الأمن الغذائي والسيادة الغذائية في سورية بعد عام 2011



   ثمة خلفيتان ضروريتان لما سيأتي في هذا البحث يُسْتَحْسْن أن نَبْسطهما مباشرة قبل خوض غماره: 

   الأولى، هي أنّ مصطلح “الأمن الغذائي” لا يؤخذ هنا إلّا بدلالة “السيادة الغذائية” وقبالتها. ذلك أنَّ “الأمن الغذائي” لا يتحدد بذاته، بل بالبنية التي تكتنفه وبمنظور القوى والعلاقات المتحكمة بهذه البنية أو المقاومة لها. ولذلك، فإنّ المفهوم السائد في العالم اليوم لـ”الأمن الغذائي” هو مفهوم نيوليبرالي يتقاسمه، على سبيل المثال لا الحصر، كلٌّ من البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومعظم بلدان العالم الرأسمالي، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية، ومفاده أنَّ الأمن الغذائي هو القدرة على الحصول على الغذاء الذي تحتاجه حين تحتاجه، أو القدرة على شراء الغذاء. وهذا يعني ضمنًا أنَّ الأسواق هي أكثر الوسائل فعالية لتعزيز الأمن الغذائي العالمي الذي يتوفّر على أفضل وجه من خلال أداء سلس لسوق عالمية. وهذا يعني، بدوره، كسر الحمايات الوطنية وتغيير دور الدولة الوطنية وتقويض المنتجين الصغار، من بين أشياء كثيرة وعميقة يعنيها(1).   

بالمقابل، يفنّد مفهوم “السيادة الغذائية” هذه المزاعم النيوليبرالية، ويبيّن أنّ السوق ليست لإطعام العالم، بل لتعزيز قوة شركات التجارة الزراعية وتدمير اقتصادات المزارع الأسرية وخلق أزمة عميقة في المجتمعات تهدد وجودها ذاته. وهو يتعدّى النقد إلى اقتراح البدائل، ما يجعله حركة مضادة للسياسات الغذائية النيوليبرالية، لديها رؤية للاستخدام الديمقراطي للأرض وتوفير الغذاء. فما تقترحه “السيادة الغذائية هو أنَّ “الغذاء قوتٌ أولًا وقبل كلّ شيء. وليس مادة للتجارة إلّا في المقام الثاني”(2)، ولذلك تقترح “أسواق غذاء محلية، وحقّ أيّ بلد في أن يحمي حدوده من الأغذية المستوردة، وزراعة مستدامةـ ودفاع عن التنوع البيولوجي، وغذاء صحي، ووظائف وسبل متينة للعيش في المناطق الريفية”(3). وبذلك تغدو السيادة الغذائية تدخّلًا استراتيجيًا لا يكتفي بتناول الاحتياجات الفورية (الشكلية) وطرح بدائل جوهرية طويلة الأجل، بل يتعدى ذلك إلى طرح حقّ الأمم في حماية الإنتاج الغذائي المحلي والمنتجين المحليين الذين “ينتجون حاليًا الغالبية العظمى من غذاء العالم”(4). ولا حاجة للقول إنَّ ظرفًا كظرف الحرب المديدة يترك آثاره وتعديلاته الضرورية المؤقتة والانتقالية في تعريف كلّ من الأمن الغذائي والسيادة الغذائية.

   الخلفية الثانية هي مراحل تطور النظام الاقتصادي- الاجتماعي- السياسي في سوريا، منذ الوحدة مع مصر ثم بعد استيلاء البعث على السلطة، من نظام وصفه التنظير السوفييتي والأحزاب الشيوعية الرسمية التابعة له في المنطقة العربية، من أواسط ستينيات القرن العشرين وحتى أواسط ثمانينياته، بأنّه يسير بقيادة “أنظمة ديمقراطية ثورية” على طريق “التطور اللارأسمالي” والتحول الديمقراطي الثوري باتجاه البناء الاشتراكي، إلى نظام يسير في طريق تطور رأسمالي متردٍّ ومتزايد التبعيّة، يفترس بالفساد وسوء التخطيط والإدارة ما سبق أن بناه هو ذاته(5).

   شكّل القطاع الحكومي المترافق مع نوع من الإصلاح الزراعي، عماد الاقتصاد الوطني في سوريا. ويمكن القول، بقصد التبسيط، إنَّه مرَّ بمرحلتين متمايزتين، بل متعاكستين، يفصل بينهما ما يمكن أن ندعوه انقلاباً حقيقياً: المرحلة الأولى هي مرحلة بناء هذا القطاع وتوسّعه (من الاستقلال حتى سبعينيات القرن العشرين)، والمرحلة الثانية هي مرحلة نهبه وتقليصه (لا تزال جارية منذ السبعينيات المذكورة). ولو أردنا أن نصور المعنى الاجتماعي الاقتصادي التاريخي والسياسي لهذه السيرورة، لقلنا إن القطاع الحكومي حوّلته الطبيعة الطبقية والسياسية والفكرية لمن سيطروا على السلطة إلى أساس لتحول الفئات الحاكمة التدريجي من برجوازية صغيرة إلى برجوازية مافيوزية فاحشة الثراء عن طريق نهبه والكفّ شيئًا فشيئًا عن تقديم جلّ الخدمات التي كان يقدمها لأبناء البلد، لا في الصناعة والزراعة والتجارة فحسب، بل حتى في التعليم والصحة وسوى ذلك. وإن كان هذا القطاع لم يُبَع ويُخصخَص أو يُستولَ عليه بالقدر الذي جرى في بلدان أخرى، فلأنّه لا يزال بقرتهم التي تحلب ذهباً والأساس الاقتصادي لاستبدادهم الوحشي(6).

   لم تكن الدعوة إلى ما دُعي بـ”اقتصاد السوق الاجتماعي” في أوائل القرن الواحد والعشرين، سوى تعبيرا مموَّها عن أنَّ ثروة اللصوص الكبار الذين نهبوا القطاع الحكومي صارت من الضخامة بحيث تحتاج للعمل في السوق، من جهة، وأنَّ الهشاشة التاريخية لهذه الفئات لا تسمح بتصفية القطاع العام تماماً، بوصفه مصدراً للثروة الوفيرة وأساساً للقمع ومبرراً (زائفاً، بالطبع) لمواصلة الاستيلاء على السلطة، وهذا الجانب الأخير هو ما يوصف بـ”الاجتماعي” في عبارة “اقتصاد السوق الاجتماعي”. والأهم والأعمق من هذا كلّه، هو أنَّ نهب القطاع الحكومي كان الأرضية التي تشكلت على أساسها فئات طبقية جديدة، بمعنى أنّ السلطة كانت مصدراً للثروة والطبقة بدل أن تكون مجرد أداة بيد الطبقة الثرية (كما هو في الكلاسيكيات)، إلى درجة أنّ معظم أثرياء البلد اليوم أو ما يُدعى “حيتان المال”، والقطاع القائد من البرجوازية بالمعنيين الاقتصادي والسياسي، هم لصوص القطاع الحكومي أو “أزلامهم” الذين يديرون أعمالهم، ومعظمهم كانوا أبناء فقراءٍ أو برجوازيين صغار تحولوا بين ليلة وضحاها إلى أغنى الأغنياء، من دون أخلاقيات الأغنياء المعتادة، بل بأخلاقيات المافيا وأشباهها(7).

   تتعامل هذه المافيا مع الدولة واقتصادها كأنهما مزرعتها الخاصة، بلا حسيب ولا رقيب، بعد أن قامت بتصفية كلّ معارضة بالقمع الوحشي. وإذا ما كانت تستعمل هذا الواحد أو ذاك من “الأزلام” ليدير ثرواتها المنهوبة من الدولة، فيمكنها بكل سهولة أن تستغني عنه وتستبدل به واحدًا آخر تحوّل إليه ثروة الأول ليديرها، إلى درجة أن كثيراً من الناس، لا سيما الأجيال الجديدة، نسيت أنّ أموال جميع هؤلاء مسروقة بالكامل حتى آخر قرش، وأنّها برمّتها ثروة السوريين. غير أنّه على الرغم من جميع الانتقادات الجذرية التي يمكن توجيهها لعيوب القطاع الحكومي والإصلاح الزراعي كما أجرته دولة الوحدة مع مصر ثم نظام البعث، فإنَّ التغييرات الانقلابية الجوهرية اللاحقة على هذا القطاع وهذا الإصلاح الزراعي هي التي تتحمل مسؤولية التدهور والخراب اللاحقين. فليس القطاع الحكومي ولا الإصلاح هو المصيبة بل ناهبوه والنظام السياسي والإداري والقانوني الذي أداره، بدليل أنَّ هذا القطاع كان، ولا يزال، في دول كثيرة أخرى مصدر تنميتها المهولة (كالصين وروسيا) أو صمودها المديد (ككوبا وفيتنام)، وبدليل أنَّ بلداً ككوريا الجنوبية كان يرى في مصر الناصرية وسوريا “البعث” في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات مثالاً تنموياً يُحتذى، وبدليل ما بيَّنته أزمة كورونا مؤخّرًا من تفوق الدول التي يقود فيها القطاع الحكومي الاقتصاد على سواها.

   هكذا، يختزل مصيرُ القطاع الحكومي ما جرى لسوريا على جميع الأصعدة، الاقتصادية الاجتماعية السياسية وحتى العسكرية، ويوضح كيف تَمايزَ فقراء سوريا وأغنياؤها على أساس وجوده أو تخريبه. وهو يشكّل، تالياً، بؤرة تتجمّع فيها الخيوط الأساسية لبنية سوريا ومصيرها، بعيداً عن التحليلات الدينية والطائفية والليبرالية الجديدة، ويمكن أن تتركز فيها المطالب الجوهرية للسوريين، لا سيما هذه الأيام، أيام الحرب والحصار. فقطاع الدولة هو أول ما يُحمى ويُنمّى في حالات الحصار والخراب. والطامة الكبرى أنَّ الفئات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية التي تسيّدت الانتفاضة السورية، بعد شهرها الأول الذي غلب عليه الطابع الشعبي، هي فئات جرت سياساتها وتجري بعكس الضروري والمطلوب، فلم تكن نقيضة للنظام بقدر ما ساعدته بأخذ البلد إلى الخراب. وكان المفكّر السلوفيني سلافوي جيجيك قد عبّر عن ذلك في مقالة جريئة بعنوان “سوريا صراعٌ زائف”، نشرتها الغارديان، الجمعة 6 أيلول/ سبتمبر 2013، قال فيها بثقة: “لا حاجة بالمرء لأن يكون عالم أرصاد جوية كي يعرف إلى أين تأخذ الرياح التي تهبّ في سوريا هذا البلد: إلى أفغانستان والأفغنة”. وأشار بثقة أيضاً إلى أنّه “لا يمكن أن ينقذنا من هذا الاحتمال سوى إضفاء الطابع الراديكالي على الصراع من أجل الحرية والديمقراطية وتحويله إلى صراع من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية … الصراع الدائر هو في نهاية المطاف صراع زائف…  يزدهر بسبب الثالث الغائب، أي بسبب غياب معارضة تحررية راديكالية قوية”(8).

   على الرغم من تراجع الأهمية النسبية للزراعة في الناتج المحلي الإجمالي السوري، من %32 في سبعينيات القرن العشرين إلى %22.4 في العقد الأول من الألفية الجديدة، إلى 18% في عام 2011، وتراجع حصة القطاع الزراعي من إجمالي المشتغلين من حوالي %50 عام 1970 إلى حوالي 14 %فقط في عام 2010(9)، كانت سورية، قبل انتفاضة آذار/ مارس 2011، البلد الوحيد في المنطقة المكتفي ذاتياً في مجال إنتاج الغذاء، لاسيما المحاصيل الزراعية الأساسية مثل القمح والشعير، بل تحوّلت إلى مُصدِّر إقليمي قبل أن يُجبرها جفافٌ كبيرٌ بين العامَين 2008 و2009 على استيراد كميات كبيرة من القمح للمرة الأولى منذ سنوات عدة. بل إنّ مركز كارنيغي للشرق الأوسط يعزو صمود الأمن الغذائي النسبي في سورية حتى عام 2015 إلى القطاع الزراعي المتطور في البلاد قبل الأزمة، وإلى اقتصاد مُوجَّه من الدولة ركَّزَ على القمح باعتباره سلعة غذائية استراتيجية، وساعدَه نظامُ دعم سخي لتعزيز إنتاج القمح(10).

كان للحرب وقع الكارثة على هذه المستويات المرتفعة نسبيًا من الأمن. وتشير بيانات إحصائية للأمم المتحدة قريبة من العام 2021 إلى أنّ  أكثر من 12 مليون شخص في سوريا يعاني من انعدام الأمن الغذائي، ويعاني 1.3 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الشديد(11). وبالطبع، فإنّ اتجاه هذه الأرقام الآن، في عام 2024، هو إلى الأسوأ مع استمرار الكارثة وأطرافها الفاعلة وتفاقمها باحتلالات وحصارات وزلزال ومعدلات هجرة وموجات غلاء غير مسبوقة.

تركّز منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في تعريفها الأمن الغذائي على طبيعته متعددة الأبعاد التي تشمل توافر الغذاء، والقدرة على النفاذ إليه، واستخدامه البيولوجي والاستفادة منه بتوفر مياه الشرب وغاز الطهي، واستقرار هذه الابعاد الثلاثة أو استدامتها. وهذا ما يتبنّاه التقرير الموسوم الأمن الغذائي والنزاع في سوريا الذي أعدّه المركز السوري لبحوث السياسات بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت، إذ لا يكتفي بقياس الأمن الغذائي كمؤشر إجمالي، بل يرصد تغيّرات مكوّناته الفرعية الأربعة وتفصيلاتها أيضًا(12). ويحيل هذا التقرير ما كانت تتمتع به سوريا قبل الحرب من مستويات مرتفعة من الأمن الغذائي إلى بُعدي الوفرة والنفاذ، في حين كان أداء بُعدي الاستخدام والاستقرار أو الاستدامة أقل جودة بسبب ضعف مصادر الدخل وتراجع التشغيل وعدم استدامة استخدام الموارد الطبيعية(13)

   أمّا خلال الحرب فنجد تراجعًا حادًا، بل كارثيًا، في مستوى الأمن الغذائي بحوالى  %34بين عامي 2010 و2014، وتراجع مكوّنات الأمن الغذائي كافة، لا سيما مكوّن النفاذ إلى الغذاء بحوالي %48، إذ تأثّر بحالات الحصار والقيود على الانتقال وتراجع القدرة الشرائية. يليه تراجع مكوّنات الاستخدام والاستقرار والوفرة بحوالى%37 ، و%25 و%23 على التوالي(14).

   في الفترة 2014- 2018 تراجع مؤشّر الأمن الغذائي بحوالى  %8على الرغم من تحسّن مكوّن النفاذ بحوالى %3 نتيجة تراجع حالات الحصار وحِدَّة العمليات العسكرية، لكن مكوّنات الوفرة والاستقرار والاستخدام تراجعت بمعدلات %20 و%14 و%1 على التوالي(15). وإذا ما كانت مسوح ودراسات تعرّضت للأمن الغذائي في سوريا، معظمها من قِبل منظمات الأمم المتحدة، تشير إلى أن وضع الأمن الغذائي في سوريا قد تحسّن في أجزاء كثيرة من سوريا بعد 2018، نظرًا إلى  تحسّن الحالة الأمنية والقدرة على النفاذ إلى الأسواق، إلا أنّ الحالة العامة ظلّت متردية، سواء بسبب استمرار الحرب في بعض المناطق (الحسكة والرقة وحلب والقنيطرة ودير الزور وإدلب والغوطة الشرقية والرستن وأحياء من مدينتي دير الزور وحلب)، أو بسبب الغلاء الفاحش الذي يضعف النفاذ إلى الغذاء حتى في مناطق لم تكد تشهد حربًا وفيها مستويات عالية من الوفرة ( اللاذقية والسويداء وطرطوس).

   لم يكد يبقى جانب أو تفصيل لم يتأثّر على نحو كارثي مقارنة بالعام2010 ، من الناتج المحلي الزراعي النباتي والحيواني الذي انخفض في عام 2014 بحوالى % 50؛ إلى إنتاج القمح الذي انخفض من 3083 ألف طن عام 2010 إلى2024  ألف طن عام2014  وعاد إلى التحسن في عام2015  إلا أنه تدهور بشكل حاد ليصل إلى حوالي 1227 ألف طن سنة 2018؛ إلى إنتاج القطن الشوندر، وهما من أبرز ضحايا النزاع، فقد انهار إنتاج هذين المحصولين اللذين يحتاجان إلى ري غزير وعناية خاصة؛ إلى أعداد الأغنام التي انخفضت من18  مليون في العام2011  إلى 8 مليون تقديرياً في العام 2018، وكذلك بقية الماشية والدواجن، وهي خسارة هائلة لهذه الثروة التي نمت وتراكمت عبر عشرات السنين؛ إلى إنتاج الطاقة الكهربائية الذي تراجع بحوالى 59% في عام 2016؛ إلى تضخم وسطي الأسعار أكثر من ثمانية أضعاف بين 2010- 2017، وأضعافًا مضاعفة بعد ذلك مع انهيار قيمة العملة السورية وعدم تشكيل الأجور الحقيقية قيمة تُذكر في عام 2010؛ إلى ارتفاع معدلات الفقر والحرمان إلى مستويات خطيرة وصلت إلى %93.7 في نهاية عام2017 ، بينما بلغ الفقر المدقع معدل % 59.1 في العام نفسه؛ إلى الانخفاض الحاد في المساحات المروية، فعلى الرغم من وجود1.6  مليون هكتار قابلة للري من أصل4.6  مليون، فإنَّ أقلّ من500  ألف هكتار هي التي سُقيت خلال عامي2017  و2018 منها300  ألف سقيت من الشبكات العامة، مع تزايد في أعداد الآبار غير المرخصة، بعد عام 2013؛ إلى تعرّض الأراضي الزراعية لمختلف أنواع الأسلحة وانتشار أنشطة تكرير النفط بالطرق البدائية في المنطقة الشرقية، ما أدّى إلى تلوث كبير في الأراضي الزراعية ومصادر المياه المحلية؛ إلى الخلل الواضح في التركيب الغذائي، إذ يشكّل الخبز %54 من التركيب النسبي للغذاء في حين لا تشكل الخضراوات سوى%21؛ إلى تراجع إمكانية الحصول على مياه شرب نظيفة من89.1%  قبل النزاع إلى32.6%  في أثناء النزاع؛ إلى تراجع مؤشر توفر غاز الطهي الذي هو من الأساسيات لضرورة طهي الطعام وتناوله من98.3%  قبل النزاع إلى % 38.3في أثناء النزاع؛ إلى تدهور مكون الاستقرار بنحو25%  بين  2010و 2014واستمراره نتيجة زيادة الاعتماد على الاستيراد والمساعدات وتردي الظروف المعيشية ومصادر الدخل للأفراد(16). وليس هذا كلّه سوى مجرد أمثلة وغيض من فيض.

   يجعل كلُّ هذا من سوريا مثالًا صارخًا على دمارٍ ليس ما شاع من صور المدن والأحياء المدمرة سوى رأس جبل الجليد منه. وخلف الأرقام والبيانات، فإنّ الأخطر الذي تشير إليه هو أنَّ المحدِّد الأكثر أهمية للأمن الغذائي هو ما يدعوه تقرير المركز السوري لبحوث السياسات بـ”الأداء المؤسساتي للقوى المسيطرة” في كلّ منطقة، إذ العلاقة إيجايبة إحصائياً بين حالة الأمن الغذائي ووجود المؤسسات وسلوكها وعدم تمييزها بين السكّان(17). وهو ما يمكن إعرابه، في ضوء الواقع المتردي لجميع المناطق، حتى تلك التي تعتاش على الحقن الخارجية، بأنّ القوى السائدة المناهضة للنظام لا تختلف عنه جوهريًا، فما بالك بأن تكون نقيضًا له. وهذا ما يعود بمشروع التغيير الوطني الديمقراطي عقودًا، على الأقلّ، إلى الوراء. ويُدخله في ضرورات مراحل انتقالية إسعافية عديدة وثقيلة، أقلّها وأولها وقف الحرب، وإنهاء الاحتلالات والتدخلات الخارجية، واستعادة وحدة البلاد، كجزء صار لا يتجزأ من استئناف مشروع التغيير الوطني الديمقراطي الذي لطالما كان المساهمة النظرية والنضالية الكبرى التي قدّمها الوطنيون الديمقراطيون واليساريون السوريون وأَنْمُوهَا على مدى عقود منذ أواخر ستينيات القرن الماضي إلى الآن. 

ثائر ديب – سورية

المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الخامس: “الحرب والسيادة الغذائية في المنطقة العربية“. يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من: الرابط

1-  Philip McMichael, Food Regimes and Agrarian Questions, Practical Action Publishing Ltd, 2021, pp. 47, 53, 81.

2- Via Campesina, ”A response to the global food crisis: Sustainable family farming can feed the world.” Press release, February 15, 2008, p. 8.

3- Nicholson, P. 2008. “Via Campesina: Responding to global systemic crisis.” Development 51, 4: 456–59.

4- Via Campesina,  2008.

5- فؤاد مرسي، هذا الانفتاح الاقتصادي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1976، 123-126.

6- ثائر ديب، “الثالث الغائب: أو عن ثورة بلا ثوّار”، على: https://www.awanmedia.net/article/5440.

7- محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015الدوحة-بيروت، 2015، 4-6. 

8- سلافوي جيجيك ، “سورية صراعٌ زائف”، ترجمة ثائر ديب، السفير العربي، على: https://assafirarabi.com/ar/3627/2013/09/19/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D9%8C-%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D9%81

9- المركز السوري لبحوث السياسات، الأمن الغذائي والنزاع في سوريا، 2019، 6. يُنظر على: https://scpr-syria.org/ar/%D8%A5%D8%B7%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B0%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86-%D8%A7-%D8%B2%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3

10- مركز كارنيغي للشرق الأوسط، “انعدام الأمن الغذائي في سورية التي مزّقتها الحرب: “من الاكتفاء الذاتي طوال عقود إلى الاعتماد على الواردات الغذائية”،ورقةأُعِدَّت في عام 2014 وجرى تحديثها في آذار/ مارس 2015 في إطار “مشروع إعادة الإعمار الاقتصادي في سورية 2013-2014 ” الذي يديره مركز كارنيغي للشرق الأوسط. تُنظر على: https://carnegieendowment.org/research/2015/06/food-insecurity-in-war-torn-syria-from-decades-of-self-sufficiency-to-food-dependence?lang=ar

11- هذه الأرقام منقولة عن برنامج الغذاء العالمي 2021، في “التحديات الراهنة للأمن الغذائي وسبل تعزيز الخبرات الزراعية”، تقرير عن  ورشتي عمل تشاركيتين نظمتهما جامعة سسسكس ومنظمة كارا وخبرات أكاديمية سورية في شهر أيلول 2021 في إطار مشروع مدونة” أصوات زراعية سورية” في كل من مدينة سرمدا في محافظة ادلب وفي مدينة اعزاز في محافظة حلب. يُنظر على: https://agricultural-voices.sussex.ac.uk/wp-content/uploads/2021/11/Report-on-Workshops-in-NW-Syria-SEPT-21_-Arabic.pdf

12-  المركز السوري لبحوث السياسات، الأمن الغذائي والنزاع في سوريا، 2019، 14.

13- المصدر السابق، 7.

14- المصدر السابق، 38.

15- المصدر السابق، 39.

16- المصدر السابق، 41، 42، 43، 45، 47، 54، 61. يُنظر أيضًا: “التحديات الراهنة للأمن الغذائي وسبل تعزيز الخبرات الزراعية” و”انعدام الأمن الغذائي في سورية التي مزّقتها الحرب: من الاكتفاء الذاتي طوال عقود إلى الاعتماد على الواردات الغذائية”، مذكورين من قبل.

17- المركز السوري لبحوث السياسات، الأمن الغذائي والنزاع في سوريا، 2019، 69.