التغير المناخي وتملّح الأراضي يعمقان معاناة فلاحي دلتا النيل



ظهرت في العقود الأخيرة علامات تملّح التربة في بعض أراضي دلتا النيل بمصر، نتيجة لأسباب طبيعية وبشرية متشابكة ومعقدة، تغذيها ببطء التغيرات المناخية. فحولت مزارع كانت يومًا خصوبتها سبيل الحياة لملايين المصريين، إلى أراضٍ جافة محدودة الإنتاجية، ومُقيدة لأنواع المحاصيل، لتهدد بذلك مصير صغار الفلاحين الذين اتخذوا منها مصدر رزقهم، والمصريين الذين عاشوا على جودها.

تملّح التربة الزراعية

المشكلة قطعًا ليست محلية، فنحو 8.7 % من أراضي كوكب الأرض متأثرة بفعل الملوحة، وفقَا إلى خريطة أعدتها “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة” “فاو”.

وفي مصر، تأثرت أخصب الأراضي الزراعية بتملح التربة، إذ تراكمت أنواع متعددة من الأملاح الذائبة في المياه حول جذور النباتات عبر عشرات السنين، لترتفع تركيزاتها بشكل تدريجي، ويمتد أثرها، حتى وصل إلى حوالي ربع أراضي الدلتا، حيث يعيش نحو 95% من سكان مصر.

يظهر التملح بشكل خاص، وفقًا إلى دراسات، في شمال الأراضي المصرية، وبالقرب من ثلاثة من أهم مسطحات البحيرات الشمالية؛ البرلس بمحافظة كفر الشيخ، وإدكو بمحافظة البحيرة، والمنزلة بمحافظتي الدقهلية وبورسعيد.

الأسوأ، في حالة مصر، هو مدى هشاشة النظام البيئي في منطقة دلتا النيل، وهو ما يُعرضها إلى أخطار متزايدة، كنتيجة للتغير المناخي العالمي.

تأثير التغيرات المناخية على الأراضي المصرية

تظهر مصر في أبحاث تغير المناخ كواحدة من أكثر الدول عرضة لارتفاع مستوى سطح البحر الكارثي، وخاصة منطقة شمال الدلتا. بالفعل، واجه الفلاحون في محافظات الشمال، ملوحة مرتفعة في أراضيهم، كنتيجة لأسباب معقدة، تفاقمها.

الأسوأ، في حالة مصر، هو مدى هشاشة النظام البيئي في منطقة دلتا النيل، وهو ما يُعرضها إلى أخطار متزايدة، كنتيجة للتغير المناخي العالمي.

تتجاوز التغيرات المناخية، ما يجعل سبل حلها تفوق قدراتهم الاقتصادية، وتدفع الدولة، وفقًا لتصريحات مسؤوليها، إلى الاستثمار في الصحراء، عوضًا عن وادي الدلتا بمشاكله، و الذي قالت دراسة صادرة عن “فاو” العام الماضي، إن مساحته الزراعية ستنكمش نتيجة إلى ارتفاع مستوى سطح البحر وتزايد الضغوط البشرية.

فكيف وصلنا إلى هذا؟

يمكن تصنيف الأسباب إلى نوعين، أسباب طبيعية، وأخرى ناتجة عن التدخل البشري. الأسباب الطبيعية المستمرة منذ عقود تتعلق بارتفاع مستوى سطح البحر تأثرًا بتغيرات المناخ، ما يسمح بتسرب مياه البحر عن طريق ممرات المياه الجوفية إلى عمق أرض الدلتا، ثم ترتفع إلى سطح التربة، حيث تتبخر المياه، مخلفة طبقة من الملح على الأرض، تتزايد عبر السنوات. لعل هذا العامل ليس الأكثر وضوحًا بين العوامل الأخرى، لكنه عامل أساسي، ثابت، قوي، ومستمر.

التدخل البشري يسرّع من التملح

قبل بناء السد العالي بأسوان، جاءت الفيضانات الموسمية محملة بالمياه العذبة والطمي، لتجرف الأولى الأملاح، بينما تتراكم الثانية على ضفاف الدلتا وساحلها الشمالي، لتجدد الحائط الذي يمنع تسرب المياه المالحة، وفي الوقت نفسه، تمد الأراضي بخصوبة هائلة. وفي عام 1968، بدأ السد العالي بأسوان في احتجاز المياه خلفه؛ للسيطرة على الفيضانات، والاحتفاظ بالمياه لفترات الجفاف، وإنتاج الكهرباء، واستصلاح الأراضي. قام السد بعمله، وأنقذ مصر من موجات جفاف، ونظم عملية الإنتاج الزراعي، لكنه في الوقت نفسه، تسبب في دفع كرة الثلج.

حجز السد العالي، وسد أسوان الذي بناه الإنجليز في مطلع القرن الماضي، مع المياه ملايين الأطنان من الطمي القادم من الهضبة الإثيوبية مع الفيضان. ومع توقف الطمي، بدأ صغار الفلاحين في استخدام الأسمدة الكيميائية كبديل لرفع خصوبة الأرض، ما رفع تكلفة إنتاج المحاصيل، وساهم في تلوث مياه المصارف والتربة بالمخلفات الصناعية المليئة بالأملاح. أوقف السد أيضًا تراكم الطمي في الدلتا، ليتركها عرضة للبحر والتآكل والغرق.

الأزمة تتعمق في ظل نقص الموارد المائية

استمرت آثار التملح في الظهور رويدًا، لكن، تزايد عدد السكان، وثبات موارد مصر المائية، أدى إلى انخفاض شديد في نصيب الفرد من المياه، ليصل إلى 585 متر مكعب، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ سبعة آلاف متر مكعب. لذلك، بدأت الحكومات المصرية في تطبيق إجراءات للحفاظ على معدلات استهلاك المياه، خاصة مع مخاوف تأثيرات سد النهضة الإثيوبي.

ومع تطبيق هذه الإجراءات، زادت معدلات انقطاع مياه الري لفترات طويلة. يروي فلاحو الدلتا أراضيهم من خلال أدوار، في نظام يسمى المناوبات. وفي هذه النظام تسمح وزارة الري بفتح المياه لجزء من الأراضي لعدة أيام، ثم تغلقها، وتسمح بها لصالح مساحات أخرى وهكذا. لكن بمرور السنوات تزايدت فترات تأخر المناوبات، ما دفع صغار الفلاحين للاعتماد على خزانات المياه الجوفية ومياه المصارف لري أراضيهم.

تعد المياه الجوفية بدلتا النيل، أهم الخزانات المتجددة في مصر، إذ تعتبر ثاني أهم مصدر للمياه العذبة بعد حصتها من نهر النيل، وخاصة في منطقة الدلتا. لكن سحب المياه الجوفية غير المدروس سبب تسريب المياه المالحة إلى الخزانات الجوفية، وبالتالي إلى التربة، فضلًا عن ذلك تأثرت معدلات الخزان الجوفي بشدة.

من ناحية أخرى، تسببت مياه المصارف غير المعالجة التي ارتفع اعتماد صغار الفلاحين عليها في تراكم مزيد من الأملاح بالتربة.

وعلى الرغم من اتجاه الحكومة المصرية إلى تشييد مشروعات معالجة لمياه الصرف الزراعي والصحي لاستخدامها في الزراعة، لا تفلح عملية معالجة المياه الثنائية، التي تعتمد عليها معظم هذه المشاريع، في تنقية المياه، بما يكفي، من الأملاح، ما راكم أملاح أكثر في التربة.

الفلاحون في مواجهة التغير المناخي

وفي ظل غياب دور الدولة لسنوات، بدأ الفلاحون في التعامل مع المأزق بمفردهم، فلجأوا إلى حلول فردية لمواجهة تملح تربة أراضيهم، بطرق منخفضة التكلفة نسبيًا، مثل شراء الرمال ووضعها على الأرض لرفعها بشكل صناعي كما حدث في بعض قرى مدينة رشيد بمحافظة البحيرة، أو اللجوء لزراعة محاصيل تتحمل الملوحة، أو غمر الأراضي بالمياه العذبة لتخفيف الملوحة.

ومع تعمق مخاوف نقص المياه، أدركت الدولة مدى جدية الأزمة، وبدأت في اتخاذ إجراءات أشد صرامة للحفاظ على الموارد المائية، بالتزامن مع محاولتها للحد من تملح التربة.

إجراءات حكومية لتخفيف آثار تملح الأراضي

أحد أهم الإجراءات التي نفذتها الحكومة هي السيطرة على الزراعات المستهلكة للمياه بكثرة. على سبيل المثال قصرت الحكومة زراعة الأرز على المحافظات الأكثر تأثرًا بالتملح والقريبة من السواحل، وحددت المساحات بشكل صارم، وحظرت بقية المحافظات من زراعته، ووضعت عقوبات تصل للحبس للمخالفين.

دلتا النيل

ستلبي مساحات زراعة الأرز احتياجات المواطنين الغذائية ، وفي الوقت نفسه ستتكفل مياه الري الغزيرة بغسل التربة من الأملاح، خطة محكمة وجيدة في الواقع، لكن، المحافظات التي مٌنعت من زراعة الأرز أو تم تخفيض المساحات بها، تعاني من الصرف الأرضي السيئ وتسرف في استخدام الأسمدة أيضًا، لذا فهي تعاني من التملح، بدرجة أقل.

كانت محافظة الغربية أحد المحافظات التي خفضت مساحات الأرز بها. أدى ذلك إلى تملح عدد من الأراضي، ما دفع بعض صغار الفلاحين إلى التخلي عن الزراعة تمامًا، نظرًا لانخفاض العائد منها مقابل تكلفة إنتاجها، وفقًا لبعض صغار الفلاحين بالغربية.

منظومات صرف زراعي متهالكة يتحمل الفلاحون عبء تجديدها

ومن جهة أخرى، بدأت الحكومة العمل بشكل بطئ على تطوير شبكات الصرف الزراعية العادية، واستبدالها بشبكات ري أحدث، باعتبار أن شبكات الصرف الزراعي أحد أهم وأكثر الطرق كفاءة في مواجهة التملح، من خلال صرف المياه الزائدة بالتربة ومعها الأملاح.

لكن العديد من صغار الفلاحين تكفلوا بتغيير نظم الصرف بأراضيهم مرة أخرى، بعدما انهارت شبكات الري التي بنتها الدولة منذ سنوات قليلة، بحسب مزارعين في محافظات مختلفة. وتصل تكلفة شبكة الري للفدان(0.40 هيكتار) في الوقت الحالي نحو 25 ألف جنيه أو نحو 1300 دولار.

هذه التكلفة تجعل مقاومة تملح الأراضي ميزة تحددها قدرة صغار الفلاحين الاقتصادية، وستترك العاجز عن تحمل هذه التكلفة ليواجه منفردًا عواقب تملح أرضه، من انهيار المحصول وجودته، وأحيانًا بوار الأرض، خاصة مع احتياج شبكات الصرف للتجديد المستمر لضمان كفاءتها.

يحدث هذا في الوقت الذي لا تقدم الدولة أي مساعدات للمزارعين، ولم تقر حتى الآن اللائحة التنفيذية لقرار إنشاء صندوق التكافل الزراعي المخصص لدعم الفلاحين وتعويضهم في أوقات الأزمات، والذي أصدرته الحكومة عام 2015 ولم يٌفعّل حتى اليوم، رغم احتسابه ضمن إنجازات الدولة.

معوقات البحث العلمي في ظل ضعف التمويل

يكمن الحل الأخير والأصعب في تطوير أصناف زراعية ذكية مناخيًا، لتتحمل التغيرات البيئية، والأراضي مرتفعة الملوحة. لكن ذلك يصطدم بعوائق انخفاض ميزانية البحث العلمي إذ يحتاج العمل على تطوير أصناف المحاصيل الزراعية إلى سنوات طويلة، وتكاليف مرتفعة، في ظل احتكار شركات عالمية لسوق تطوير وإنتاج البذور.

على أي حال، يبدو هذا السبيل لا أمل قريب منه، رغم وجود الكفاءات، إذ لا تبدي مصر كبير اهتمام بمجال البحث العلمي. لم تتجاوز موازنة مركز البحوث الزراعية خلال العام المالي الماضي، 3.4 مليار جنيه، او ما يوازي 172 مليون دولار، تذهب كلها كمرتبات هزيلة للعاملين، وهو ما يدفع معظمهم للعمل في شركات خاصة.

يحتاج العمل على تطوير أصناف المحاصيل الزراعية إلى سنوات طويلة، وتكاليف مرتفعة، في ظل احتكار شركات عالمية لسوق تطوير وإنتاج البذور.

ورغم محدودية ميزانية مراكز البحوث، وضعف الإمكانيات، نجحت مصر في إنتاج بعض أصناف الأرز والقمح متحملة للرطوبة وللجفاف “إلى حدًا ما”، كما قال مدير مركز معلومات تغير المناخ، محمد فهيم، لكن طريق إنتاج هذا الصنف يواجه كل هذه المشاكل مجتمعة، وعلى رأسها تغيرات المناخ المتسارعة أكثر من المتوقع، يظل طويلا.

التحركات المصرية في مؤتمر المناخ

من ناحية أخرى، تعتبر الحكومة المصرية استضافة قمة المناخ COP 27، في نوفمبر القادم، أحد أهم أدواتها في مسعاها لمواجهة تأثيرات التغير المناخي العالمي السلبية على الأمن الغذائي القومي واستدامته، وتتخذ من المؤتمر منصة للبحث عن تمويلات لبعض مشاريعها التي قد تساهم في تحقيق أمنها الغذائي.

أحد أهم المناقشات خلال مؤتمرات COP، تدور حول تحمل الدول الصناعية المسؤولية التاريخية عن الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، والمطالبة بتعويضات ومشاريع تخفف من أثر التغير المناخي، الذي تتحمل إفريقيا تداعياته، فيما لم تسهم إلا بأقل من 4% من هذه الانبعاثات.

ولكن، على الرغم من أهمية التمويل والاتفاقيات الدولية لتعزيز أمن مصر الغذائي ودعم الاقتصاد المحلي، من شأن استمرار تجاهل الحكومة لتقييد الفساد البيروقراطي، وتغاضيها عن أولويات مساندة القطاع الزراعي ومساعدة صغار الفلاحين، مقابل اهتمامها بالقطاعات الاقتصادية الرأسمالية، أن يفاقم تدهور أحوال صغار الفلاحين وقطاعات المجتمع المصري الأكثر هشاشة.

تأثير اجتماعي

كما أن السماح للتأثيرات المختلفة بتدمير أراضي الدلتا التي تساهم وحدها بنحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، يهدد غذاء المصريين، وينذر بموجات هجرة ضخمة إلى المدن، فضلًا عن خسارة العاملين بالقطاع الزراعي وظائفهم والذين يمثلوا نحو 2.3% من السكان.

  • المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثالث لمجلة “سيادة” الكفاح من أجل العدالة المناخية والسيادة الغذائية.
  • الاطلاع على العدد كاملا وتحميله من الرابط.