في يوم من الأيام، هزّت ثماني عشر بقرة هيبة الجيش الإسرائيلي وصورته. فخلال السنة الأولى للانتفاضة الأولى، وبعد نقاشات وتخطيط وتحضير، اشترى أهل قرية بيت ساحور 18 بقرة من مزارع إسرائيلي، وهربوها من الداخل المحتل حتى القرية المتاخمة لبيت لحم. شكّل أهالي البلدة لجاناً شعبية، سعت لتطوير فكرة المقاومة ومقاطعة الشركة الإسرائيلية المصنّعة للحليب هناك، كخطوة أولى، بالإضافة إلى خلق بدائل للاقتصاد الفلسطيني وتحدّي الاحتلال وتحكّمه بحياة الناس. وحين كان لا بدّ من البحث عن مصدر بديل للحليب، وهو مادة أساسية في الغذاء اليومي، طُرحت فكرة تربية مجموعة من الأبقار في البلدة. وكان من الضروري إبقاء مكان وجودها، ورعايتها وتوزيع حليبها سراً، ومن خلال اللجان التي تقاسمت المهام، بين المراقبة وحماية البقرات والبحث عن مكان لها، وتدريب الناس على كيفية الاهتمام بها.
نتيجةً لذلك، شهدَت البلدة حصاراً عسكرياً لكسر إرادة الأهالي، والقبض على البقرات التي اعتُبِرَت تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي، في مطاردةً كاريكاتورية بالطائرات العسكرية للبقرات. فيما استمرّ الأهالي في تهريبها وتغيير مكانها مع الحفاظ على خط الإنتاج والتوزيع.
لطالما كانت السيادة الغذائية من أكثر أشكال الاستقلال استفزازاً للاحتلال، لما تحمله من تعاضد وتضامن وتخطيط بين الأهالي من جهة، ولقدرتها على جعل الشعوب الأصلية قادرة على تحمّل الاحتلال والحصار والتجويع من جهة أخرى.
وتشهد غزة اليوم، أسلَحة الوصول إلى الغذاء والمياه، من خلال استهداف البنى التحتية للقطاع الزراعي وتدميرها.
لسنين، جرى اقتلاع الأشجار الأصيلة وخلخلة المواسم الزراعية بهدف محو ما تبقى من آثار الوجود الفلسطيني التاريخي على الأراضي المحتلة. في غزة تحديداً، دمّرت الجرّافات الإسرائيلية أشجار الزيتون والحمضيات بشكل ممنهج، وأقامت «مناطق عازلة» بموازاة الجدار الفاصل، ما حدّ من إمكانية وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم الزراعية. فقبل السابع من أكتوبر\ تشرين الأول، كان حوالي نصف الأراضي في غزة أراضٍ زراعية، وقد دُمِّر 45% من هذه الأراضي اليوم، خلال الإبادة المستمرّة. وفي الضفة الغربية، منذ السابع من أكتوبر\ تشرين الأول حتى أوّل نيسان 2024، كانت إسرائيل قد اقتلعت وسمّمت أكثر من 9600 شجرة.
اليوم، وفي ظل الحرب المستمرة على غزة والضفة ولبنان بأشكال مختلفة، نقوم في هذا النص بعرض الخرائط والمعلومات والتحليلات التي توثّق الإبادة البيئية التي تقوم بها إسرائيل في لبنان، بالإضافة إلى التدمير الممنهج للأراضي الزراعية والبنى التحتية للقطاع الزراعي.
الإبادة الزراعية والبيئية
في لبنان وفلسطين، قام الاحتلال الإسرائيلي على ممارسات استعمارية استيطانية استخدمت كل الأدوات المُتاحة بهدف تدمير الشعبين وتهجيرهما وإبادتهما ومحو ثقافتهما وتاريخهما. وللإدراك الاستعمار قيمةَ العلاقة بين الشعوب الأصلية وبيئتها، وكيف تسمح هذه البيئة باستمرارية الشعوب وازدهار ثقافتها وبالتالي قدرتها على الصمود، كان للاستعمار باعٌ في تدمير النُظُم الإيكولوجية في فلسطين ولبنان. وسعياً لبتر علاقة الشعوب الأصلية بسبل عيشها، لطالما استهدف الاحتلال أيضاً القطاع الزراعي، لربط المزارعين والفلاحين به وبنظامه الاقتصادي، والسيطرة على السوق والتحكّم بالوصول إلى الغذاء، خاصةً وأن السيادة الغذائية هي جزء أساسي من استقلالية الشعوب وقدرتها على الاستمرار دون سيطرة المحتلّ.
ومنذ بداية الحرب على غزة، كان لبنان في مرمى الاعتداءات الإسرائيلية، سواء من خلال القصف المدفعي أو الغارات الجوّية أو غيرها. ولا تُعد هذه الاعتداءات جديدة على العدو الإسرائيلي الذي احتلّ جنوب لبنان منذ عقود، واجتاح عاصمة لبنان في الثمانينات، ولا يزال يحتل جزءاً من أراضي الجنوب. ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حرقت إسرائيل نحو 15.7 مليون متر مربع من الأراضي الحرجية والزراعية، وقتلت أكثر من 60 ألف شجرة زيتون بحسب إحصاءات المجلس الوطني للبحوث العلمية(1). وتعمّدت استخدام الفسفور الأبيض الحارق والمحرّم دولياً(2)، ما سبّب خللاً بتوازن الطبيعة وقضى على وسائل العيش البيئية والزراعية المحلّية.
تشكّل هذه الممارسات أوّلاً ما يعرف بـ «الإبادة البيئية»(3)، أي التدمير الواسع والمتعمّد للبيئة، بما يؤدّي إلى ضرر طويل الأمد لا رِجعة عنه، يشمل تعطيل النظم البيئية، وفقدان التنوّع البيولوجي، وتلوّث الموارد الحيوية، وتعريض المجتمعات البشرية للخطر، وحتى التسبّب بإبادة ثقافية من خلال عرقلة الطرق التقليدية لحياة السكّان. تتّسم «الإبادة البيئية» بقدرتها على الإخلال بالتوازن الدقيق للطبيعة، وهذا لا يعرّض البيئة للخطر فحسب، بل يهدّد أيضاً السكان الذين يعتمدون عليها من أجل معيشتهم والحفاظ على ثقافتهم. وعلى حد تعبير الباحث القانوني في مؤسسة «الحق»، أحمد أبو فول، فـ«الإبادة البيئية» الإسرائيلية في فلسطين هي سياسة أخرى من سياسات الفصل العنصري المفروضة على الشعب الفلسطيني.
كما تشكّل هذه الممارسات إبادة زراعية ممنهجة- بحسب الباحث بول كولبري agricultural annihilation- تسعى، ومنذ فترة طويلة، إلى تدمير سبل العيش الزراعية والأراضي والبيئة، بشكل يؤدّي إلى “خلق علاقات تبعية تسهّل، بدورها، حلقات متتابعة من انتزاع الملكية. لقد كانت الإبادة الزراعية جزءاً من إنشاء قطاع غزة، وأصبح سمةً أساسية للحياة في غزة منذ ذلك الحين”(4).
بدأت تعمل إسرائيل على طرد الرعاة ومنع الرعي في الأراضي العامة، وسلب ملكية المزارعات وبالتالي تغيير التركيبة الاقتصادية الاجتماعية للمناطق الريفية، بالإضافة إلى تجزئة الأراضي الزراعية، هادفةً إلى “منع أي احتمال للحياة الجماعية فيه في المستقبل”.
وبعيداً عن النقاش الدائر بشأن تعريف الإبادة البيئية كجريمة دولية، والإبادة الزراعية كعملية ممنهجة للقتل والتجويع، لا بدّ من الاعتراف بهما كاشتقاق للمشروع الصهيوني والاستعمار الاستيطاني.
فهل يصنَّف ما يحصل في لبنان اليوم كـ«إبادة بيئية وزراعية»؟ وكيف أثّرت، وما تزال، الأسلحة الفوسفورية المستعملة في جنوب لبنان من قبل الجيش الإسرائيلي على تدمير الأرض والماء والزراعة؟
إنتاج الخرائط كفعل سياسي
مرّ أكثر من 200 يوماً على اندلاع الحرب على الجبهة الجنوبية اللبنانية، التي خلّفت أضراراً لا تقتصر على الماديات في أكثر من153 بلدة، حيث سقط أكثر من 400 شهيد، بينهم 76 مدنياً ضمنهم أطفال وصحافيون ومسعفون وعنصر من الجيش اللبناني(5).
من هنا كان من الضروري بالنسبة إلينا في استوديو أشغال عامة(6)– كجهة بحثية منخرطة في الشأن العام- أن نفهم ونوثّق كيفية تأثّرت أراضي لبنان وسكّانه وسُبل معيشتهم بهذه الحرب. قررنا تجيير جزء من جهودنا في هذه المرحلة لإنتاج خرائط دورية توثّق الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان ونشرها(7). وقد صنّفنا الاعتداءات المرصودة بحسب توزّعها اليومي على البلدات وقطاعات جنوب نهر الليطاني، وبحسب أشكال القصف التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي (قذائف مدفعية، وغارات جوية، وقنابل مضيئة أو قنابل فسفورية). كما أظهرنا الفئات المستهدفة (مدنيون، وجيش، ومنازل، ومدارس، وأحراش وغيرها)، إضافةً إلى أعداد الشهداء من المدنيات- ين.
التأثير على البيئة
بالنظر إلى هذه الخرائط، نرى كيف خنقت إسرائيل السكان وقتلت الأرض والأنهار، باستخدام قنابل الفسفور الأبيض المحرّم دولياً، والذي سبق أن استخدمه في لبنان خلال أعوام 1982 و1993 و1996 و2006، في إبادة بيئية متعمّدة للإخلال بتوازن الطبيعة والقضاء على مقوّمات العيش المحلية البيئية والثقافية والزراعية. ويتسبّب الفوسفور الأبيض بآثار مدمّرة وطويلة الأمد على البيئة، تشمل تلويث المياه والتربة التي تصبح غير صالحة وحارقة لجلد المزارعين-ات عند اللمس لفترة طويلة(8). وفي حال لم تُحرق المحاصيل مباشرةً بواسطة التماس المباشر مع الفوسفور الأبيض، فإنها سوف تتأثر بالمكونات الكيميائية السامة الناتجة عنه والتي تنتقل إلى التربة والمياه الجوفية أو عبر الهواء. إذ يفرز الفوسفور الأبيض حمض الفوسفوريك في التربة، ممّا يؤدي إلى تقليل خصوبتها ويجعلها غير صالحة لزراعة المحاصيل في المستقبل، وهو ما يعرّضها لخطر التعرية. ويمكن أيضاً لبقايا المواد السامة أن تظلّ في التربة لسنوات عديدة، ممّا يؤدي إلى تحوّلها إلى سمة شبه دائمة للنظام البيئي، ممّا يؤثّر على الدورات البيئية المحلية. بذا تصبح المحاصيل الموجودة ملوثة، ويمكن أن ينتقل التلوث إلى طبقات المياه الجوفية ومصادر مائية أخرى، مؤثّراً على الحيوانات والبشر الذين يعتمدون عليها. في الحقيقة، في 29 أكتوبر/ تشرين الأول، أي بعد ثلاثة أسابيع تقريباً من بدء القصف على الجنوب، ظهرت تقارير عن مزارعين-ات في تلك المنطقة يعانون من توعّك بعد تناول محاصيل لم تتضرّر مباشرةً، ولكنها كانت قريبة جداً من مواقع أُلقيت فيها القنابل الفوسفورية(9). بالإضافة إلى ذلك، يُعدّ الفسفور الأبيض مادّة مسمّة للكائنات الحية، وقد يتسبّب بنفوق الأسماك والكائنات المائية والثدييات والطيور والحشرات، كما أنّه يؤثّر على الطيور المهاجرة التي تمرّ فوق لبنان خلال مواسم الهجرة. استخدمت اسرائيل هذه القنابل في 36 بلدة جنوبية خلال 68 يوماً من أصل 200 يوماً من الاعتداءات(10).
هذا وكانت وزارة البيئة اللبنانية قد أعلنت، في يناير/ كانون الثاني ٢٠٢٤، أنها عثرت على مستويات مرتفعة من المعادن الثقيلة و900 ضِعف الكمية الطبيعية من الفوسفور في التربة في المناطق الجنوبية التي ضربتها المدفعية الإسرائيلية وقصفتها بقنابل الفسفور الأبيض، وذلك إعتماداً على نتائج فحوصات أُجريت على خمس عيّنات أُخذت من تربة مواقع في جنوب لبنان تعرّضت لأنواع مختلفة من القصف بما في ذلك القذائف المدفعية والصواريخ على أنواعها والفوسفور الأبيض.
نستعرض في ما يلي قراءة للخرائط المتصلة بالقنابل الفوسفورية، ونهدف في توثيقها على نقل حدث لا يمكن فهمه بسهولة من خلال قراءة المقالات الطويلة بشكل مرئي، ويسهّل على الرائي فهم الرسائل السياسية. ونعتمد كباحثات التوثيقَ كأداة مواجهة، وأداة دعم تمكننا من استخدام كل الموارد التي يوفّرها البحث لمحاسبة إسرائيل في المحافل الدولية من خلال الشكاوى أو الدعاوى. يضاف إلى ذلك أن التوثيق أساسي لحفظ التاريخ ودحض روايات العدو وسردياته.
قراءة استراتيجيات الاستهداف بالفوسفوري عبر الخرائط
يواصل العدو استهداف المساحات البريّة والزراعية، من غابات وأحراش ومحميات طبيعية وأراضٍ زراعية وبساتين في جنوب لبنان، بمختلف أنواع الذخائر بما في ذلك قنابل الفسفور الأبيض والقنابل الحارقة المضيئة على ارتفاعات منخفضة، وفي وضح النهار، متعمداً حرق هذه المساحات وإلحاق الضرر بالتنوع البيولوجي وتدمير الزراعة كجزء من تكتيكات الحرب والاستعمار. ونرى تناسقاً إذا قارنّا مواقع الاستهداف بالفوسفور بمواقع الأحراج والأراضي الزراعية. ومن المعروف غنى الجنوب والمناطق الحدودية بالأحراش والأراضي الزراعية. وبالتالي، تُظهر مقارنة خريطة الاعتداءات بأي خريطة للتنوّع الزراعي والطبيعي في الجنوب أن تأثير الاعتداءات حتمي على المواسم الزراعية ومصدر عيش المزارعين وسكان المناطق، سواء من خلال تدمير المحاصيل وتلويث التربة أو من خلال منع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم و محاصيلهم. وإن اطلعنا على وتيرة الاستهداف بالفسفوري بالأيام على صعيد كل لبنان، نرى أن الاحتلال كان أثناء الأشهر الأربع الأولى من الحرب يستخدم الفسفوري على نطاق واسع. ويهدف الاستهداف الأولي للأراضي الزراعية والبريّة في المراحل الأولى من الحروب إلى التقليل من عزيمة السكان المحليين المعتمدين على الزراعة(11)، يضاف إلى ذلك هدف إتاحة المجال لكاميرات المراقبة والتجسس، وكشف الغطاء عن التحركات العسكرية، والتي يساهم الغطاء الطبيعي في تمويهها. واستفاد العدو من وعورة تضاريس المواقع الطبيعية في الجنوب اللبناني والذي أدّى إلى صعوبة الوصول إليها وبالتالي الدفاع عنها وإطفاء حرائقها، حتى أنه أطلق في أكثر من مرة القذائف واستهدف بالرشاشات رجال الإطفاء الذين حاولوا إطفاء الحرائق وتقليص إنتشار لهيبها.
انخفض عدد أيام الاستهدافات بالفسفوري في الأشهر اللاحقة إبتداءً من شهر فبراير/ شباط حين بدأت تتصاعد وتيرة قصف الأحياء والمنازل المدنية، في إشارة ربما إلى تغيير في أولويات العدو الإستراتيجية والأهداف، أو التحول نحو ممارسة المزيد من السيطرة على السكان المدنيين للتقليل من دعم الحركات المقاومة.
المنطقة العقارية | عدد أيام الاستهداف بالفسفور | عدد أيام الاستهداف بالقذائف المضيئة أو الحارقة | عدد الحرائق في المنطقة (بحسب وزارة الزراعة) | |
1 | الخيام | 15 | 8 | 32 |
2 | كفركلا | 14 | 8 | 37 |
3 | ميس الجبل | 13 | 11 | 28 |
4 | حولا | 12 | 16 | 18 |
5 | الناقورة | 10 | 17 | 78 |
6 | بليدا | 8 | 8 | 16 |
7 | الضهيرة | 7 | 7 | 13 |
8 | علما الشعب | 7 | 13 | 48 |
9 | عيتا الشعب | 6 | 8 | 35 |
10 | مركبا | 6 | 5 | 33 |
11 | العديسة | 5 | 2 | 27 |
12 | يارون | 4 | 3 | 10 |
13 | رامية | 4 | 4 | 13 |
14 | عيترون | 4 | 5 | 11 |
15 | كفرشوبا | 4 | 5 | 62 |
16 | مزارع شبعا | 3 | 5 | – |
17 | رب ثلاثين | 3 | 3 | 12 |
18 | رميش | 2 | 4 | 27 |
19 | شبعا | 2 | 4 | 19 |
20 | يارين | 2 | 3 | 6 |
21 | الطيبة | 2 | 1 | 17 |
22 | محيبيب | 2 | 1 | 5 |
23 | الصلايب | 2 | 1 | 13 |
24 | مروحين | 1 | 2 | 8 |
25 | الماري | 1 | 1 | 25 |
26 | مرجعيون | 1 | 0 | – |
27 | دير ميماس | 1 | 2 | 0 |
28 | الجبين | 1 | 0 | 0 |
29 | شيحين | 1 | 0 | 3 |
30 | طير حرفا | 1 | 1 | 12 |
31 | مارون الراس | 1 | 1 | 24 |
32 | الخريبة | 1 | 0 | 4 |
33 | مزرعة سرادا | 1 | 0 | 0 |
34 | بلاط مرجعيون | 1 | 0 | – |
35 | راشيا الفخار | 1 | 0 | 3 |
36 | دير ميماس | 1 | 2 | – |
وقد لاقت بلدات الشريط الحدودي وغاباتها النصيب الأكبر من الاستهدافات بالفوسفور، فاستهدفت 36 منطقة عقارية منها بهذه المادة وهي مناطق تحتوي على مساحات طبيعية وزراعية شاسعة. وقد صنّفت “الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية” هذه المناطق كَوْنُها ذات ثروة زراعية بأهمية وطنية، وبعضها الآخر كمناطق أودية وغابات ومناطق تواصل طبيعي، في تأكيد على أهمية هذه المناطق وضرورة الحفاظ عليها وتطويرها لتحقيق التوازن البيئي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان. أما المناطق الخمس الأولى من حيث عدد أيام الاستهدافات فكانت: منطقة الخيام بالمرتبة الأولى، وقد قُصفت بالفوسفور لمدة 15 يوماً، تلتها كفركلا بـ14 يوماً، فميس الجبل بـ13 يوماً، وحولا بـ12 يوماً، فالناقورة بـ10 أيام. وإن اطّلعنا على أرقام الحرائق- والتي لا تتسبّب فيها القذائف الفسفورية والمضيئة الحارقة منفردةً، بل تساهم في اندلاعها أيضاً الأشكال الأخرى من الذخائر كالقذائف المدفعية والغارات الجوية- نجد أن منطقة الناقورة و جارتها عَلَمَا الشعب قد لاقتا نصيباً كبيراً من الحرائق بعدد 78 حريقاً للناقورة (المرتبة الأولى من حيث عدد الحرائق) و48 لعلما الشعب (المرتبة الثالثة من حيث عدد الحرائق)، منذ بداية العدوان. وإن اطّلعنا فعلياً على طبيعة هاتين المنطقتين عبر الخرائط الجوية، نرى أن معظم أراضيهما هي عبارة عن أحراش، إذ تشكّل هذه المساحات أكثر من 75% من أراضي منطقة الناقورة العقارية وتغطي أكثر من 85% من أراضي علما الشعب(12). وقد صُنِّفت المنطقتين ضمن المناطق المهمّة نباتياً في لبنان من قبل مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 2017، وذلك لاحتوائهما على غنى نباتي استثنائي وأصناف مهدّدة، فضلاً عن كونهما موطناً للعديد من الحيوانات والطيور. وتتميّز المنطقتان بالحقول الزراعية، وغابات الصنوبر وبساتين الزيتون والكروم إضافةً إلى الجبال والأودية التي تزخر بالينابيع والمياه الجوفية. أما الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، فتصنّف كلتا الناقورة وعلما الشعب كمناطق أودية وغابات ومناطق تواصل طبيعي وبالتالي تعترف بهما كمناطق طبيعية ذات أهمية وطنية، كما تلحظ وجود منتزهات وطنية داخل الناقورة.
أما كفركلا التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث الاستهداف بالفسفور، وفي المرتبة الرابعة من حيث الحرائق التي سبّبتها الاعتداءات الإسرائيلية، فتتخطّى المساحات الخضراء فيها الـ70% من مساحة البلدة، وتصنّفها الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية كمنطقة ريفية وذات ثروة زراعية بأهمية وطنية، إضافةً إلى كونها منطقة تتعرّض لهشاشة في الموارد المائية. يعني ذلك أن المنطقة تحتوي على خزان للمياه الجوفية، وأن مياهها معرضة أصلاً للخطر قبل بدء الحرب، ويجب حمايتها من التلوث المنتشر من أصل زراعي.
ويؤدي قصف كفركلا بالفسفور إلى زيادة هامش الخطر على المياه، ضمن غيرها، إذ تتسرّب هذه المادة إلى باطن الأرض، وبالتالي إلى المياه، وتلوثها فتجعل المياه غير صالحة للاستهلاك البشري أو الري. وبسبب تلوث هذه المياه بالفسفور، يُمكن أن يُصاب الأهالي، الذي يعتمد عدد كبير منهم على الآبار الارتوازية، بمجموعة من الأمراض الخطيرة.
التداعيات على القطاع الزراعي
تتمتّع منطقة الجنوب بظروف مناخية وغنى بيئي مؤاتيين للزراعة، ما يجعلها منطقة عالية الإنتاجية لمجموعة متنوعة من المنتجات الغذائية. يُزرع في الجنوب حوالي %22 من الفاكهة والحمضيات في لبنان، و%38 من زيتون البلاد، بالإضافة إلى العديد من الحبوب(13). وتعتمد المجتمعات المحلية في الجنوب اقتصادياً على هذه المحاصيل، لا سيما القرى الحدودية، كونها المنطقة بكاملها ريفية.
أثّرت الاعتداءات الإسرائيلية على حياة المزراعات- ين بشكل كبير، بحيث أجبرتهم- هن على النزوح بحثاً عن الأمان، ممّا أوقف كل أشكال العمل الزراعي في أغلب مراحله لحوالي سبعة أشهر. وبالإضافة إلى تدمير العديد من المحاصيل، أدّى العدوان بالذات إلى ضرب إنتاج الزيتون، إذ بدأ العدوان في موسم الزيتون ومنع المزارعين من قطفه.
أظهرت المسوحات الأرضية التي أنجزها المجلس القومي للبحث العلمي أنه بحلول 16 نوفمبر/تشرين الثاني، جرى إحراق 5,140,000 متر مربع من الأراضي باستخدام الفسفور الأبيض والقنابل المضيئة في الجنوب، بما في ذلك 123,930 متراً مربعاً من أشجار الزيتون.
لنتبيَّن فداحة الوضع، بإمكاننا أن ننظر إلى التأثير الاقتصادي للعدوان. تُنتج القرى الجنوبية حوالي 5000 طنًا من أصل 25000 طن من زيت الزيتون المنتج سنوياً في لبنان(14). وعلى هذا النحو، يمكن أن تؤثّر الخسائر المتكبدة خلال التفجيرات الحالية على ما يصل إلى خمس أرباح إنتاج الزيتون الوطنية- والتي بلغت ما يقرب من 23 مليون دولار من الصادرات في العام 2020 (15)– سواء كان ذلك بسبب البساتين المحترقة أو الأراضي غير المحصودة نتيجة للتهجير.
ووفقًا للدكتور هشام يونس، رئيس منظمة “الجنوب الأخضر”(16)، يعاني المزارعون بشكل كبير نتيجةً للقصف الإسرائيلي للأراضي الزراعية، إذ “يواجهون، في المناطق المتضررة، تداعيات شديدة، حيث يعتمدون بشكل كبير على هذه الأراضي لكسب عيشهم، من خلال الزراعة في المقام الأول، وبشكل رئيسي من خلال زراعة الزيتون. استخدام قنابل الفسفور الأبيض هو محاولة منهجية لتدمير النباتات والمناطق الزراعية، ما يعرض للخطر سبل عيش المجتمعات المحلية وقوتها”.
فمنذ ما قبل الحرب الإسرائيلية القائمة، لطالما كان المزارعون من بين الفئات المهنية الأكثر استضعافاً في لبنان. وعلى الرغم من تضرّر جميع القطاعات الاقتصادية بالانهيار الاقتصادي في السنوات الأخيرة، إلّا أن القطاع الزراعي تضرر بشكل كبير، بسبب الإهمال المتعمّد له من قبل الدولة منذ ما قبل الحرب الأهلية. وبالتالي، منذ بعد أزمة 2019، أصبح القطاع منهاراً بشكل كبير، وغير قادر على تشكيل مصدر رزق للأفراد، أو في تأمين السيادة الغذائية والمساهمة في التنمية. لذا، ومع انخفاض الإنتاج الزراعي بنسبة 70% عام 2022(17)، اضطرّ العديد من المزارعين إلى التخلّي عن أراضيهم وسبل عيشهم المتعلّقة بالزراعة، لعدم قدرتهم على إعالة أنفسهم أو الاهتمام ببساتينهم ومزارعهم ومحاصيلهم وقطعانهم.
ويُعد العمل الزراعي عملاً غير رسمي، ممّا يعني بأن أغلبية العاملات والعاملين في هذا القطاع غير مسجّلين لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ممّا يحرمهن- هم من التغطية الصحية والتأمين وأي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي الذي يحميهن- هم ويعوّض عنهن- هم في حالات كالحوادث والكوارث ومنعهم عن الاهتمام بأراضيهم ومحاصيلهم كما يحدث اليوم.
هذا بالإضافة إلى أن أغلب النساء العاملات في القطاع من اللاجئات السوريات، وهنّ مياومات، ممّا يعني بأن امتناعهنّ عن العمل لمدّة العدوان هو تفقير مباشر لهنّ وحرمان لهنّ من العمل والحصول على مورد مالي.
هذا، إلى جانب الأزمة المالية، يعني أن الضرر الناجم عن القصف الإسرائيلي للأراضي الزراعية في جنوب لبنان لن يؤدي إلا إلى تفاقم مشكلة قوية بالفعل. إن الاحتمال الذي يلوح في الأفق هو أن حرمان المزارعين من التعويض عن خسائرهم بسبب القصف قد بدأ يطفو على السطح، ما يلقي بالمزارعين-ات من المناطق المتضررة في دورة أوسع من عدم الاستقرار أكثر من أي وقت مضى.
فمثلاً، لم يستطع أهالي بلدة رميش الوصول إلى أكثر من 15 ألف شجرة زيتون منذ بداية الاعتداءات(18). أثّرت الأحداث أيضاً على موسم التبغ- ويسمّي البعض شتلة التبغ بـ«شتلة الصمود» إذ تعتاش منها 16 ألف عائلة جنوبية- فاحتُجز جزء من المحاصيل المقطوفة داخل المنازل في عدد من القرى الجنوبية المعرّضة للقصف العنيف، كمروحين وراميا. وبحسب وزارة الزراعة، فإن المساحات الزراعية التي تأثرت بالحرائق هي 97.800 م2 من بساتين الزيتون، و66.000 م2 من مزارع الحمضيات، و98.800 م2 من مزارع الموز. علاوة على ذلك، اشتعلت الحرائق في 20,800 متر مربع من أراضي المراعي. كما أفادت وزارة الزراعة عن تدمير مستودع أعلاف بمساحة 600 متر مربع، بالإضافة إلى تدمير كامل لنحو 60 دفيئة زراعية. أما حيوانات المزرعة التي تم الإبلاغ عن نفوقها فهي 200 ألف طائر ودجاجة و700 رأس من الماشية، بالإضافة إلى تدمير 4000 خلية نحل، ممّا ينبئ بنتائج وخيمة على النظام البيئي القائم. وفي صور، يجد الصيادون صعوبة في الوصول إلى مناطق الصيد بسبب الاعتداءات السمتمرّة.
خاتمة
لا يُخفى أن إسرائيل تسعى إلى قتل الناس اليوم وكل يوم، في فلسطين ولبنان. لكن الإبادة البيئية والزراعية التي تقوم بها اليوم، خاصة على مستوى حرق الأراضي الزراعية والحرجية، واستخدام الفوسفور الأبيض لتلويث التربة والمزروعات والمياه وقتل النظام البيئي المحلي، هي إثبات على توجّه العدو وبشكل ممنهج لا إلى قتل الناس فقط، بل الأرض وما فيها.
بمعنى أنّه يستخدم الإبادة البيئية والزراعية كأداة لجعل صمود الشعوب الأصلية في أرضها وإمكانية استقلالها الاقتصادي والغذائي اليوم مستحيلاً، ولتدمير بقائها على هذه الأرض في المستقبل من جهة أخرى. فهذه الممارسات، وباستهدافها للنُظُم البيئية وبتر العلاقة بين الناس والأرض كمورد عيش، تشكّل استراتيجية عسكرية متكاملة لتجويع الأجيال القادمة وحرمانها من العيش في بيئة آمنة وصحية. وتُعتبر هذه الاستراتيجية مشابهة لما يُسمّى بالشُفوشيه chevauchée(19)، ولكن تمّ تطويرها وتوسيعها لتصبح مدمّرة بشكل أكبر وعلى المدى البعيد، وبالتالي تسهيل عملية سلب الأراضي وانتزاعها.
لذا، لا بدّ أن نرى الإبادة البيئية والزراعية كامتداد للمشروع الصهيوني الساعي للسيطرة على الأرض، ما عليها ومافيها(20).
جنى نخال وريان علاء الدين – (استوديو أشغال عامة) – لبنان
المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الخامس: “الحرب والسيادة الغذائية في المنطقة العربية“. يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من: الرابط
المراجع
[1] منصة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان
[2] – “الفوسفور الأبيض ليس سلاحاً كيميائياً بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية، لأنه يعمل بوصفه عاملاً حارقاً وليس من خلال “مفعوله الكيميائي في العمليات الحيوية” (المادة 2-2 من اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية).
“واستخدام الفوسفور الأبيض قد ينتهك البروتوكول الثالث (بشأن استخدام الأسلحة الحارقة) من الاتفاقية المتعلقة بأسلحة تقليدية معينة في حالة واحدة محددة، وهي: إذا استُخدِم، عن قصد، باعتباره سلاحاً حارقاً مباشرة ضد البشر في بيئة مدنية. ولا تُحظَر الاستخدامات الأخرى للفوسفور الأبيض، مثل إضاءة ساحة المعركة. ولإثبات حالة استخدام غير قانوني بموجب الاتفاقية المتعلقة بأسلحة تقليدية معينة، يكون من الضروري إجراء تحقيق في القصد من وراء استخدام الفوسفور الأبيض، وهو ما يتجاوز ولاية منظمة الصحة العالمية”. [15- 01- 2024، منظمة الصحة العالمية، https://tinyurl.com/2ssy9abz].
[3] اقترح مصطلح «الإبادة البيئية» للمرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي خلال حرب فيتنام، عندما استخدم الجيش الأميركي المواد الكيميائية لتدمير الغطاء النباتي والمحاصيل. ومن حينها، أيّد العديد من المنظّمات الحقوقية والمحامون تجريم «الإبادة البيئية» بموجب القانون الدولي.[4]https://www.peasantjournal.org/news/agrarian-annihilation/
[5] – بحسب الرصد الدوري للاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية الذي يجريه إستديو أشغال عامة منذ بداية الحرب.
[6] – استوديو أشغال عامّة مؤسسةٌ للأبحاث والمناصرة متعدّدة التخصّصات، تشمل مهندسات ومصممين وباحثات وحقوقيين منخرطون نقديّاً وإبداعيّاً في قضايا العمران والعدالة المكانية في لبنان، مع تركيز خاص على الحقوق البيئية والسكنية والحق في تنمية متكاملة وحيّز عام مُتاح. تطلق المؤسسة مشاريع تخلق إمكانيات لجعل التخطيط المدنيّ وإنتاج السياسات العامة عمليةً ديمقراطيّة- لا أداة للسلطة تفرض من خلالها هيمنة قلة من الناس على حياة الآخرين.
[7] – بالإضافة إلى التحقيق في تأثير الحرب على النزوح والسكن والبيئة. فضلاً عن رصد استجابات الدولة والدعوة إلى مسارات بديلة عادلة.https://publicworksstudio.com/the-2023-israeli-war/
[8] – “الفوسفور الأبيض مضر للبشر أياً كانت طرق التعرض له. ويمكن امتصاصه بكميات سامة بفعل الابتلاع أو انكشاف الجلد/ المُخاطية. والدخان الناتج عن حرق الفوسفور ضار أيضاً بالعينين والجهاز التنفسي، إذ تتحلل أكاسيد الفوسفور في الرطوبة إلى أحماض الفوسفوريك. وقد يتأخر ظهور التأثيرات الجهازية لمدة تصل إلى 24 ساعة بعد التعرُّض. وفي حالات التعرَّض الشديدة، يمكن أن تشمل التأثيرات المتأخرة اضطرابات القلب والأوعية والانهيار القلبي الوعائي، بالإضافة إلى تلف الكُلَى والكبد وانخفاض مستوى الوعي والغيبوبة. وقد تحدث الوفاة بسبب الصدمة أو الفشل الكبدي أو الكُلَوي أو تلف الجهاز العصبي المركزي أو عضلة القلب”. [15- 01- 2024، منظمة الصحة العالمية، https://tinyurl.com/2ssy9abz].
[9]– المركز، الحرب البيئية والاقتصادية الإسرائيلية على لبنان، 3 آذار 2024
[10] – بحسب الرصد الدوري للاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية الذي يجريه إستديو أشغال عامة منذ بداية الحرب.
[11] – التي تشكل- بحسب التقديرات- نحو 75% من إجمالي دخل الأسر في جنوب لبنان، إذ تتركز المناطق المزروعة في الجنوب بنسبة 12.6% من مجموع الأراضي المزروعة في لبنان (بحسب قناة الجزيرة).
[12] – بحسب عملية حسابية تقريبية قمنا بها بالاعتماد على الخرائط الجوية للمناطق، بواسطة google earth و autocad.
[13] – بحسب تقرير صادر عن وزارة البيئة اللبنانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 2011
[14] – الحرب البيئية والاقتصادية الإسرائيلية على لبنان – The Markaz Review
[15] – المصدر السابق نفسه
[16]– منظمة بيئية غير حكومية في لبنان
[17] – الحرب البيئية والاقتصادية الإسرائيلية على لبنان – The Markaz Review
[18] – بحسب حديث مع رئيس بلدية رميش أجريناه بتاريخ 10/11/2023.
[19] كانت إحدى وسائل الإغارة في حروب العصور الوسطى لإضعاف العدو، وذلك في المقام الأول عن طريق حرق أراضي العدو ونهبها من أجل تقليل إنتاجية المنطقة.[20] – للتفصيل أكثر في علاقة تدمير فلسطين وتدمير الأرض انظر- ي: أندرياس مالم، “تدمير فلسطين هو تدمير كوكب الأرض”، ترجمة عمرو خيري، https://alsifr.org/destroying-palestine-destroying-planet