عمَّق الانفتاح المفروض على المغرب من خلال الاتفاقيات التجارية تبعية الاقتصاد المغربي وسرّع اندماجه بالاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ أواخر القرن التاسع عشر. كما ساهمت المديونية العمومية بصورة أشمل جدا بتسريع سيطرة المستعمر (الفرنسي والاسباني) وإدخاله علاقات الانتاج الرأسمالية إلى القرية، مدمّرا بذلك علاقة الفلاح الصغير بالأرض، ومفككا البنيات الاجتماعية التقليدية والملكية الجماعية للأراضي الفلاحية. لقد فتحت إجراءات برنامج التقويم الهيكلي والانفتاح الليبرالي المُعَمَّم ومخطّط المغرب الأخضر المجال لتغلغل كبار الرأسماليين الخواص المحليين والأجانب بقطاع الإنتاج الفلاحي، أساسا لأجل التصدير وتمتعهم بالإعفاءات والاعانات، وبنفس الوقت عمقت سيرورة إفقار الفلاحين الصغار الذين يرغمون على كراء أراضيهم أو بيعها.
ارتكزت أولويات الدولة المغربية إبّان الاستقلال على تزويد السوق الأوروبيّة بنفس المنتجات الزراعيّة الأولية التي كان الاستعمار الفرنسي ينتجها. وارتبطت تنمية الزراعة وما استدعته من استثمارات عمومية هائلة، بالمؤسسات المالية الدولية على مستوى التمويل في شكل قروض، وببلدان الشمال الكبرى على المستوى التكنولوجي في شكل استيراد المدخلات والمعدات.
انفجرت أوائل السبعينات أزمة الديون بالمغرب، على غرار عديد بلدان الجنوب ذات السياسات التبعيّة، ممّا اضطرّها للخضوع لإملاءات المؤسسات الماليّة الكُبْرى وتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي؛ وما يعنيه ذلك – في القطاع الفلاحي – من تقليصٍ لحجم الاستثمارات العموميّة والإعانات الحكومية وخصخصة عديد الأنشطة المرتبطة بالإنتاج والتسويق وعديد الشركات الفلاحية العمومية، وتحرير أسعار المواد الغذائية الأساسيّة، ممّا أدّى إلى تفاقم حالة المُزارعين الصغار والمتوسطين الهشة. اشتدّت عملية إفقار صغار الفلاحين إثر تبني سياسات الانفتاح الاقتصادي المُعمَّمِ وتنفيذ اتفاقيات التبادل الحر مع القوى العالمية الكبرى، وفقا لتوجيهات منظمة التجارة العالمية التي تأسست بمراكش في يناير 1995.
سنة 2008، اعتمد المغرب “مخطّط المغرب الأخضر” والمتمثل في تحسين ظروف الاستثمار الذي تطالب به الشركات متعددة الجنسيات، ومرافقة المنتجين المحليين الكبار للتغلب على الصعوبات الرئيسة التي يواجهونها بسياق العولمة، والأزمة العالمية، واشتداد المنافسة بالسوق الدولية. كما يستند المخطط على الزراعة الكثيفة ذات القيمة المضافة العالية المخصصة للتصدير، وكذلك على دعم تشكيل مجموعات فلاحية إنتاجية وتصديرية كبرى يرتبط بها صغار الفلاحين وتفرض شروطها عليهم. أمّا الزراعات المعيشيّة فلم ينلها منه سوى الفتات باعتبارها غير مربحة ويمكن الاستغناء عنها واستيراد منتجاتها كالحبوب والسكر الخ.
يتغلغل النموذج الزراعي المالي، الصناعي، التجاري والتصديري برعاية من مصالح الدولة ووزارة الفلاحة من خلال فرض أنماط إنتاج واستهلاك وفق نموذج البلدان الرأسمالية الكبرى، وتعميم البذور الهجينة والأغراس المعتمدة (وسلالات الماشية) والمشاتل الكبيرة، وتدمير آخر ما تبقى من الموروث الجيني الذي راكمه الفلاحون الصغار، والذي استحوذت عليه الشركات متعددة الجنسيات واحتكرته باسم الملكية الفكرية وبراءة الاختراع التي عملت الدولة المغربية على وضع ترسانة من القوانين لحمايتها. وسنت أيضا قوانين تتعلق بالعلامات المميزة للمنشأ والجودة ازاء المواد الغذائية والمنتجات الفلاحية والبحرية لتسهيل الاستحواذ على الثروات المحلية لصغار الفلاحين والبحارة، كشجر الأركان والتمور والزعفران. وتقوم هذه الأنواع من البذور والأشجار الدخيلة على تقنيات زراعية مدمرة للأرض ومستنزفة للماء، وعلى استعمال كثيف للأسمدة الكيماوية والمبيدات السامة (والشيء نفسه بالنسبة لسلالات الماشية والدجاج، التي تستهلك كميات هائلة من العلف والمضادات والهرمونات الحيوية)، كما تقوم على استهلاك كبير جدا للطاقة الأحفورية (النفط والغازوال والبوتان) المساهمة بدورها بظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ، وما ينتج عنهما من كوارث جفاف وفيضانات. هذا علاوة على المخلفات الملوثة لمحطات التلفيف، ومحطات التخزين والتبريد، ومعامل الصناعات الغذائية، ونفايات جميع أنواع البلاستيك والبراميل والعبوات. فمنطق الربح يتعارض مع ضرورات الحفاظ على الطاقة والبيئة.
وقد وضعت الدولة نظاما متكاملا من الإعانات المالية للقطاع الفلاحي على مستوى الإنتاج والتسويق، خصوصا لتشجيع الزراعات التصديرية بالمناطق السقوية التي لا تشكل سوى 17 % من المساحة الزراعية الإجمالية، في حين همشت المساحات المرتبطة بالأمطار، التي يتركز بها إنتاج المواد الغذائية الرئيسة كالحبوب والقطاني (حوالي 60%). ويعد نظام الإعانات بالواقع مجالا لنهب المال العمومي من قبل كبار الرأسماليين والشركات التجارية الفلاحية.
إنّ معظم المساحات الزراعية المخصصة للحبوب تقع بأراض بور لا تستفيد من مياه السدود أو المياه الجوفية، وتقع في الغالب خارج المدارات المسقيّة التي يتركز حولها تدخل الدولة (المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي). وتشهد زراعة الحبوب تحولات كبيرة، اذ تتجه المساحات الإجمالية نحو التقلص. كما نشهد تراجع المساحة المخصصة للشعير، مقابل توسع تلك المخصصة للقمح الطريّ.
كان هذا التوجه يهدف، بصورة مبكرة، الى خلق فلاحة تصديرية وتشجيعها (الحوامض والبواكر) للحصول على العملة الصعبة. وكانت الدولة تبرر هذا التوجه بإعطاء انطباع بان شروط تنمية سريعة للاقتصاد تنطلق من التركيز على القطاع الفلاحي العصري دون غيره.
المقال أعلاه مأخود من دراسة : جائحة كوفيد 19 وامكانيّة تحقيق السّيادة الغذائية
للباحث الفليبيني والدن بيلو
لتحميل وقراءة الدراسة : إضغط هنا