تشكل العاملات الزراعيات والفلاحات جزءًا هامًا من معادلة الزراعة في الريف المصري، فهن يشاركن في معظم الأعمال الفلاحية وعمليات إنتاج الغذاء داخل وخارج المنزل، تحفظ الذاكرة الجمعية للفلاحات، تاريخ الممارسة الزراعية الشفاهي في الريف المصري.
لا تحمل الفلاحات على عاتقهن مهمة إدارة وتدبير احتياجات الأسرة وفقط، بل يمتد دورهن بعمق داخل العملية الزراعية، وهو دور لا يقل أهمية عن دور الرجال، فالمرأة جزء من هذه العملية قبل وبعد الزراعة، هي التي تحدد ماذا تزرع كي تأكل أسرتها، وتحدد أنواع البذور المزروعة لأنها تعرف جيدًا حالة البذور وجودتها.
فهي التي قامت بتخزينها، كما تحفظ عن ظهر قلب طرق تخزين السلع والأطعمة التي قامت بتصنيعها، لكي تستخدمها الأسرة في الموسم التالي. ويظهر هذا في طريقة تصنيع وتجفيف وحفظ “الكشك” المصنوع من القمح المضاف إليه اللبن، وهذه “أكلة” خاصة بالصعيد بداية من محافظة الفيوم وحتى أسوان، ويتم طبخها بعدة أشكال. كذلك حرصها على صناعة الخبز المنزلي لأنها لا تستحسن “عيش الطابونة” وصناعة الجبن الفلاحي والزبد وتربية الطيور، والتداوي بالأعشاب، “الحلبة والنعناع و الكراوية، والشيح المغلي”، تقوم بكل ذلك كثقافة نسوية انتقلت من جيل إلى جيل مشكلة عصب الحياة في الريف المصري.
نفس المرأة تحمل على عاتقها عبئ الزراعة في أرض أهلها، أو زوجها فيما بعد، ما يعتبر جزءًا مضافًا إلى عملها المنزلي غير المأجور. وبعد ذلك تذهب إلى السوق لبيع سواء منتجات زراعية بشكلها الأولي، أو منتجات “الألبان والبيض البلدي والكشك والملوخية الناشفة” وغير ذلك من منتجات تصنعها منزليًا.
وكما تعمل المرأة في الريف بدون أجر سواء في الأعمال المنزلية وتصنيعها للمنتجات المشار إليها، أو العمل في أراضٍ يملكها الأهل، فهي الأقل أجرًا في حالة العمالة الزراعية في أراضي الغير وهي التي تبذل مجهودًا أكبر لأنها تعرف جيدًا أنها لا تستطيع أن ترفض ما يطلب منها و إلا لن تأخذ أجرها بشكل كامل أو ستتعرض لمضايقات من المشرف الزراعي.
جائحة كرونا كشفت حقيقة أوضاع الفلاحين في مصر، وفي القلب منها أوضاع النساء، ففي ظل سياسات الدولة التي تقدم كامل الدعم للاستثمار الزراعي لصالح رجال الأعمال وتنفيذ اتفاقيات التصدير الزراعي لأوروبا وانسحاق الفلاحين في مجاراة السباق الغير متكافئ مع الاستثمار الزراعي، هذه الأزمة جعلت الفلاح عار تمامًا من أي حماية اجتماعية من قبل الدولة، حتى إعانة الـ 500 جنيه لم تشمل الفلاحين أصحاب الملكيات الصغيرة والقزمية الذين يعانون أيضًا من سوء الأحوال الاقتصادية
وفي ظل جائحة كورونا أصبحت أحوال الفلاحين الاقتصادية أسوأ، وهذا وفقًا لشهادات حية من عدد من الفلاحات، تقول “أم فارس” 36 سنة والتي تعمل في مدرسة ابتدائية:
“بضطر أروح الأرض مع أبو فارس واشتغل معاه أناوله حاجة احش معاه عشان نوفر أجرة العامل ماهو هياخد في الشهر يجي 1000 جنيه احنا أولى بيها والعيال أولى بيها”.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فأغلب بيوت الريف المصري تعتمد في غذائها على تربية الطيور فوق أسطح المنازل، فكما يقول بعضهن عن تربية الطيور :
“اهم موجودين عشان ياكلوا حسنة البيت وينفعونا في وقت زنقة” تستكمل أم فارس قائلة: “ده أنا حتى مابقاش عندي طيور فوق السطح، بعد ما ولدت بنتي نزلت عليهم ودبحتهم ومابقاش عندي غير البطاية دي عشان نفطر بيها أول يوم رمضان ومش معايا فلوس اشتري كتاكيت واربي من جديد”
هكذا أضعفت أزمة كورونا قدرة الفلاحات على شراء صغار الطيور لتربيتها.
أصبح الوضع في الريف كارثي، أصيبت الناس بالرعب من أي احتكاك مع أحد خوفًا من العدوى ومواجهة مرض مجهول لا يعرفون كيفة التداوي منه، وهو ما أثر على تصريف الفلاحات لمنتجاتهن فكما تقول أم محمد 45 سنة وأم لخمسة من الأولاد والبنات:
“احنا هنا في البلد بنقول احنا غلابة وربنا ساترها معانا اللي جاي من بره مش بيدخل بلدنا بيروح على الحجر الصحي بس برضو معايش الناس متأثرة اللي عندها حتتين جبن ولا بيضتين مش عارفة تصرفهم”
لم يقتصر الوضع على ذلك، فقد تسببت أزمة كورونا في ترك نسبة كبيرة من الرجال لعملهم الذي كان إما في العاصمة أو محافظات التي بها نشاط سياحي، (حيث لم تعد الزراعة وحدها تكفي لسد متطلبات الحياة) والعودة إلى قراهم.
هؤلاء الرجال والشباب لم يعد لديهم مصدر دخل وبالتالي زاد العبء على المرأة فهي التي ستتحمل مشقة الخروج للعمل والمخاطرة بحياتها في ظل هذا الوباء، لم يعد لديها اختيارات إما الموت جوعًا هي وأطفالها أو احتمالية التعرض لخطر العدوى، تضيف أم محمد:
“دلوقتي في بلدنا جني البطاطس وأغلبية الشغل ده بتعمله البنات والستات عشان كده هما بيطلعوا الصبح بدري قوي يشتغلوا في الغيطان وكله بيرجع على الساعة عشرة الصبح ماحدش بيتأخر عن كدة وطبعًا مايقدروش يشتروا كمامات فبيتلفحوا بالطرح اللي لابسينها”.
ووفقًا لكلام “أم محمد” أصبح العبء على النساء في الريف إضافيًا فليست فقط مسألة العمل الزراعي فهذا أمر اعتدن عليه منذ كن أطفالًا، لكن المشكلة هنا في توقف دخل الزوج أو الأب أو الأخ الذي كان يمثل راتبه الدخل الأساسي للأسر فالعمل في الزراعة لم يعد يكفي لسد متطلبات الحياة.
“يوم السوق” في الريف المصري هو اليوم الأكثر مبيعًا للمحاصيل الزراعية، حيث يستعد الفلاحين لهذا اليوم بتجميع كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية فهو يوم في الأسبوع يتجمع فيه باعة الخضروات والفاكهة وباعة الغلال، وغير ذلك، فكل ما يلزم البيوت يكون متوفرًا في السوق، وهو يوم تنتظره النساء لشراء احتياجات الأسبوع من خضروات وفاكهة وأواني منزلية وملابس بسعر مناسب لإمكانيات الفلاحين الاقتصادية، كذلك تنتظر الفلاحات السوق الأسبوعى لبيع بعض الطيور المنزلية أو الخضروات أو الجبن ومنتجات الألبان للمساعدة فى مصروفات المنزل.
الآن أصبحت الشوارع التي تنصب فيها الأسواق خالية من الباعة لا يستطيعون الوقوف في السوق خوفًا من عربات الشرطة “الدورية” للتأكد من عدم مزاولة أي نشاط فيه تجمع للناس، هذا زاد وضع الباعة سوءًا فالرجال تمكنوا من إيجاد حلولًا لهذه المشكلة.
حيث وضعوا بضاعتهم على عربات تجر باليد يتجولون بها في شوارع الريف وتقف أمام المنازل حيث تتمكن “ست البيت” من شراء احتياجاتها من العربة وبذلك يضمنون البعد عن التزاحم في الأسواق حتى لو اشتروا بسعر أعلى قليلًا من سعر السوق، أما العاملات الريفيات فهن محاصرات يعملن بالأجر في أراضي الغير ينتظرن يوم السوق ليتمكن من بيع منتجات يصنعنها منزليًا أو تقوم نساء أخريات بصنعها منزليًا.
السوق الأسبوعي كان يدر دخلًا ليس على الفلاحة التي تجلس بالسوق فقط، فهنا توجد صناعة قائمة على النساء وتديرها النساء، المرأة التي تملك “بهيمة” أو “بهيمتين” تصنع من لبنها الجبن الفلاحي والزبد، وكذلك المرأة التي تربي الطيور المنزلية كل هذا كان يعد للبيع بالسوق الأسبوعي بجانب توفير مؤونة البيت، ويحدث اتفاق بين النساء الصانعات لهذه المنتجات والفلاحات اللاتي يبعن في السوق، على بيع هذه المنتجات في يوم السوق الأسبوعي.
مع غلق الأسواق الأسبوعية لم تعد النساء قادرات على بيع المنتجات المعدة منزليًا، فماذا يفعلن هؤلاء الفلاحات في ظل هذه الظروف؟ ترد أم محمود قائلة: “
مابيعملوش حاجة ماحدش فيهم بيقدر يفرش، لكن اللي بتعوز حاجة بتروحلها البيت تاخد منها اللي بتعوزه”.
هنا تتجلى الصورة واضحة حيث أثر تراجع الطلب على دخل هؤلاء البائعات تقول أم شريفة، 50 سنة، وأم لـ 3 أولاد :
“أنا عن نفسي كنت بستنى السوق أروح أبيع فيه كيلة ولا كيلتين غلة عشان أشتري للعيال كيلو لحمة ونطبخ وكيلو فاكهة عشان العيال دي عاوزة تاكل”.
وتشير “أم شريفة” وهي فلاحة تملك قطعة أرض صغيرة لا تزرعها بنفسها بسبب سفر زوجها وابنها للعمل، وتزرعها بالشراكة مع زوج ابنتها، أنها أصبحت غير قادرة على بيع الحبوب التي تخزنها في منزلها بسبب الحالة التي فرضتها كورونا على عموم مصر، هكذا يتصرفن دائمًا النسوة في الريف، توضح أم شريفة :
“ماهو انا لو بعت محصول الذرة كله بعد الحصاد مش هاجيب فلوس كتير وهيتصرفوا في أسبوع وأقعد بعد كدة أضرب أخماس في أسداس”.
و حين سألناها ما هو مصدر دخلك الآن؟ أجابت: “أهو بستنى الشهرية اللي بييبعتها أبو شريفة وبالنسبة للأرض احنا زارعين دلوقتي خيار بيروح للتاجر كل أسبوع وبصرف من تمنة لحد ما ربنا يفرجها”
وعندما سألنا عن مصير البائعين في السوق قالت:
“الست دلوقتي بتفرش فرشة صغيرة قدام باب بيتها عشان لو حست ان في عربية دورية معدية تلم فرشتها وتدخل بسرعة”
هذه الأزمة لم تحاصر النساء وحسب بل خلقت بداخلهم إحساسًا بالرعب من القبض عليهن وانقطاع مصدر رزقهن المحتمل.
أما فيما يتعلق بالشكل الحالي لمعيشة الفلاحين فقد أصبح أكثر تأزمًا، اعتادت الأسر في الريف المصري طبخ اللحمة في يوم السوق الأسبوعي، هذا يعتبر من الأشياء الثابتة في عموم البيوت الريفية في ظل هذه الجائحة وفي ظل تراجع الأحوال الاقتصادية في الريف المصري نستطيع أن نقول أن هذه العادة تغيرت فبناء على شهادة “أم عبير”، 40 سنة، وأم لـ 5 أطفال، وهي تملك مع زوجها عدد من رؤوس الماشية:
“دلوقتي الجزارين بعد ماكانوا بيدبحوا بهيمة ويوقفوا بهيمة أو اتنين تاني دلوقتي ما بياخدش غير بهيمة واحدة وتلاقي الجزار بيقول لما أبيع دي الأول أبقى أخد منكم تاني”
اللحوم البلدي لها أهمية خاصة جدًا لدى المصريين وهذا يفسر سبب ارتفاع أسعارها مع عدة عوامل أخرى بالطبع، أقل رأس ماشية يتم بيعها بـ 30000 ألف جنيه، في الوقت الحالي قل إقبال الناس في الريف على شراء اللحمة البلدي وبالتالي الجزار الذي كان يشتري أكثر من رأس ماشية كل أسبوع أصبح الآن يشتري واحدة فقط وهو حتى لم يعد يضمن بيعها بالكامل، والفلاح الذي كان معتمد على هذه الماشية لـ”فك زنقته” في هذه الظروف الصعبة أصبح محاصرًا، فلا هو أقادرًا على إطعام مواشيه ولا بيعها والإنفاق على منزله. تقول أم فارس:
“دلوقتي اللي كان معاه فلوس خلصها واهو قاعد كده حتى الشغل مش عارف يطلع بره ويشتغل، الناس بقت محبوسة ومش لاقيين” .
وتستكمل قائلة:
“أنا أهو بشتغل مدرسة ابتدائي وجوزي فلاح بس اتزنقنا ورحت استلفت من أمي 3000 جنيه لحد ما نبيع محصول القمح والناس هنا دلوقتي بعد ماخلصوا الفلوس اللي معاهم دايرين يستلفوا لح ما هيجي اليوم الي ماحدش هيقدر يسلف حد”.
مروة ممدوح
باحثة
عضو سكرتارية شبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية
الصور المنشورة في المقال تعود ملكيتها إلى الباحثة مروة ممدوح