Fund-for-Youth-Employment.pdf
27- الأموي. عبد العظيم. 2023. اندبندنت عربية.”بجعة الموت” تهبط في الخرطوم وخطر المجاعة يتزايد
ln.run/kskGa
28- مقابلة. 2023. عمر. أبوبكر. خبير زراعة وأنظمة غذائية. بوكالة التحول الزراعي . السودان
29- Thomas. Edward. and El gizouli magdi. 2021. Creatures of the Deposed: Connecting Sudan’s Rural and Urban Struggles. African Arguments.
ln.run/q36sk
30- النيل. مزن.2023. مسار ثوري ينتهجه السودانيون ضد الحرب. https://revsoc.me/arab-and-international/45415/
Omer. Abubakr. 2023. War in Sudan: An Urban Defense of Nomads. https://mailchi.mp/2cf59f7c226e/war-in-sudan-an-urban-31-defense-of-nomads