لم يكن اقتحام المرأة المغربية العمل في المهن البحرية أمرا واردا عند غالبية المغاربة، قبل أن يصير واقعا بالفعل. فإلى وقت قريب ما كانت النساء في المغرب يتصورن أنفسهن عاملات بحر، وذلك بسبب التمثلات الخاطئة حول عمل المرأة نفسه، وبخاصة عملها في المهن البحرية، ولذلك ربما تأخرت تجربة عمل النساء كصيادات بالقوارب الصغيرة حتى وقت قريب جدا.
بعد بحث عن تجربة النساء الصيادات بالقوارب الصغيرة بشمال المغرب، سجلنا غياب النساء الصيادات بمنطقة الشمال، باستثناء نساء قليلات بمنطقة “مولاي بوسلهام” يقمن بنشاط موسمي يقتصر على “المحار” دون خوض تجربة الصيد بالقوارب. ولم نرصد على طول الشريط الساحلي الشمالي، الممتد من طنجة إلى السعيدية، أي تجربة في هذا المضمار، ما عدا منطقة “بليونش” قرب جبل موسى الواقع بين الشريط الساحلي لطنجة وتطوان.
و تقع قرية بليونش عند سفح جبل موسى، وهي معزولة عن العالم باستثناء أحد جوانبها المواجه للبحر والمطل على مدينة سبتة المحتلة، على بُعد سبعة كيلومترات شرقًا، بعمالة المضيق الفنيدق، جهة طنجة تطوان الحسيمة شمال المملكة المغربية. و تطل بليونش شمالاً وشرقاً على البحر الأبيض المتوسط، وتحدها مدينة الفنيدق جنوباً، كما تُحد شرقاً بإقليم الفحص أنجرة. و تحيط ببليونش سلسلة مرتفعات أعلاها جبل موسى، وتتوفر على مؤهلات طبيعية وسياحية هائلة، بيد أن واقع التنمية بالجماعة لا يستثمر تلك المقدرات الطبيعية، و كانت ترتبط اقتصاديا بسبتة حيث يعمل أبناء القرية، إلا أن إغلاق حدود سبتة أوائل سنوات 2000 أدى إلى تدمير اقتصاد القرية.
لم تر تجربة النساء الصيادات بمنطقة بليونش النور إلا قبل ثلاث سنوات. كانت قد أملتها ظروف اقتصادية صعبة، مثلما ذكرت إحدى السيدات المشتغلات بقوارب الصيد، إذ قالت إنها التحقت بهذا العمل بعد أن فقدت عملها بسبتة غداة إغلاق المعبر الحدودي. وغيرها من قبيل هذه الأسباب، دفعت مجموعة النساء إلى تأسيس جمعية تعاونية، والتنسيق مع المسؤولين في قطاع الصيد بالإقليم، قبل أن يتفاعل هؤلاء مع مطالبهن، ووفروا لهن تدريبا ميدانيا استمر لسنتين، و كان يهدف إلى إعداد النساء لخوض الإبحار بقوارب الصيد، مع العلم أن هذا التدريب غير مؤدى عنه، و لذلك فمن أصل 17 صيادة، لم تكسب المال سوى أربعة نساء.. بالرغم من كون التدريب كان يتمركز حول إصلاح الشبكات وتنظيف القوارب، ولكن ذلك كان يتم من دون أجر. إذ كان وصول النساء إلى الوظائف مدفوعة الأجر في قطاع الصيد المستقل محدوداً، ويتم تبرير ذلك بنقص التدريب وعدم جاهزية النساء للعمل في الصيد.
ولهذه الأسباب، فتأسيس الجمعية التعاونية للنساء الصيادات بقرية بليونش لم يأخذ الاعتراف الرسمي بالجمعية التعاونية إلا سنة 2019 تحديدا، بالرغم من أن الفكرة كانت مقترحة قبل ذلك بكثير، بيد أنه في هدا الصدد فإن فكرة انتظام النساء في جمعية تعاونية للصيد بالقوارب، لم تكن باقتراح من طرف إحدى نساء الجمعية التعاونية، بل كانت من اقتراح أحد أقارب رئيسة التعاونية والذي مكن النساء من قارب صيد في ملكيته الخاصة.
وفي هذا الصدد تقول صفاء وهي أمينة مال الجمعية التعاونية في التصريح الذي خصتنا به: “إن فكرة إنشاء جمعية تعاونية للنساء الصيادات بالقوارب، كان من اقتراح أحد أفراد أقارب رئيسة الجمعية التعاونية، وهو من شجعهن من خلال تقديمه لهن قارب للصيد يعود لملكيته الخاصة، لتنطلق التعاونية تحت مسمى “تعاونية أمواج بليونش للنساء الصيادات” سنة 2019.
ومع بداية التجربة فعليا فقد كانت الجمعية التعاونية تضم 22 من نساء المنطقة دفعتهن الظروف القاهرة لخوض هذه التجربة، و استطعن بعد التدريب أن يخضن غمار البحر، والاعتماد على سواعدهن، من خلال تقسيم العمل بينهن، حيث ينظفن الشباك ويعددنها قبل الخروج للصيد و ينظفن القارب، ويوظبن أغراض القارب من محرك و مرساة وشباك صيد و مكان التخزين، ثم يدفعن القارب نحو البحر بسواعدهن لتنطلق رحلتهن للصيد، فيحددن مكان وضع الشباك، قبل العودة لها لاحقا لجمع قوتهن من البحر، ثم لتبدأ بعدها متاعب التسويق، والتي يتكلف بها ذات الصيادات.
وعموما، تتكون حصة الصيد التي يتحصل عليها النسوة بالبحر الأبيض المتوسط من كميات قليلة من سمك “الأنشوبة” و”الشرغو” و”الأخطبوط” و”السبيدج” وغيرها من الأصناف البحرية، بيد أن كمية الصيد غالبا ما تكون ضئيلة، ولا تتجاوز في العموم بضع كيلوغرامات لا أكثر.
أما عن مكاسب عمل نساء الجمعية التعاونية فإن العائدات من رحلات الصيد الشاقة لا تكون في الغالب بكميات كبيرة، و هذا الأمر يرتبط بعدة عوامل تفسره أمينة الجمعية، حيث أن قارب الصيد الخاص بالتعاونية من الحجم الصغير، و لا يتوفر على تجهيزات عصرية و أدوات تيسر عملهن، بل بالكاد يتوفرن على شباك صيد، و هي شباك صغيرة، كما أن نشاط النساء الصيادات ليس منتظما إذ ثمة أيام قليلة يمكن لهن الخروج فيها لرحلة الصيد، نظرا لكون القارب لا يكون متاحا دائما، زد على ذلك أن أيام الصيد تعتمد على صفاء البحر و توفر الظروف المناخية المناسبة للصيد، بالإضافة إلى أن عدد النساء المنتظمات في الجمعية يجعل مكاسب الصيد بالكاد تسد رمق النساء الصيادات و أسرهن.
على الرغم من الحديث عن المكسب من خوض النساء بالصيد في البحر، لا يمكن إغفال معطى أساسي، و هو استنزاف الموارد البحرية التي تضاءلت كثيرا بسبب جشع مُلاك البواخر و قوارب الصيد ذات الحجم الكبير، حيث أن أرباب مراكب الصيد البحري لا يراعون مسألة استنزاف الموارد السمكية وذلك استحضارا لجشعهم الشخصي بغية مراكمة الأرباح، كما أنهم يساهمون في التلوث البيئي الذي يضر كثيرا بالثروة السمكية و البحرية عموما من خلال مخلفات المراكب والسفن الكبيرة، حيث أكد أحد الصيادين ويدعى “عبد السلام” أن البحر أصبح أكثر تلوثا عما كان عليه سابقا، بسبب مخلفات بواخر الصيد، وعدم مراعاتها للمخاطر البيئية، بالإضافة إلى تعامل زوار البحر باستهتار مع البيئة البحرية وتلويثها بالمخلفات خصوصا البلاستيكية و التي تكون أكثر ضررا على البحر و كائناته البحرية. ولهذه الأسباب وغيرها أصبحت الموارد والمكاسب من الثروة السمكية متضائلة وهو ما يفسر قلة العائدات المادية على تعاونية النساء الصيادات.
ومنذ انطلاق تجربة النساء الصيادات بمنطقة بليونش، عملت النساء مع بعضهن في إطار جمعية تعاونية في استقلال عن التبعية لأحد مُلاكي القوارب، أو أرباب مراكب الصيد بالأعالي، بالرغم من أن بعض النسوة التحقن بالعمل عند بعض ملاكي تلك القوارب وغالبا ما كان يتم إسناد مهمات التنظيف لهن دون خوض البحر، ولذلك فبعد أن كان عدد النسوة عند تأسيس التعاونية 22 امرأة، أصبح عددهن في الوقت الراهن 15 امرأة فقط.
وقد اضطرت هؤلاء النسوة إلى العمل خارج إطار الجمعية، بالنظر لصعوبات عملها، حيث تبدأ رحلة الصيد مع مطلع شروق الشمس وربما قد لا تنتهي إلا مع غروبها، وهو ما يجعل ساعات العمل طويلة، هذا بالإضافة إلى صعوبات الصيد التي تقتضي مهارات خاصة وتجربة طويلة في البحر، وكذا المخاطر المتعلقة بتقلبات البحر والجو، وغياب أغلب معدات السلامة والأمن، مع إمكانية العودة خاليي الوفاض من رحلة الصيد، أو مشاكل التسويق حتى في حالة العودة بكمية لا بأس بها من السمك.
ومع غياب التأطير النقابي وعزوفهن على الانخراط في العمل النقابي، يتفاقم سوء وضعهن العملي والمادي، حيث تجدن أنفسهن خارج أي معبر عن مطالبهن والدفاع عنها لتحسين وضعهن في قطاع الصيد، هذا مع غياب دعم الجهات الوصية على القطاع لتجربة النساء الصيادات إذا استثنينا سنتي التدريب التي تم تخصيصها لهن، فمنذ انطلاق التجربة لم تحظ الجمعية التعاونية بدعم خاص يشجع النساء على الاستمرار في التجربة أو تطويرها أو حتى تحسين وضع تلك النساء، بل تركن ليواجهن مصيرهن مع البحر لوحدهن.
وخلال زيارة لقرية الصيادين ببليونش، كان لابد لنا من أن نضطلع على ارتباط الصيادين عموما رجالا ونساء بالعمل النقابي، فقابلنا “عبد السلام” وهو رئيس أحد قوارب الصيد ويشتغل بهذه المهنة منذ أكثر من 30 سنة، حيث صرح لنا “أن الصيادين عموما لا يرتبطون بأي شكل من الأشكال بأي عمل نقابي، وهو ما يفوت عليهم تحصين مكتسباتهم والدفاع عن مصالحهم. وهو ذات الأمر الذي أكدته أمينة مال تعاونية النساء الصيادات، حيث قالت إنهن لم يحضرن أي نشاط نقابي، وأنهن يجتمعن لتدارس مصالحهن في إطار المجموعات العامة للتعاونية فقط.
وفي الوقت الذي كان من المفترض أن تدعم الجهات المعنية هذه التجربة، باعتبارها تجربة تكرس مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص وتحيد سمة التمييز على أساس جنسي، وباعتبار مبادرة التعاونية تتيح فرصا لتحسين الوضع الاقتصادي لمجموعة من الأسر فإنها مع ذلك لا تتلقى أي دعم من طرف الجهات المسؤولة، لا من حيث الدعم عبر توفير إمكانيات ومعدات الصيد ومستلزمات السلامة أو تيسير عملية بيع الكميات المصطادة، كما أن التعاونية لا تتلقى أي دعم مالي مباشر.
وعموما لا تزال نسوة تعاونية “أمواج بليونش للنساء الصيادات” صامدات و مصرات على التشبث بتجربتهن، ومازلن يبدين العزم على مواصلة تجربتهن في ظل الإكراهات التي تحيط بالتعاونية و التي لا حصر لها، ذلك أنه لا بديل اقتصادي يتوفر لهن، بالإضافة إلى تمسكهن بحقهن في الاستقلال بنشاط اقتصادي يكفل لهن العيش الكريم، و هذا ما يجعل نساء التعاونية ينظرن لتجربتهن بافتخار و اعتزاز، حيث قالت أمينة مال الجمعية التعاونية:” إن نساء التعاونية لازلن ينتظمن بنشاط وهمة في عملهن و يجتمعن دوريا لتحسين وضعية عملهن و تطوير أنفسهن في نشاط الصيد البحري”.
وقد قمنا بسؤال أخو إحدى نساء التعاونية حول منظوره الخاص ومنظور رجال جماعة بليونش لتجربة نساء الجماعة الصيادات بالقوارب، حيث عبر عن كون رجال الجماعة لا يرون في انتظام النساء في تعاونية للصيد أي مشكلة، وأنهم يتعايشون مع التجربة، بل ويشجعنهن عليها، باعتبار أن النساء كذلك يستطعن أن يخضن صعاب البحار لتوفير قوتهن وقوت أسرهن، وحتى رأي البحارة الرجال يعكس احترامهم لهذه التجربة وعبر مجموعة من البحارة أنهم يحترمون عمل النساء في مجال الصيد بالقوارب، وقالوا إن لديهن الحق للحصول على رزقهن من البحر.
إن تجربة نساء “تعاونية أمواج بليونش للنساء الصيادات” تجربة اجتماعية فريدة، لها أبعاد اقتصادية وثقافية مهمة، حيث تعتبر بمثابة فرصة اقتصادية توفر للنساء الحق في العمل و العيش الكريم، و تعكس ثقافة استقلال النساء عن التبعية الاقتصادية للرجل أو للملاكين الكبار، وتهدم التمثلاث الاجتماعية الخاطئة عن المرأة، وتكرس قيم المساواة والعدالة وتكافئ الفرص، و بالرغم من أن تجربة تعاونية النساء الصيادات تصطدم اليوم بظروف صعبة تعرقل تطورها و تعطل تحسين الوضع الاقتصادي لنساء الجمعية، فإن نساءها لازلن محملات بكثير من الإصرار على مواصلة التجربة.
عزيز رفاعي/ المغرب