مقدمة
قبل شهور معدودة، قلّة من التونسيّين كانوا يسمعون بقرية الهوايديّة أو يعرفون موقعها (ولاية جندوبة، ريف طبرقة). والواقع أنّه ما كان لهذه القرية الجبليّة الصغيرة (الدُوّار بالدارجة التونسية) أن تتصدّر نسبيًا عناوين الصحف ووسائل الإعلام لولا قرار أهلها التصدّي لجشع رأس المال الاستخراجي ولتواطؤ الدولة معه. فعشرات القرى الصغيرة المشابهة على امتداد البلاد تعاني منذ عقود صنوفًا مماثلة، وربّما أبشع، من نهب الثروة والتفقير المُمَهّد للتهجير، دون أن تنتبه لها وسائل الاعلام البرجوازي أو تهتمّ لأمرها نُخب العاصمة. وما أحدث الفارق هذه المرّة كان وعي بعض شبابها الذين اختاروا أن يخوضوا معركة الكفّ ضدّ المخرز لتتحوّل قريتهم الجبليّة الهادئة إلى أيقونة جديدة لنضال الطبقات الشعبية في تونس.
وتتمثّل حيثيّات هذا الصراع في تواجد شركة تستغلّ مقطعًا تقليديًا (أي من دون استعمال متفجّرات) للحجارة بقفاء الجبل الذي تقع فيه القرية. دأبت هذه الشركة على استغلال المقطع منذ 15 عامًا، وقد لاحظ الأهالي أنّها ضاعفت وتيرة اقتلاعها للحجارة في السنوات الأخيرة، بشكل عشوائي. اذ يتهمون الشركة بأنّها نزلت في عمليات حفرها عميقا إلى درجة أنّها لوّثت “عين ذُكّارة”، عين الماء الطبيعية التي طالما شرب منها أهل القرية وسقوا زرعهم ورَوُوا حيواناتهم.
وبعد أن ملّوا تجاهل السلطات المحلّية لمطالبهم، قرّر الأهالي البدء في اعتصام حذو الطريق المؤدّية إلى المقطع، ممّا أدّى الى توقّفه عن العمل منذ 23 ديسمبر من السنة الماضية. ومازال المقطع مُغلقًا إلى حدّ الآن “بقرار شعبي”، كما أعلن المعتصمون. لكنّ الأمر لم يُحسم بعد نهائيا في ظلّ محاولات لإعادة فتحه من قبل أصحاب الشركة والمسؤولين المتواطئين معهم.
عين الماء: عقدة الصراع
يقول الأهالي إنّ الشركة تستعمل مواد زيتيّة تسّربت إلى المجاري التحتية للعين، ممّا أدّى إلى تكدّرها واختلاط الماء بالزيوت واستحالة التعويل عليها للماء الصالح للشرب والريّ. وهذا ما تؤكّده المعاينة المباشرة للعيْن. وقد أثبت تحقيق ميداني لموقع انحياز عبر اختبار علمي أنّ ماءهم الزُلال قد صارَ مُلوّثًا وغير صالح للشرب. وجدير بالذكر أنّ القرية غير مربوطة بالشبكة الماء العمومية، وتلك إحدى الأمور الأساسية التي طالما طالب بها الناس في تلك المنطقة الجبلية الريفيّة التي تضمّ عديد القرى. وفي انتظار تكرّم الدولة عليهم بالماء، يضطرّ أهل القرية الى التنقل لمسافات طويلة لجلب الماء من عيون أخرى تتميّز بها جهتهم.
لا يشتكي الناس في الهوايدية من اعدام عين مائهم فحسب. بل يتّهمون تلك الشركة وغيرها (هناك أيضا في جبل مقابل للهوايدية مقطع صناعي يهدّد بدوره دواوير أخرى) بأنّها تلوّث بما ينبعث منها من غبار، لا سيما عند نقل الحجارة بالشاحنات، ما يزرعونه من خضر ويغرسون من أشجار (خاصّة الزيتون والتين) أو ما ينبت في جبالهم من خيرات فريدة (التوت البرّي، الخرّوب، الأنج، القضوم، أشجار الفرنان وغيره ممّا تتميّز به جبال خمير). كما أنّهم يؤكّدون أنّ عمليات الحفر المتواصلة التي أتت على جزء هامّ من الجبل الذين يعيشون عليه قد تسبّبت في تصدّع حيطان بيوتهم الصغيرة وتهديدها بالانهيار.
الّا أنّ الماء يظلّ عقدة هذا الصراع. فإلى جانب حاجتهم له للشرب، فهم يحتاجونه للمحافظة على نمط عيشهم ومورد زرقهم الأساسي: الفلاحة.
أبعد من العين: صراع طبقي مرشّح للتصاعد
تتمثّل إحدى الخصائص الرئيسية لهذه المعركة في كونها تختصر وتُكثّف صراعًا بدأ يستعر تدور رحاه في مختلف أنحاء البلاد بين طبقة صغار الفلاحين والرأسماليّين الطفيليّين المتطفّلين على الفلاحة أو المهدّدين لها. ففي حين يعاني صغار الفلاحين في مناطق أخرى من ظاهرة “المستثمرين الفلاحيّين”، الذين تشجّعهم الدولة – بدعم وتمويل من الاتحاد الأوروبي –في استحواذهم على أراضي صغار الفلاحين، يواجه أهالي الهوايدية “مستثمرًا” لا يأبه للفلاحة، بل يراكم أرباحه من القضاء عليها. اذ يعمد “المستثمرون الفلاحيون” (وهم رأسماليون لا علاقة لأغلبهم بالفلاحة أو من البرجوازية المتوسطة التي راكمت رأس مالها من العقارات والتوريد أو المهن الليبرالية كالمحاماة والطبّ) الى الاستيلاء على أراضي صغار الفلاحين الذين يعانون الأمرّين، ممّا يضطرّ عددا متزايدًا منهم إلى هجر القطاع والتفريط في أرضه. ويتمّ ذلك بتشجيع ممنهج من الدولة، التي توفّر لهم قروضًا ميسّرة من البنك الفلاحي – الذي بُعث في الأصل لمساعدة الفلاحين – مقابل اتبّاعهم دورات تكوينية سطحيّة. وخلال هذه الدورات – التي شاركتُ في إحداها – يتمّ حثّهم على الزراعات المكثّفة، لا سيما لأشجار الزيتون والقوارص أو التمور. أي كلّ ما يمكن تصديره لاستجلاب العملة الصعبة التي تحتاجها البرجوازية الكمبرادورية الحاكمة لتمويل صفقاتها التوريدية ولضمان أرباح رأس المال الأجنبي، خاصّة في قطاع الخدمات، ولضمان أرباح البنوك العالمية التي تقترض منها الدولة باسم الشعب.
وبالنظر لجشع هؤلاء “المستثمرين”، فهم لا يتردّدون في اقتلاع أشجار الزيتون التونسية الأصيلة، بتواطؤ من الدولة رغم أنّ قانونها يجرّم ذلك، التي لا تحتاج الى الكثير من الماء، لاستبدالها بأشجار زيتون من سلالات اسبانية وايطالية مُطوَّرة تنتج الزيتون في فترة أقلّ. لكنّها بالمقابل تستهلك الكثير من الماء. وهذا ما يفسّر احتكار هؤلاء “المستثمرين”لأغلب الموارد المائية بمناطق تعاني أصلا من فقر مائي. فمثلا في مدينة بوزيان، من ولاية سيدي بوزيد، لم تمانع الدولة من كراء أرض دوْليّة مساحتها أكثر من 500 هكتار لـ”مستثمر” غرس فيها مليون شجرة زيتون من أصل أجنبي. ففي حين يعاني صغار الفلاحين في الأراضي المجاورة من شحّ المياه، لم يتردّد هو في حفر خزّان أرضي للماء (“جابية” بالدارجة التونسية) على مساحة هكتار كامل كما يؤكّد بعض فلاحي المنطقة. يجري هذا في ولاية سيدي بوزيد، التي تفيد الأرقام الرسمية لسنة 2013 أنّ نسبة استغلال المياه الجوفية السطحية بلغ 132%.
بالنسبة للهوايديّة، ونظرًا للطابع المنطقة الجبليّ الوعر، ممّا يجعل الفلاحة فيها أصعب منها بالأراضي المنبسطة، ينتعش نوع آخر من الرأسماليين الطفيليّين. ومنهم مقتلعو الحجارة الجشعون، الذي لا يأبهون لتضرّر البيئة وتهديد نمط انتاج سكّان المنطقة، بل حياتهم كذلك. كما يشتكي الأهالي من العصابات التي تسلخ أشجار الفرنان عشوائيًا للحصول على مادة الخفّاف (أو الفلّين، التي يمكن استعمالها في عديد المجالات، ومن أشهرها سدّادات القوارير).
آفاق المعركة
رغم بداهة مشروعية مطالب أهالي الهوايدية ونصاعة حقّهم، الّا أنّ السلطات تستبسل في رفض الإقرار به. اذ لجأت الى محاولة ربح الوقت والمناورة عبر الأمر بإغلاق المقطع مؤقتا في انتظار “احترامه للمعايير القانونية”. وهي بذلك تمهّد امّا لإعادة فتحه أو لتسليمه لـ”مستثمر” آخر. وفي الأثناء تحاول السلط، ومعها الرأسمالي، الضغط على الأهالي باختلاق القضايا العدلية ضدّهم (بلغت ثلاثا إلى حدّ الآن). ويعود ذلك أساسًا إلى ما تستشعره السلطة من خطورة تحقيق الهوايدية لانتصار نهائي في هذه المعركة. اذ أنّ ذلك قد يفتح الباب للعشرات من القرى المشابهة للتصدّي لرأس المال الاستخراجي أو الملوّث في مختلف المجالات (الحجارة، الرخام، الاسمنت، فحم الأشجار والخ) ولمئات الآلاف من صغار الفلاحين على امتداد البلاد ليصعّدوا نضالهم ضدّ طبقة “المستثمرين الفلاحيين” التي بدأت تزاحم طبقة كبار الفلاحين ومالكي الأرض في هيمنتها على الأرياف. ولا شكّ في أنّ صغار الفلاحين معنيّون أكثر من أيّ وقت مضى بتنظيم صفوفهم، وتجاوز الهياكل البالية لاتحاد الفلاحين والصيد البحري (الذي يدافع عن مصالح كبار الفلاحين أساسا) وخوض هذه المعركة المصيرية لا فقط ضدّ “المستثمرين” المحلّيين، بل أساسًا، واستباقيًا، ضدّ الرأسمال الأجنبي الطامع في الاستيلاء مجدّدا على أخصب أراضي البلاد عبر شركات “الأغروبيزنيس”. والتي تنتظر بفارغ الصبر أن تصادق الحكومة على اتفاقية “الأليكا” وعلى قانون تمليك الأراضي الفلاحية للأجانب.
لهذه الأسباب، ولغيرها، يجب أن يساند كلّ الأحرار وأنصار السيادة الغذائية والعدالة الاجتماعية أبناء الهوايدية الشجعان في معركتهم الحاسمة.
غسّان بن خليفة
صحفي مناضل – تونس
.جرى نشر هذا المقال في العدد الأول من مجلة ” سيادة” : رابط تحميل المجلة هنا