منذ الفترة الاستعمارية، فرضت فرنسا على المغرب زراعات بعينها تضمن تكاملها مع ما تنتجه هي على أراضيها. وذلك بهدف الحفاظ على مصالح منتِجيها المحلّيين، وتزويدها من مستعمرتها بالمنتوجات الفلاحية التي تسجّل فيها عجزا. هكذا ولفترة طويلة، كانت حاجيات فرنسا من الحبوب كبيرة. وعشية الحرب العالمية الثانية، كانت المواد الأولية النسيجية والزيتية تحتلّ الصدارة بصادرات المغرب المستعمَر. وببداية الخمسينيات، بدأت التركيز على الحوامض والخضروات.
ارتكزت أولويات الدولة المغربية إبّان الاستقلال على تزويد السوق الأوروبيّة بنفس المنتجات الزراعيّة الأولية التي كان الاستعمار الفرنسي ينتجها. وارتبطت تنمية الزراعة وما استدعته من استثمارات عمومية هائلة، بالمؤسسات المالية الدولية على مستوى التمويل في شكل قروض، وببلدان الشمال الكبرى على المستوى التكنولوجي في شكل استيراد المدخلات والمعدات.
انفجرت أوائل السبعينات أزمة الديون بالمغرب، على غرار عديد بلدان الجنوب ذات السياسات التبعيّة، ممّا اضطرّها للخضوع لإملاءات المؤسسات الماليّة الكُبْرى وتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي؛ وما يعنيه ذلك ـ في القطاع الفلاحي ـ من تقليصٍ لحجم الاستثمارات العموميّة والإعانات الحكومية وخصخصة عديد الأنشطة المرتبطة بالإنتاج والتسويق وعديد الشركات الفلاحية العمومية، وتحرير أسعار المواد الغذائية الأساسيّة، ممّا أدّى إلى تفاقم حالة المُزارعين الصغار والمتوسطين الهشة. اشتدّت عملية إفقار صغار الفلاحين إثر تبني سياسات الانفتاح الاقتصادي المُعمَّمِ وتنفيذ اتفاقيات التبادل الحر مع القوى العالمية الكبرى، وفقا لتوجيهات منظمة التجارة العالمية التي تأسست بمراكش في يناير 1995
.
سنة 2008، اعتمد المغرب “مخطّط المغرب الأخضر” والمتمثل في تحسين ظروف الاستثمار الذي تطالب به الشركات متعددة الجنسيات، ومرافقة المنتجين المحليين الكبار للتغلب على الصعوبات الرئيسة التي يواجهونها بسياق العولمة، والأزمة العالمية، واشتداد المنافسة بالسوق الدولية. كما يستند المخطط على الزراعة الكثيفة ذات القيمة المضافة العالية المخصصة للتصدير، وكذلك على دعم تشكيل مجموعات فلاحية إنتاجية وتصديرية كبرى يرتبط بها صغار الفلاحين وتفرض شروطها عليهم. أمّا الزراعات المعيشيّة فلم ينلها منه سوى الفتات باعتبارها غير مربحة ويمكن الاستغناء عنها واستيراد منتجاتها كالحبوب والسكر الخ.
دمّر النهج التصديري المُعتمد من الدولة المغربيّة أصنافًا زراعية محليّة عديدة. اذ ركّزت هذه الأخيرة على الغراسات القابلة للتصدير، أي المطلوبة من دول الغرب الرأسمالية، فيما يُعرف بهجوم الزراعة التسويقية ذات الإنتاجية العالية والمرتكزة على البذور الهجينة المعتمدة في إنتاج الحبوب والقطاني والخضروات.
يتغلغل النموذج الزراعي المالي، الصناعي، التجاري والتصديري برعاية من مصالح الدولة ووزارة الفلاحة من خلال فرض أنماط إنتاج واستهلاك وفق نموذج البلدان الرأسمالية الكبرى، وتعميم البذور الهجينة والأغراس المعتمدة (وسلالات الماشية) والمشاتل الكبيرة، وتدمير آخر ما تبقى من الموروث الجيني الذي راكمه الفلاحون الصغار، والذي استحوذت عليه الشركات متعددة الجنسيات واحتكرته باسم الملكية الفكرية وبراءة الاختراع التي عملت الدولة المغربية على وضع ترسانة من القوانين لحمايتها. وسنت أيضا قوانين تتعلق بالعلامات المميزة للمنشأ والجودة ازاء المواد الغذائية والمنتجات الفلاحية والبحرية لتسهيل الاستحواذ على الثروات المحلية لصغار الفلاحين والبحارة، كشجر الأركان والتمور والزعفران. وتقوم هذه الأنواع من البذور والأشجار الدخيلة على تقنيات زراعية مدمرة للأرض ومستنزفة للماء، وعلى استعمال كثيف للأسمدة الكيماوية والمبيدات السامة (والشيء نفسه بالنسبة لسلالات الماشية والدجاج، التي تستهلك كميات هائلة من العلف والمضادات والهرمونات الحيوية)، كما تقوم على استهلاك كبير جدا للطاقة الأحفورية (النفط والغازوال والبوتان) المساهمة بدورها بظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ، وما ينتج عنهما من كوارث جفاف وفيضانات. هذا علاوة على المخلفات الملوثة لمحطات التلفيف، ومحطات التخزين والتبريد، ومعامل الصناعات الغذائية، ونفايات جميع أنواع البلاستيك والبراميل والعبوات. فمنطق الربح يتعارض مع ضرورات الحفاظ على الطاقة والبيئة.
وقد وضعت الدولة نظاما متكاملا من الإعانات المالية للقطاع الفلاحي على مستوى الإنتاج والتسويق، خصوصا لتشجيع الزراعات التصديرية بالمناطق السقوية التي لا تشكل سوى 17 % من المساحة الزراعية الإجمالية، في حين همشت المساحات المرتبطة بالأمطار، التي يتركز بها إنتاج المواد الغذائية الرئيسة كالحبوب والقطاني (حوالي 60%). ويعد نظام الإعانات بالواقع مجالا لنهب المال العمومي من قبل كبار الرأسماليين والشركات التجارية الفلاحية.
إنّ معظم المساحات الزراعية المخصصة للحبوب تقع بأراض بور لا تستفيد من مياه السدود أو المياه الجوفية، وتقع في الغالب خارج المدارات المسقيّة التي يتركز حولها تدخل الدولة (المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي). وتشهد زراعة الحبوب تحولات كبيرة، اذ تتجه المساحات الإجمالية نحو التقلص. كما نشهد تراجع المساحة المخصصة للشعير، مقابل توسع تلك المخصصة للقمح الطريّ. واستنتج فريق البحث الميداني في المغرب، وجود ميل لدى الفلاحين الصغار بالمدارات المسقية لاستبدال زراعة الحبوب بزراعة الكلأ (الفصّة والذرة) المستخدم كعلف للأبقار التي تربّى لإنتاج الحليب بهدف بيعه.
بالنسبة لإنتاج الحوامض، نجد أن كبار الرأسماليين يستحوذون على الضيعات الكبيرة. هذا ما تمّت ملاحظته من خلال البحث الميداني بكل من منطقة الكردان بأولاد التايمة وتارودانت، حيث يعيش الفلاحون الصغار الذين كانوا ينتجون الحوامض خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات وضعية اندثار. وينطبق الأمر نفسه على الفلاحين الذين ينتجون الخضروات والموز تحت البيوت المغطاة. هكذا إذًا يجد الفلاحون الصغار أنفسهم محاصرين بزحف نمط الإنتاج الرأسمالي الكبير بالزراعة، الذي يدمرهم كمنتجين ويهمّشهم كسكان قرويين ويدوس كرامتهم كمواطنين
استغلال بشع للعمّال
يقوم هذا النهج التصديري كذلك على استغلال واضطهاد العمال وبشكل أخص العاملات والتي تشكل أغلبية اليد العاملة في قطاع الخضروات. اذ تقوم شركات الفلاحة التصديرية الأجنبية والمغربية على طريقتين في التعامل مع العمال والعاملات:
• قسم منها يُشَغِّلُ مباشرة ويطبق حدا أدنى من مقتضيات مدوّنة الشغل (الحد الأدنى للأجور، التصريح بالعمال لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، التأمين على حوادث الشغل، يوم عطلة أسبوعية، الإجازة السنوية).
• قسم آخر يلجأ أكثر فأكثر إلى شركات الوساطة في التشغيل، التي تنص عليها مدونة الشغل، فتشغل أجراء بهدف وضعهم، مؤقتا، رهن إشارة أرباب العمل. وتستقدم هذه الشركات عاملات وعمالا مياومين تأتي بهم من مناطقَ فقيرةٍ نائية، وتهضم حقوقهم التي يضمنها القانون، وتتخلص منهم بسهولة كلما لم تَعَد بحاجة إليهم. تكاثرت هذه الشركات بالمنطقة، وأضْحت ذراعا للرأسماليين في الزراعة لضرب مكاسب العاملات والعمال من ذوي الأقدمية، وتكسير الإضرابات النقابية.
نذكر هنا بعض مظاهر الحيف والاستغلال المُسلّط على العمال :
لا يسمح الحد الأدنى للأجر الفلاحي بتلبية الحاجيات الأساسية للعاملات والعمال نظرا للتغيرات التي عرفها أسلوب العيش بالقرى الشبيه بالمدن، وارتفاع أسعار مواد الغذاء والاستهلاك اليومي والخدمات، والتنظيم الصناعي لضيعات الإنتاج الفلاحية، التي لم تعد تسمح باستفادة من يشتغل بها بجزء قليل من الإنتاج لاستهلاكه الخاص. هناك شركات فلاحية تمنح قروضا بدون فائدة للعاملات والعمال، أو تضمنها لدى البنوك، لكن هذا النوع من الشركات قليل جدا. لهذا يلجأ العديد من الفلاحين أكثر فأكثر إلى القروض الصغرى
تشتغل العاملات والعمال في الضيعات الفلاحية حوالي 8 ساعات باليوم (الساعات القانونية) تحت أغطية البيوت البلاستيكية في حرارة مفرطة ورطوبة عالية، مما يسبب العديد من الأمراض. وما يزيد الأمر خطورة، استعمال المبيدات الكيماوية أثناء عملهم داخلها، وبغياب وسائل الوقاية لفائدة للعمّال الذين يرشّونها. كما لا يصرّح مسؤولو الضيعات للعاملات والعمال بالمعلومات المرجعية للمواد السامة المستعملة (النوع، المادة النشطة، الحد الأدنى من الوقت الكافي لعدم دخول البيوت المغطاة بعد رشها)، ولا يعلّقون في أماكنها المعتمدة لوائحَ إرشادات الصحة والسلامة المتعلقة باستعمال المبيدات
يُجبر العاملات والعمال، حفاظا على صحة الشتائل والنبتات، على غسل الأيدي بمواد كيماوية تسبب اضرارَ جسمانية
يتم التحايل على المراقبة الطبية بزيارات أسبوعية للطبيب، شكلية، لا يأخذها العمال العاملات على محمل جِدّ، لكون الطبيب يتلقى أجره وينصرف غير عابئ بشروط السلامة الصحية
تكثر حوادث الشغل بالضيعات الفلاحية ومحطات التلفيف، التي لا تتوفر غالبيتها على التأمين. يتكفل أرباب العمل بمصاريف العلاجات في بعض الحالات البسيطة، لكنهم يتهربون في حال العجز المؤقت أو الدائم، ويتركون العاملة أو العامل يواجه مصيره، وفي حالة حوادث الشغل المميتة يجري ربطها بالقضاء والقدر
زيادة على ما سبَق، أقرّ جميع المستجوَبين والمستجوَبات بوجود التحرّش الجنسي وبكونه ظاهرة متفشية وشائعة. وتتعرض النساء لهذه التحرشات بأماكن العمل، خصوصا من قبل المسؤولين بالضيعات ومحطات التلفيف، الذين يبتزون العاملات ويهددوهنّ بالحرمان من العمل في حال الرفض
لا تتوفّر أغلب الشركات الفلاحية الكبرى على حضانات، ولا تستفيد النساء من الوقت القانوني لإرضاع أطفالهن. ولا يأخذ المسؤولون عن الضيعات بعين الاعتبار وضعية العاملات الحوامل في الأعمال الشاقة التي وجب تجنبها، والحذر من خطر المبيدات السامة خوفا من الإجهاض. وفي الحالات النادرة التي تتم فيها المراعاة، فذلك يعود الى وزن النقابة. أما عاملات “الموقف” المياومات المتزوجات، فيلجأن لإخفاء الحمل لأنّ أرباب العمل يرفضون تشغيلهن في حالة حملهن.
ويجدر بنا الذكر أنّ جهاز مفتشية الشغل لا يملك أي سلطة قانونية لزجر المخالفات، ويقتصر دوره على الوساطة وتقديم المشورة لأرباب العمل، للتحايل على القانون وتبرير خروقاتهم، مقابل التجاهل المستمر لشكاوَى العاملات والعمال
[1] المعهد الوطني للزراعات الكبرى، إحصائيات 2016.
المقال أعلاه مأخود من الدراسة التالية: اضغط هنا.