مقابلة مع الكاتب والمناضل والدن بيلو



حاورنا في  موقع “سيادة ” المفكر الفلبيبي “والدن بيلو”، وطرحنا عليه بعض الأسئلة من أجل فهم أعمق لمشروع السيادة الغذائية في ظل تفشي وباء كورونا، وكذلك من أجل متابعة التطورات الأخير للوضع العالمي على ضوء سيطرة الشركات المتعددة الجنسية على خطوط الإمداد وتأثيراتها على الأمن الغذائي، كما قدم لنا “وولدن بيلو” ملخصا عاما لمنظوراته ومنهجية طرحها من خلال دراسته الأخيرة المنشورة على موقعنا.

في ما يلي نقدم للقراء ولكل المهتمين مجريات هذا الحوار الغني:

” يجب أن ندرك فرصة إعادة توطين الإنتاج،

ليس في حالة الطوارئ هذه وحسب، بل حتى استراتيجيا، في الأمد الطويل”

في سياق النقاشات العديدة التي أطلقتها الأزمة الصحية العالمية، وفي خضم سباق محموم لإيجاد لقاح ناجع ضد كوفيد-19، ما هي بنظركم أهمية مشروع السيادة الغذائية، أو مدى ملاءمته، وكيف يمكن توضيحه؟

 أعتقد أن  جائحة كوفيد-19 هي، في الآن ذاته، مأساة رهيبة وفرصة سانحة.  ليس كوفيد-19 مرضا يفتك بالبشر وحسب، إنه أيضا نتيجة نهب مطلق العنان لغاباتنا، ناجم عن الاستغلال التجاري للوحيش الطبيعي؛ وفي الحالة التي نحن بصددها عن التجارة في حيوان أم قرفة pangolin الذي نقل الفيروس من الوطاويط إلى البشر. لقد خربت الرأسمالية توازنا مع البيئة صانته المجتمعات التقليدية، وإن صدمة معكوسة من هذا القبيل حتمية عاجلا أو آجلا.

 لكن كوفيد-19 يمثل بارقة أمل. إذ يمكن، بسبب أزمة سلاسل إمداد الغذاء العالمية والإقليمية، أن  تُتاح لنا فرصة إعادة توطين الإنتاج الغذائي وإعادة إطلاق الإنتاج الزراعي والجماعات القروية التي قرضتها سلاسل الإمداد تلك وأخلت بتوازنها.

تتحكم المقاولات الرأسمالية الكبرى في سلاسل إمداد الغذاء في العالم، ما يرفع احتمال تعرض سكان مناطق بكاملها للمجاعة عند عجزها عن أداء ثمن وارداتها، أو كعقاب ذي أهداف سياسية. كيف يمكن في الأمد البعيد التخلص من هذا المأزق ؟ 

يجب أن ندرك فرصة إعادة توطين الإنتاج، ليس في حقبة الطوارئ هذه وحسب، بل استراتيجيا وفي الأمد الطويل.  يجب ألا تكون ثمة عودة إلى سلاسل الإمداد الخاصة بالمقاولات بعد زوال الجائحة، رغم أن ثمة طبعا ضغط قوي لإبقائها تمارسه المصالح الخاصة.

“لا تهدر أبدا فرصة أزمة جيدة”: جائحة كوفد-19 وإمكانية تحقيق السيادة الغذائية” هو عنوان  دراسة أنجزتموها ونقلناها إلى اللغة العربية ونشرت على موقعنا. هل لكم أولا أن تلخصوا لقرائنا الحجج الرئيسة لتلك الدراسة ؟

أبانت جائحة كوفيد-19 هشاشة سلاسل إمداد الغذاء العالمية والإقليمية إزاء الاضطرابات الناجمة عن الجوائح والكوارث.

تقوم الحكومات، في الأمد القصير، بإغلاق الحدود ليس بوجه الأسفار فقط، بل حتى نقل السلع على مسافات طوال، ومنها الأغذية. وحتى جماعات السكان منعت دخول شاحنات النقل، كما حصل في الأرجنتين، خشية أن تكون حاملة للفيروس.

مع انخفاض إمدادات الأغذية، وارتفاع الأسعار الجامح، تظهر أزمة في جماعات السكان التي باتت تابعة لإمدادات المواد الغذائية على مسافات طويلة.

أحدثَ هذا طلبا على الأغذية المنتجة محليا؛ حيث يلبي المزارعون المحليون طلب المراكز الحضرية. بيد أن تدابير صحة عمومية غير مناسبة، فرضتها الحكومات، تحول أحيانا دون قيام المزارعين بمد المراكز الحضرية بمنتجات غذائية هي بأمسّ الحاجة إليها.

تبرز الأزمة، كما انهيار سلاسل الإمداد المتحكم بها من الشركات متعددة الجنسية، أهمية إعادة توطين إنتاج الأغذية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وقلب سيرورة جعلت زهاء 50%من استهلاك الغذاء في الصين وفي جنوب شرق آسيا وزهاء 20 إلى 30% بالهند، وأمريكا اللاتينية وبعض أقسام أفريقيا، تحت تحكم  مزودين عالميين وإقليميين بعيدين عن أماكن الإنتاج.

يجب أن تكون إعادة توطين إنتاج الأغذية مهتدية بمبدأ الاكتفاء الذاتي الغذائي، وكذا بمبدأ “السيادة الغذائية” الذي يعني، ضمن أمور أُخَر، ما يلي:

أ-  يجب أن تكون الحاجات والأفضليات المحلية المحدد الرئيس لإنتاج المواد الغذائية واستهلاكها

ب- أسبقية إنتاج المواد الغذائية الموجهة للاستهلاك الداخلي على تلك الموجهة للتصدير.

ج– يجب أن يجري إنتاج المواد الغذائية بعمليات تقوم، بخلاف سلاسل الإمداد العالمية، بتقليص جذري لنفث الكربون.

د- يجب أن تؤلف تكنولوجيا الإنتاج، بنحو خلاق، مناهج مجددة لكن سليمة، وغير ضارة من الناحية البيئية والاجتماعية، مع أساليب تقليدية ذات جدارة؛

هـ- تشجيع، ونشر واسع، لأساليب الزراعة الايكولوجية التي تحد من الإسهامات  الخارجية وتشجع العمليات الداخلية المستقلة.

في ضوء ضعف المنظمات التقدمية الساعية إلى بلوغ السيادة الغذائية، يبدو أن كبريات المقاولات متعددة الجنسية هي التي لا تفوت أي فرصة للاستفادة من الأزمة. بنظركم، ما مدى واقعية فرصة السيادة الغذائية هذه؟

كما أسلفتُ، ستقوم الشركات متعددة الجنسية، بعد الجائحة، بجهود كبيرة لتعيد إرساء سلاسل الإمداد العالمية والإقليمية. وإذا قام المنتجون، الذين نفذوا من الثغرة وأقاموا صلات مع بائعي التقسيط والمستهلكين المحليين، بتنظيم أنفسهم فسيكونون في موقع أفضل لمقاومة هجمات الشركات متعددة الجنسية.  يجب أن يعقد المنتجون تحالفاتٍ مع بائعي التقسيط والمستهلكين على أساس مقدرتهم على  الإمداد بمواد أجود من الناحية الصحية والذوقية مما لدى الشركات متعددة الجنسية. ستحاول هذه الأخيرة استعادة هيمنتها بفضل أسعار منخفضة ومُدعّمة؛ لذا من الأهمية بمكان أن تحدو تحالفات المنتجين والبائعين بالتقسيط والمستهلكين المحلية  بالحكومات إلى فرض رسوم مرتفعة على منتجات الشركات متعددة الجنسية  وكذا على أرباحها.

أفريقيا الشمالية من المناطق المعروفة بتوسع الزراعة الصناعية الكثيفة الموجهة نحو التصدير، مع آثار مضرة بالبيئة واستغلال شديد لعمال الزراعة. كيف ترون هذا النمط من الزراعة الصناعية الرأسمالية؟  وبناء على تجربتكم، كيف يمكن لمنظمات منتجي الأغذية أن تناضل ضد هذا النموذج الزراعي؟

هذا الطراز من الزراعة الصناعية الرأسمالية بالغ الضرر على صُعُد عدّة.  فالشركات متعددة الجنسية العاملة في الزراعة الصناعية مفرطة الاستغلال فيما يتعلق بصلاتها بالمزارعين المتعاقد معهم والذين يظل تأثيرهم على مضامين العقود ضئيلا جدا.  وهي تسهم بذلك في زيادة أوجه التفاوت. وتقوم بتشجيع استعمال البذور المعدلة جينيا والزراعة كثيفة الاستعمال للمواد الكيماوية، ما يمثل خطرا على الصحة العمومية وعلى المناخ، بسبب نفث الكربون غير المتحكم به.  وتفرط في استغلال العمال المهاجرين الذين لا يعانون من ضعف الأجور المنخفضة وحسب، بل حتى من ظروف عمل سيئة مع الحرمان من صفة مقيمين دائمين. لا أرى وسيلة أخرى لمقاومة تلك الشركات غير بناء منظمات منتجين متينة ذات علاقات مع الجامعيين ومجموعات المستهلكين والوكالات الحكومية الأساسية. هذه الأنماط من التحالفات هي التي حالت دون اختراقات مهمة للإنتاج الغذائي القائم على الهندسة الجينية في بعض أقسام أفريقيا جنوب الصحراء، رغم وجوب توطيد تلك المقاومة.

نود  أن تشاركونا أخبارا عن النضالات والتجارب الجارية من قبل المنتجين الصغار أو الشعوب الأهلية في منطقتكم؟

كان النضال ضد الشركات متعددة الجنسية، وضد البذور المعدلة جينيا والسلاسل العالمية والإقليمية، جاريا في جنوب شرق آسيا قبل جائحة كوفيد-19.  وكان النضال من أجل السيادة الغذائية مرتبطا بالنضال من أجل الإصلاح الزراعي في الفلبين، مع أنه و يا للأسف لا يتقدم بسبب مقاومة ملاكي الأراضي الشديدة لإعادة توزيع الأراضي. وفي تايلاند، فقد صغارُ المزارعين المستفيدون من السياسات الشعبوية للحكومات المرتبطة بـتاكسين شيناواترا Thaksin Shinawatra ، تأثيرهم منذ أن أطيح في العام 2014 بالسيدة ينغلاك Yingluck  أخت تاكسين. وفي غضون ذلك،  مدت الشركة الغذائية العملاقة Charoen Pokphand، المستقرة في تايلاند، مجسات سلاسلها للإمداد إلى مجمل جنوب شرق آسيا، على حساب منتجي الأغذية المحليين.  وفي ميانمار (بورما)، لا تزال  الزراعة تمارس بشكل رئيسي من قبل صغار المنتجين غير المندمجين في  سلاسل الإمداد العالمية والإقليمية؛ لكن بنك التنمية الأسيوي والمنظمة العالمية للزراعة والأغذية يُكدّان لدمجهم في سلاسل الإمداد تلك. ويقوم عدد من المنظمات غير الحكومية بمساعدة الفلاحين على مقاومة هذا الميل، بنجاح محدود. 

تمكنت المنظمة العالمية، نهج المزارعين Via Campesina ، من تنظيم ملايين الفلاحين عبر العالم، ومن تطوير مفاهيم تقدمية مثل السيادة الغذائية في ضوء الهجوم النيوليبرالي المعولم و توطيد التبعية الغذائية كما الأمر في منطقتنا، أفريقيا الشمالية.  هل يمكن اعتبار  هذه المنظمة إحدى البدائل الممكنة للرأسمالية؟

أجل، الميزة الكبرى لحركة فيا كامبيسينا هي كونها من صنع قادة فلاحيين أساسا، ولا تزال بقيادة زعماء فلاحيين. ربط هؤلاء القادة ومنظماتهم علاقات منتجة جدا مع منظمات غير حكومية وكذا مع أخصائيين في علم الزراعة بجامعات عديدة عبر العالم، نصحوهم بصدد كيفية دمج أساليب إنتاج صغار الفلاحين في زراعة مراعية للبيئة مع تكنولوجيات اجتماعية وايكولوجية أخرى. إن لديَّ ثقة كبيرة في مستقبل فيا كامبيسينا.

كلمة أخيرة ؟

لا يزال زهاء 70% من إنتاج الغذاء بالعالم بيد منتجين فلاحين صغار. وهذا ما يمكن أن يمنح الزراعة البديلة قاعدة جماهيرية. لكن ينتظرنا عمل كثير لتحويل هذا الإمكان إلى وجود بالفعل. 

…………….

والدن بيلو: هو عضو مشارك بالمعهد الدولي. وهو أيضًا أستاذٌ مساعدٌ دولي لعلم الاجتماع في جامعة ولاية نيويورك في

ببينغهامتون، كما أنّه من كبراء مُحلِلي منظمة «التركيز على الجنوب العالمي »، ومقرّها بانكوك. ألّفَ 25 كتابًا، وحصل على

جائزة «رايت ليفيلهوود »، أو «الحقّ في العيش الكريم »، )المعروفة أيضًا باسم جائزة نوبل البديلة( في عام 2003) .

 لقراءة دراسة والدن بيلو  باللغة العربية:   

جرى نشر هذا المقال في العدد الأول من مجلة ” سيادة”: رابط تحميل المجلة هنا