الاستحواذ على الأراضي في مصر: حول النموذج التنموي واستدامة الموارد



“بعضهم قد يسرقك بالسلاح، وبعضهم قد يسرقك بجرة قلم “

وودي جوتيريه – مغني وكاتب أغاني أمريكي – من أغنية pretty boy floyd

تحتل الأرض مكانة مميزة في المخيال الاجتماعي لفلاحي مصر – وخاصة الصغار منهم- حيث تلعب دورا ثقافيا واجتماعيا قبل دورها الاقتصادي الأساسي بوصفها عاملا من عوامل الإنتاج. على العكس من النظرية النيوليبرالية التي تعتبر الأرض سلعة، ما يهمل العديد من الأبعاد الأخرى خاصة البيئية والاجتماعية، بالتالي وحين يتم الاستيلاء على تلك الأراضي من قبل الشركات العالمية أو المحلية أو مجموعات رجال الأعمال شديدي الصلة بالسلطات السياسة فإن هذا الاستيلاء – في الخطاب الاقتصادي للنيوليبرالية- لا يعدو كونه استثمارا زراعيا.

نسعى في هذا المقال إلى تتبع عمليات الاستحواذ الأخيرة على الأرض في مصر، وكيف تتموضع تلك العمليات في الاقتصاد السياسي الزراعي لمصر ومنطقة الشرق الأوسط، خاصة أن الفاعلين الأساسيين في عمليات الاستحواذ هي تحالفات لشركات مصرية خليجية ؟وكيف تلعب أجهزة الدولة المختلفة أدوارا داعمة لعمليات الاستحواذ على الأرض؟

تاريخ موجز للأرض في مصر

منذ المحاولات الأولى لإدماج الزراعة المصرية في المنظومة الرأسمالية منذ ما يقرب من 200 عام مع دولة محمد علي، نشأت عملية الاستحواذ على الأراضي، كانت الدولة والتي أرادت وقتها احتكار المجال الاقتصادي في بلد زراعي تريد بعملية الاستحواذ تعبئة الموارد من أجل خدمة مشروع محمد علي التوسعي في المنطقة.

سرعان ما شكل محمد علي نخبًا جديدة قامت عن طريق منح الأراضي  لعدد من الأشخاص أو احتكاره هو وأسرته لاحقًا لجزء كبير من الأراضي الزراعية في مصر.

تشكلت بذلك نواة للبرجوازية الزراعية، استطاعت بعد ثورة 1919 أن تعرف مصالحها جيدا وتبدأ في التخطيط طويل الأمد لزيادة مساحة الرقعة الزراعية والخروج من وادي النيل الضيق. ومع ثورة 1952 وبداية الثورة الخضراء، زادت وتيرة الاستصلاح الزراعي كضرورة أملتها الزيادة السكانية. طوال تلك السنوات كانت الحكومة المصرية تروج لخطاب أن الاستصلاح الزراعي ضرورة من أجل توفير أمن مصر الغذائي، وهو ما جعلها تحاول إدماج قدر لا بأس به من صغار الفلاحين في تلك المشروعات.

بدأ الأمر مع عبد الناصر الذي أعطى نظامه، ضمن سياسة الإصلاح الزراعي، أولوية لصغار ومتوسطي الملكية الزراعية في تملك تلك المشروعات وخاصة مشروعات مثل مديرية التحرير في صحراء محافظة البحيرة.

لكن سرعان ما ستتخلي الدولة، بفعل تغير البوصلة الاقتصادية والسياسية نحو النيوليبرالية بداية من التسعينات، عن ذلك. فمع مجيء مبارك في الثمانينات روجت الحكومة لمشاريع الاستصلاح الزراعي على أنها يمكن أن تكون حلا لمشكلة البطالة لدى الشباب وخاصة خريجي الجامعات. لكن مبارك سيلجأ لاحقا إلى التخلي عن تلك الاستراتيجية والتركيز على دفع الزراعة المصرية للتحول لنموذج يعتمد على المزارع الكبرى .

لقد تخلى مبارك تدريجياً عن الاستثمار في دعم صغار الفلاحين ومشاريع الاستصلاح الزراعي للشباب، في مقابل تخصيص مساحات واسعة من الأراضي الصحراوية للاستثمار الزراعي. كانت الفكرة بسيطة، من أجل أن نصدر المنتجات الزراعية التي تحتاجها أوروبا وأسواق الخليج علينا أن نبحث عن مستثمرين، فبرزت مجموعات المصالح من المستثمرين المحليين أولا في مجال الاستثمار الزراعي منذ الثمانينات، وحصل هؤلاء على دعم هائل من الدولة في مقابل تقلص الدعم الموجه لصغار الفلاحين الذين يمثلون الأغلبية الساحقة للقطاع الزراعي.

تشكلت إذن في عصر مبارك نخب اقتصادية قائمة على انتزاع القيمة من القطاع الزراعي، استفادت تلك النخب من رجال الأعمال والمستثمرين من دعم مادي هائل من الدولة عن طريق توفير المياه بأسعار بخسة من أجل ري محاصيل موجهة للتصدير، وبيع الأراضي بأسعار بخسة أيضا وبطرق ملتوية كان لآليات الفساد والمحسوبية الدور الأبرز فيها، وبلا مراعاة لأي اشتراطات بيئية حيث تعمد تلك الشركات للاستغلال الجائر للأراضي عن طريق زراعة قطع صغيرة 5-10 ألاف فدان واستغلال الأرض في محاصيل تصديرية مرهقة للقدرات الإنتاجية الطويلة للأرض والانتقال لقطعة أخرى وهكذا .

الشركات الخليجية والاستحواذ على الأراضي في مصر

لا يمكن تتبع الحجم الدقيق لعمليات استحوذ رؤوس الأموال الخليجية على الأراضي في مصر، لأن تلك الشركات تدخل في تحالفات معقدة من الشركات الصغيرة من أجل الاستثمار في الزراعة في مصر، وغالبا ما تكون تلك التحالفات مع شركات استثمار زراعي محلية كبيرة مثل الفتح والمغربي ودلتاكس والتي توجه استثماراتها الكبرى في تصدير المحاصيل النقدية خاصة البصل – والبطاطس والموالح.

لكن وبحسب موقع مصفوفة الأرض بالانترنت، المتتبع لعمليات استحواذ الشركات الكبرى على الأراضي، استحوذت هذه على حوالي 450 ألف فدان(182 ألف هكتار) عبر 14 عملية استحواذ استطاع الموقع الوصول لبيانات حولها. تشكل تلك المساحة ما يقرب من 4 % من المساحة المزروعة في مصر البالغة 10 مليون فدان . أما أبرز الشركات الخليجية التي تعمل في القطاع الزراعي المصري فهي:

  • شركة جنان الإماراتية، المستحوذة على ما يقرب من 150 ألف فدان في مصر في مناطق مختلفة، آخرها في شرق العوينات، ضمن مشروع طموح تبنته الدولة للاستصلاح الزراعي يهدف لإضافة مليون ونصف فدان للمساحة الزراعية في السنوات القادمة.
  • شركة الظاهرة الإماراتية، المالكة ما يقرب من 120 ألف فدان في مصر، لكن المساحة المزروعة منها تناهز 20 ألف فدان فقط حاليا، يُزرع معظمها بالموالح وخاصة البرتقال من أجل التصدير إلى الإمارات ودول الخليج الأخرى.
  • شركة الراجحي السعودية المستحوذة على 100 ألف فدان من مشروع توشكي في جنوب مصر.

بحسب تحقيق صحفي أجرته مدى مصر، تبلغ مساحة توشكي الحالية 405 ألف فدان، منها 100 ألف فدان لصالح شركة الراجحي السعودية، و100 ألف أخرى لشركة الظاهرة الإمارتية، بالإضافة إلى 25 ألف فدان تحت ولاية جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، بعد شراء المساحة من شركة «المملكة للتنمية الزراعية» المملوكة للوليد بن طلال في 2017. ويقع 62 ألف فدان في حوزة شركة جنوب الوادي للتنمية، و92 ألف فدان تم تخصيصها مؤخرًا لشركة الريف المصري، وكلاهما شركات استصلاح زراعي تابعة للدولة المصرية. كما خصص 10 آلاف فدان لوزارة الإسكان لإقامة مدينة توشكى الجديدة. ويوجد حاليًّا 16 ألف فدان لم يتم تخصيصها بعد. إذن، تستحوذ شركتان خليجيتان فقط هما شركتا الراجحي والظاهرة الإماراتية على نحو 49.4% من أراضي المشروع.

كانت الشركات الخليجية مدفوعة في عملية الاستحواذ على الأراضي في دول مثل مصر والسودان وأثيوبيا باستراتيجيات قومية للأمن الغذائي تواجه بها شح المياه في تلك الدول، فعمليا لا تشتري تلك الشركات الأرض ولكن المياه التي تروي الأرض، أو ما يسمي بالمياه الافتراضية.

الفكرة تبدو بسيطة، معظم السلع الزراعية والصناعية تستهلك مياه من أجل أن تنتج، بالتالي خفض كلفة المواد بالاستحواذ على مصادر المياه نفسها. يعني ذلك أن الشركات الخليجية التي تشتري في مصر المتر المكعب من المياه بمتوسط 2 جنيه ( حوالي 12 سنت) تحقق أرباحا مهولة. إن لدى مصر مشكلة في المياه الافتراضية تلك، إذ تستورد سنويًا، حسب التقديرات شبه الرسمية، زهاء 40 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية عبر استيراد السلع الزراعية والصناعية ، ومن أهمها القمح.

إننا هنا إزاء تناقض صارخ، حيث تؤمن المياه المصرية الأمن الغذائي لدول الخليج العربي، فيما يتحمل عجز الميزان التجاري المصري كلفة استيراد السلع الزراعية والصناعية التي يحتاجها المواطن المصري بأسعارها العالمية. تستهلك شركة الراجحي السعودية وشركة الظاهر الإماراتية حوالي 210 مليون متر مكعب من المياه سنويًا لزراعة 29 ألف فدان من الأراضي التي تمتلكها في مشروع توشكي ، تلك الكمية من المياه تكفي لزراعة ما يقارب 84 ألف فدان من القمح لإنتاج نحو 62 ألف طن من القمح .

نموذج غير مستدام

لا يمكن النظر لعمليات الاستحواذ على الأراضي، سواء من قبل الشركات الأجنبية في الحالة المصرية ( الشركات الخليجية) أو من قبل المستثمرين الزراعيين المحليين، سوى عبر عدسة النموذج التنموي التي تطرحه النيو ليبرالية والذي يُسلّع الغذاء ويتعامل معه كمصدر أساسي للربح، بدون النظر إلى اعتبارات أخرى، لاسيما في دول مثل مصر تعاني معدلات مرتفعة من سوء التغذية. تلعب النيوليبرالية، التي يقف وراءها القطاع الخاص والنخب السياسية المرتبطة برجال الأعمال وحتى المؤسسات الدولية الكبرى، دور المنشأ للهياكل الحاكمة التي تنظم عمليات الزراعة.

تمثل علاقات القوة في عملية صنع السياسات العامة المتعلقة بالغذاء مشكلة أساسية، حيث تميل دائماً للتفكير بمنهج مؤسسات بريتون وودز ( البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) وغيرها من المؤسسات الدولية. بالتالي، فإن تلك المؤسسات تجنح دائما إلى ممارسة سلطتها عبر التأثير في عملية صنع وإدارة وتمويل وتنفيذ السياسات، بطريقة تخدم بالطبع مصالح تلك المؤسسات.

يتلقى أيضاً القطاع الخاص في تلك الدول – والذي غالبًا ما يكون شديد الصلة بالنخبة السياسية – الكثير من الدعم المالي والمؤسسي، يمتلك القطاع الخاص أيضاً القوة السياسية اللازمة من أجل جعل السياسات الغذائية تخدم مصالحه المباشرة.

في ديناميات القوة تلك، ينتج الفلاحون الكثير من الغذاء استجابة لتطورات السياسات الزراعية، لاسيما المتعلقة بالتصدير . لكنهم لا يجنون، بفعل قلة ما لديهم من القوة والتأثير في السياسة العامة، فوائد تذكر من تلك السياسات. يرجع ذلك بشكل أساسي إلى اختلالات السوق التي لا تعالجها النخب الاقتصادية. لا توجد حدود دنيا لأسعار بيع الفلاحين محاصيلهم، ولا يوجد دعم حكومي لتعويض انهيارات الأسعار المتكررة إلى ما دون كلفة الإنتاج. ومع ذلك، يتعين على صغار المزارعين ، في ظل الاقتصاد الحر، أن ينافسوا الشركات الكبرى، المتحالفة بدورها مع النخب السياسية المحلية. ومن ثمّ لا يحدد هؤلاء الفلاحون الصغار الأسعار، ولا يحصلون على دخل إضافي من ذلك الاستثمار الزراعي الكبير المعتمد معظمه على عمالة أقل.

يمكننا القول إن السياسات الغذائية والزراعية المرتكزة على تحديث الزراعة وأجندة التصنيع الزراعي واستخدام التقنيات الحديثة في الزراعة، يجري تصميمها وتنفيذها بطريقة تفيد المستثمرين والشركات والنخب المحلية. يستخدم هؤلاء الفاعلون قوتهم ومواردهم لنزع ملكية الفلاحين الصغار والحد من نفاذهم للأراضي. يقوض هذا أنظمة إنتاج الغذاء بشكل عام، وخاصة فيما يتعلق بالاستدامة والشمول، من خلال تهميش تلك الأنظمة للفلاحين الصغار وتعزيز هيمنة النخب الاقتصادية المحلية والعالمية على عملية الإنتاج الزراعي التي تقع في القلب منها نُظم حوكمة الأراضي.

تمثل إذن نماذج الزراعة التصديرية التي أسلفنا الحديث عنها معوقا رئيسيًا في سبيل بناء نموذج زراعي مستدام يحقق المكونات المختلفة للاستدامة سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية. و يمثل المكون الأخير تحديا على نطاق عالمي وليس في مصر وحدها. يمكن هنا للسيادة الغذائية أن تقدم لنا يد العون من أجل بناء نظم أكثر استدامة في عمليات إنتاج الغذاء، فمن خلال الاعتماد على دعم الفلاحين والزراعات الصغيرة، في مقابل تلك المزارع الكبيرة، يمكن أن تتحقق الاستدامة. ذلك لأن عمليات استغلال الموارد أكثر عقلانية في المساحات الصغيرة، لأن هؤلاء الفلاحين يقومون ببناء خياراتهم المزرعية- مثل ماذا نزرع ؟ وكيف ؟ ولماذا نزرع؟ – بناء على اعتبارات أوسع لمفهوم المنفعة الاقتصادية. تلك الخيارات المزرعية والاعتبارات غير الاقتصادية التي يتبناها الفلاحون، وإعادة تعريف القيمة التي يقوم بها الفلاحون الصغار في مصر، تمثل لبنة في طريق بناء السيادة الغذائية. فكما أشرنا يعبر مفهوم السيادة الغذائية الذي تبنته حركة طريق الفلاحين العالمية – بيا كامبيسينا- عن حق المجتمعات المحلية في غذاء صحي وملائم ثقافيًّا، ينتج من خلال أساليب صحيحة ومستدامة بيئيًّا، وحقها في تحديد نظمها الغذائية والزراعية. وتضع تطلعات أولئك الذين ينتجون ويوزعون ويستهلكون الغذاء في قلب النظم والسياسات الغذائية بدلًا من الطلب في الأسواق والشركات. وتدافع عن مصالح وحقوق الأجيال المقبلة من البشر في غذاء صحي مستدام وينتج بطريقة لا تستنزف الموارد المحدودة للبيئة.

محمد رمضان – مصر


المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثاني لمجلة “سيادة

الإطلاع على العدد وتحميله من: هنا