إن الأزمةَ الصحيةَ التي نعيش لا يمكن إلا أن تُفاقم وضعَ المزارعين في الجزائر الهشَّ أصلا، هذا أقل ما يمكن قوله. وعلى غرار سائر أقطار العالم، يؤدي الحجرُ الصحي، وتقليصُ النقل أو غيابُه، والانكماشُ العام للنشاط الاقتصادي الذي أضر بقطاعات الإنتاج والاستهلاك على السواء، إلى مضاعفات كارثية على المجتمعات، وعلى أفقر الشرائح الاجتماعية بوجه خاص. وتتخذ الخسائرُ الناتجةُ عن الجائحة أحجاما متباينةً من بلد إلى آخر، ومن هذا القطاع إلى ذاك. وقد خفف (أو فاقم) تنظيمُ القطاع الاقتصادي، والإجراءاتُ المتخذة من قبل السلطات العمومية، إلى حد ما، صدمةَ الأزمة الصحية.
لذا، تتوقف عواقب الأزمة بقوة على كيفية تدبيرها، وعلى مقاومة المنظومات المعرضة لها. وبقصد قياس العواقب على العالم الزراعي الجزائري، سيُفيد الانطلاقُ من لمحة عن خصوصية أو فرادة اشتغال هذا القطاع، المفترض أنه حساس بالنسبة لكل بلد يدعي مواصفات البلد.
يجب، في المقام الأول، ألا يغيب عن الذهن كونُ هذا القطاع معاقا بإرث السياسات الاستعمارية – التي فرضت بنحو ما الشروط الطبيعية (أراض فقيرة، محدودية المساحة الصالحة للزراعة)- و اللاحقة للاستعمار (إعادات هيكلة متعددة، غياب تكوينات أو عدم ملاءمتها…)[1]
يصل عدد السكان النشيطين في الزراعة، حسب الإحصاء الزراعي العام لسنة 2001 [2]، إلى 358 421 4 (18% نساء). وثمة 207 460 1 مستثمر أو شريك في الاستثمار (مؤاكر أو شريك) بنسبة 83% من المنشآت الزراعية الفردية التي تحتل نسبة 79.7% من مجمل المساحة الصالحة للزراعة. وتتراوح مساحة 70% من تلك المنشآت بين 0.1 هكتار وأقل من 10 هكتار. وحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، توفر الزراعة فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لزهاء 13 مليون جزائري[3]. ما يعني أن الزراعة تمثل مصدر عيش أو دخل 30% من السكان .
ويكتسي هذا النشاط الاقتصادي، بفعل عدم خضوعه للضريبة، خصائص قطاع غير مهيكل بتاتا، يلقي بنا في اقتصاد مواز، معروف جزئيا. وفي لحظة معينة، يظل عدد المنشآت الزراعية النشيطة تقريبيا دوما…
وجلي أنه لا يمكن توصيف موضوعي لواقع هؤلاء السكان الفلاحين بواسطة منظومة المعلومات الإحصائية الراهنة مطبقةً على سوق العمل، في غياب بحوث موجَّهة ومنتظمة.
تمثل البطاقة المهنية الوسيلة الوحيدة للتعرف على المزارعين، لكنهم لا يجددونها إلا عرضيا، لا سيما بقصد التمكن من الاستفادة من مساعدات الدولة وإعاناتها. وبصفة عامة تقتصر العلاقات الوحيدة مع السلطات العمومية على سداد فاتورات الكهرباء، وعلى الرسوم المتيحة ولوج الأسواق، والمجازر (في الداخل قد تكون 90 إلى 100% من عمليات الذبح سرية)… وإذا أضفنا إلى واقع الحال هذا تداول المال نقدا، ونقص تكوين المِلاك الإداري، وغياب لوجستيك رقابة على صعيد مديرية الخدمات الزراعية D.S.A ، نكون إزاء الحديث عن مجال نحيط بالكاد بمعالمه. وانطلاقا من هنا، لا صعوبة في ملاحظة أن لا فائدة في هذا العالم غير المهيكل من احتمال وجود نقابات، وتغطية اجتماعية، وخطة مسار مهني، وعُطل، وبالأحرى نظام تقاعد… لكن يمكن منذ الآن فصاعدا اعتبار قرابة مجمل العمال الزراعيين الموسميين أو الدائمين محرومين من أي تغطية اجتماعية. ويمكن أن نجد في منشأة زراعية أطفالا وشيوخا [4]على السواء، إلى جانب عمال من مالي مهاجرين سريا من أجل العمل. ومن المهم ملاحظة أن ظروف المهاجرين مماثلة لظروف العمال المحليين.
وبمعزل عن الأزمة الصحية، يتفادى المهاجرون التنقل كي لا يتم رصدهم من قبل القوات النظامية وطردهم إلى بلدهم الأصلي. ويشكلون شبكات صغيرة توفر لهم دعما ماديا وماليا، ولا سيما معلومات عن فرص العمل المحتملة. ويمثلون، حسب المناطق، زهاء 20% من اليد العاملة. وسواء كانوا مهاجرين أو محليين تظل الأجور مماثلة. وعندما يقطنون مكان العمل، يتقاسمون نفس السكن البدائي، بلا ماء و لا كهرباء معظم الأحيان. وفي حالة حادثة عمل (لسعة عقرب، استعمال غير آمن لأداة، صعقة كهربائية، اعتداء على المنشاة من أجل السرقة…)، وهو أمر غير نادر، قد يصبح وضعهم مأساويا بسهولة. ومهما بدا ذلك غير قابل للتصديق،لا يمكن في هذا الإطار إلا أن نلاحظ الطابع شبه السري لهذا النظام الغذائي كله. والمفارقة أن السلطات لا تفهم بعدُ، في هذا المشهد، لماذا يظل القطاع الزراعي قليلَ الجاذبية ( يمثل من هم أقل من 30 سنة: 4.8% ومن هم أكثر من 70 سنة: 16%).
سبَّبَ إغلاقُ المطاعم (والمطاعم الجامعية)، ومقاهي المؤسسات، والأسواق المحلية، خسائر مالية كبيرة لأن الاستهلاك توقف كليا على هذه المستويات. يبيع صغار المزارعين الأبعد عن الأقطاب الحضرية القسمَ الأعظم من منتجاتهم في الأسواق الأسبوعية المفتوحة. وقد توقف ولوج هؤلاء لتلك الأسواق، فباتوا بلا دخل، ما يعني حتما التخلي عنهم. ويبذل هؤلاء المزارعون، المهمَلون، كل ممكن للتشبث بالحياة، بقدر ما تلفظهم عمليا مقتضيات نظام المساعدات العمومية. وغالبا ما يحتلون، كباعة متجولين، الأرصفة والساحات الصغيرة، مضطرين للبيع على عجل. ويحدث أن تعجز القوات النظامية المتجاوَزَة، عن معاقبة المخالفين؛ فتترك هؤلاء السكان المستائين يتصرفون. وفي حالات كثيرة لا تحترم التدابير القمعية ولا يمكن أن تُحترم.
مرة أخرى، يجدر ملاحظة أن المزارعين متعددي الزراعات، ومن يفلحون في تحويل منتجاتهم محليا، هم الأوفر حظا في إيجاد سبيل للخلاص. مثال ذلك إنتاج النعناع الأخضر، الموجه بوجه عام لقاعات المقاهي، والمستهلك أيضا في الأعراس والأعياد، والذي يُجفف ويُخزن. وكذا الحليب الطري المحول إلى زبدة وجبن. وتغير بعض المنتجات (سلق، كرفس، سبانخ،…) وجهتها لتستهلكها الماشية… وبعض المنتجات التي تقاوم بعد جنيها، أو التي يمكن أن تبقى في الأرض مثل الجزر والثوم والبصل والبطاطس…أقل تضررا من البيع بخسارة، مع أن حرارة الصيف تجعل حفظ المنتجات الطرية بالغ الصعوبة.
تتمثل إحدى خصوصيات النشاط الزراعي في تدبير منتجات طرية عموما، ما يفرض دورات في تدفقات ممدودة. والمزارعون الأشد تبعية فيما يخص المُدْخَلات input (بذور، مبيدات…) هم الأكثر عرضة للتضرر، حيث ارتفعت الأسعار بنحو كبير، متضاعفةً 15 مرة في بعض الحالات. ويرتبط زهاء ثلث السكان ، مباشرة أو مداورة بالزراعة، وهم مقصيون من كل سياسة دعم. هذا ما ينذر بأزمة غذائية، إذ أن توافر البذور يخضع، بخلاف قطاعات نشاط أخرى (البناء والصناعة …) لموسمية. فبذور الفلفل والشعير غير متاحة في موسم معين، حيث يجب انتظار السنة التالية لبذرها في غضون ذلك. ما يعنى أن دورة الإنتاج إن كانت معرقلة، فلن يحل رفع العرقلة مشكل توافر التغذية.
بمجمل الأحوال، وبدون مفاجأة، يلاحظ أن التنوع الحيوي الزراعي هو خلاص المزارعين الوحيد. فهو ينطوي على مؤهلات مقاومة الأزمات في تنوع المنتجات وفي مستوى الاستقلال الذي تمنحه للفلاحين.
إن نقص تحمل المشاكل المهنية للمزارع وللمحيط القروي، والغياب الهيكلي للسيادة أو التبعية التامة (بذور، مواد صحة النباتات، تجهيزات زراعية…) هما في أساس الهشاشة القصوى للنظام الغذائي الجزائري.
……………………..
إحالات
- 66.6% بدون مستوى تعليمي
- يعود الإحصاء الزراعي العام إلى سنة 2001، ولم يجر أي إحصاء منذئذ. وتستند التقديرات على فرضية نمو للسكان النشيطين بين 300 و 350 ألف سنويا.
- تعتبر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة– الفاو- أن فرصة عمل في قطاع الإنتاج تُحدث بالأقل ثلاث فرص أخرى (نقل-تجارة –تثمين). وتجب الإشارة إلى أن تعدد الأنشطة غير خاضع لأي قياس.
- يُقدر أن 30.4% من العمال أطفال. ولا يأخذ الإحصاء الزراعي العام بالاعتبار السكان الذين يفوق عمرهم 15 سنة. و60% من الأطفال المسجلين في السنة الأولى يغادرون المدرسة قبل سن 16 سنة.
سفيان بن عجيلة
مستشار مستقل عضو الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان – الجزائر
جرى نشر هذا المقال في العدد الأول من مجلة ” سيادة” : رابط تحميل المجلة هنا