مقدمة الإصدار الجديد لجمعية أطاك: دفاعا عن السيادة الغذائية بالمغرب



أنجزت جمعية أطاك المغرب هذه الدراسة الميدانية حول السياسة الفلاحية الليبرالية المرتكزة على توفير شروط استحواذ كبار الرأسماليين على الأرض والثروات المائية وباقي الموارد الطبيعية، ومدهم بالإعانات العمومية والتسهيلات الضريبية لإنتاج زراعات تصديرية كثيفة، مستنزفة، ولا تغطي عائداتها سوى حوالي 47% من الواردات الغذائية كمعدل خلال 10 سنوات 2008-2017 التي جرى خلالها تطبيق “مخطط المغرب الأخضر”، تمثل منها الحبوب أكثر من الثلث. فالدعامة الرئيسة لهذا المخطط هي تشكيل مجموعات فلاحية، تجارية، صناعية وتصديرية كبرى تخضع لمشيئتها غالبية الفلاحين الصغار والمتوسطين، الذين احتدت سيرورة إفقارهم ويقاومون لإنتاج الزراعات المعاشية التي همشها المخطط، حيث تستغل جماهير العاملات والعمال الزراعيين بأبشع الشروط، بظل حيف قانوني كرسته الدولة بمدونة الشغل.

وتأتي هذه الدراسة بسياق خاص ميزته الأساس هجوم الدولة عبر ترسانتها القانونية بهدف:

  • تسهيل استحواذ كبار الرأسماليين على أراضي الجماعات السلالية (تعبئة مليون هكتار من هذه الأراضي لإنجاز المشاريع الاستثمارية بالمجال الفلاحي، وتحفيظ 5 ملايين هكتار منها بأفق سنة 2020 بغية تسهيل تمليكها)
  • استكمال استحواذها على الملك الغابوي (التحديد الإداري للملك الغابوي)
  • تطوير مشاريع الاستثمار الرأسمالي التصديرية الخاصة بشجر الأركان بأقاليم الجنوب الغربي خاصة مناطق سوس والصويرة، وتدمير تقاليد استغلاله الجماعي : مشروع غرس 10 آلاف هكتار من “الأركان الفلاحي”
  • تهيئة المجالات الرعوية لصالح كبار مالكي قطعان الإبل والماشية الرحل (إصدار القانون رقم 13-113 المتعلق بتنظيم الترحال الرعوي وتنظيم المراعي).

كما سخرت الدولة أجهزتها القمعية والقضائية لمحاصرة احتجاجات الفلاحين الصغار والسكان المتضررين (اعتقالات ومحاكمات للنشطاء وضمنهم نساء) من هذا الزحف الرأسمالي البشع بمناطق سوس والجنوب الشرقي والغرب (سيدي سليمان) وميدلت وتادلة (بني ملال وخنيفرة) والريف.  وقد نظمت بمدن، الدار البيضاء يوم 25 نونبر 2018، والرباط يوم 17 فبراير 2019، وتزنيت يوم 24 مارس 2019 مسيرات وطنية  للتنديد بمختلف تعديات الدولة على الحقوق الجماعية كالأرض والغابات والمراعي والثروات المعدنية وغيرها، وذلك بمبادرة من تنسيقية أكال للدفاع عن حق الساكنة بالأرض والثروة. وقد أبان زخم الحضور بهذه المسيرات عن مدى الاستعداد الشعبي لمواصلة النضال، كما تأسست تنسيقيات محلية بمناطق سوس وأيضا بصفوف الجالية المغربية بالخارج.

وترتكزهذه الدراسة على بحث ميداني شمل خمس مناطق فلاحية كبرى (درعة، سوس، تادلة، الغرب واللوكوس) وعلى نقاشات مستخلصة من اللقاءات الجهوية الموسعة المنعقدة بهذه المناطق مع الفلاحين الصغار والعمال الزراعيين، وعديد من النشطاء الآخرين حول آثار هذا النموذج الفلاحي القائم على تنمية أرباح أقلية رأسمالية جشعة على حساب غالبية الفئات الشعبية، كما تطرح الدراسة عناصرَ بديل ممكن قائم على مفهوم السيادة الغذائية.

يتضمن الفصل الأول خلاصات البحث الميداني وسط الفلاحات والفلاحين الصغار ومقارنة النتائج على مستوى المناطق الفلاحية الخمس. حيث يتبين بوضوح، عمق معاناة الفلاحات والفلاحين الصغار اليوم من خلال النسبة الكبيرة للأمية وغياب الخدمات الأساسية (الصحة) والحماية الاجتماعية (التقاعد والتغطية الصحية) والبنيات التحتية الضرورية (الطرق..). فتردي أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية يكشف زيف الدعاية الرسمية بكون “مخطط المغرب الأخضر” بالفلاحة يساهم بتنمية سكان العالم القروي. ورغم تدني مستوى دخلهم السنوي وحدة فقرهم، نلمس لديهم إحساسا بعزة نفس وكرامة عجيبان، حيث يكافحون لإعالة أسرهم رغم قساوة الشروط. ومازالوا يقاومون للحفاظ على وضعهم كمنتجين، ويتشبثون بزراعاتهم المعاشية، وقد أثبتوا نجاعتها بضمان غذاء صحي بمساحات صغيرة مع اقتصاد كبير بالماء وحفاظ على خصوبة الأرض والتنوع النباتي والحيواني والتكيف مع البيئة واحترامها.  وقد لمسنا لدى هؤلاء الفلاحين الصغار اكتسابهم لمعارفَ وتجاربَ وثقافاتٍ جماعية يتقاسمونها متضامنين بتوازن مع بيئتهم وثرواتهم على مدى قرون. إلا أنهم يعبرون كذلك عن تخوفهم العميق من التدمير الحالي لجميع هذه المكاسب والتراكمات، وما تتعرض له الموارد من نهب على يد دخلاءَ على مناطقهم الأصلية، يملكون الرأسمال والسلطة، ويقودهم جشع الربح السريع. كما يشكو الفلاحون الصغار من تزايد صعوبة بيع منتجاتهم المعاشية بالأسواق التي تهيمن بها مواد مستوردة منخفضة الثمن ويتحكم بها الوسطاء. كما يتحدثون بمرارة عن ضعف تنظيماتهم الذاتية. وقد عبرت غالبيتهم عن استعدادهم للانخراط بأية مبادرة قد تساعدهم على تجميع صفوفهم ما دام لم يتبق لديهم ما يخسرونه.

ولتوضيح هذه الصورة العامة أكثر، يستعرض الفصل الثاني مشاكل الفلاحين الصغار ومطالبهم المباشرة حسب كل منطقة من مناطق البحث الميداني الخمس (درعة، سوس، تادلة، الغرب واللوكوس). وقد أضفنا إليها أيضا نتائج اللقاءات الجهوية التي نظمناها بنفس المناطق.

 فبعد استكمال البحث الميداني، نظمت جمعية أطاك المغرب لقاءات جهوية حول السيادة الغذائية (لقاءان خلال شهر دجنبر 2018 بكل من سكورة وأكادير، ولقاءان شهر فبراير 2019 بكل من بني ملال وسيدي سليمان) لتقديم نتائج ذلك البحث الميداني وتعميق النقاش مع المعنيين/ات. وإن كان الفلاحون الصغار خلال البحث الميداني قد فصلوا بتعداد مشاكلهم وعبروا عن رصدهم لذلك التدمير الشامل الذي يطالهم كمنتجين وكمواطنين قرويين جراء السياسات الفلاحية الرسمية التي تدعم الرأسمال الكبير وتهمشهم، فإن غالبيتهم من خلال هذه المطالب، لا يضعون جوهر السياسة الفلاحية محط تساؤل سوى بشكل فضفاض. ويبدو أن النزعة الفردانية تغلغلت نسبيا بصفوف الفلاحين وتراجعت قيم العمل الجماعي والتعاون بين أعضاء الجماعة للدفاع عن مطالبهم. كما تظهر عليهم الآثار السلبية لغياب تراكمات النضال وضعف العمل النقابي والجمعوي بصفوفهم. فنسبة قليلة منهم فقط عبرت عن ضرورة سن سياسة فلاحية بديلة للنموذج الرأسمالي القائم على التصدير، وترتكز على إنتاج حاجيات الاستهلاك الأساسية، وتشجع الزراعات الأصلية ببلدنا، ومازال بديل السيادة الغذائية والإصلاح الزراعي يحتاج لجهد ونقاش جماعيين كي يستوعبهما الفلاحون والعمال الزراعيون. إلا أن اللقاءات الجهوية حول السيادة الغذائية كشفت كذلك عن أفكار متقدمة عن تلك المعبر عنها خلال الاستجوابات الفردية بالبحث الميداني، كما كشفت عن الطاقات الكامنة الملموسة من خلال فضاءات ورشات النقاش الجماعي التي سمحت بالتعبير بكل أريحية عن الآراء الفعلية لمختلف المشاركين والمشاركات.

يتناول الفصل الثالث نتائج البحث الميداني الخاص بالعاملات والعمال الزراعيين بضيعات ومحطات التلفيف التابعة للشركات الفلاحية التصديرية بالأساس بمنطقة سوس التي يتركز بها النموذج الزراعي التجاري، الصناعي والتصديري. حيث يتبين الاستغلال البشع الذي يتعرض له العمال الزراعيون، وبشكل خاص، العاملات الزراعيات اللواتي يعانين من جميع أنواع الاضطهاد والاستغلال والتحرشات. وهناك شريحة كبيرة تشتغل بشروط أقرب إلى العبودية، وتتمثل بالعاملات والعمال الزراعيين المياومين الذين يعرضون قوة عملهم بساعات الفجر يوميا بـ “الموقف”  وهو عبارة عن “بورصة العمل” بنقط تركزات العاملات والعمال المعروفة بالمنطقة.

وقد لاحظنا أن أغلب العاملات والعمال ينحدرون/ن من أصول فلاحية بمناطق أخرى من المغرب احتدت بها سيرورة افقار الفلاحين الصغار، فاضطروا لترك أراضيهم وهاجروا بحثا عن عمل. وقد لمسنا لديهم ميلا عاما الى الاستقرار بالمنطقة (سوس)، حيث يضطرون لقبول شروط الاستغلال الشديدة لبناء أسرهم، وحيث يقترضون لاستكمال مصاريف العيش والسكن التي لا تغطيها أجورهم البئيسة، وهم يقيمون بدواوير فقرٍ تنعدم بها أبسط البنيات التحتية الضرورية من طرقات وقنوات صرف المياه ومرافق صحية.

هذا بالوقت الذي تخرج به يوميا من الضيعات ومحطات التلفيف شاحنات حديثة ومكيفة محملة بخضر وفواكه نحو الأسواق الخارجية، يتكدس العمال والعاملات الزراعيات بشاحنات أو حتى جرارات موت (تواتر حوادت سير قاتلة) نحو هذه الوحدات الانتاجية التي تنعدم بها هي أيضا معايير الصحة والسلامة، وتسودها جميع أنواع الخروقات المرتبطة بشروط العمل والأجور والحماية الاجتماعية. ويعود الفضل ببعض المكاسب المنتزعة للتوسع النقابي الكبير بالمنطقة ولنضالات وتضحيات مريرة للعاملات والعمال الزراعيين، خصوصا تجربة الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي التابعة للاتحاد المغربي للشغل، أساسا لأجل فرض احترام الحق النقابي. فأرباب العمل تدعمهم الدولة بإصدارها لمدونة شغل قوامها المرونة والوساطة والعمل المؤقت وتسهيل مساطر الطرد، وتكريس حيف جائر بحق العاملات والعمال الزراعيين على مستوى الأجور وساعات العمل، وأيضا بجهاز مراقبة شغل غير زجري، وقضاء يغض الطرف عن انتهاكات أرباب العمل وتعسفاتهم بحق العمال.

إن النموذج الزراعي المالي، التجاري، الصناعي والتصديري الذي تفرضه الدولة هو بمثابة طاحونة لعصر البشر لتنمية أرباح أقلية رأسمالية جشعة.

أما الفصل الرابع، فيستعرض تجليات تكريس هذا النموذج لنظام الاستحواذ على الثروات وتفقير الفلاحين الصغار بما يخص الأراضي الزراعية والثروات المائية التي يتسارع الرأسمال الكبير للسيطرة عليها. ويندرج هذا التغلغل الرأسمالي ضمن مخطط الدولة لتعبئة العقار لصالح الاستثمار وتصفية الوضعية القانونية لأراضي الجماعات السلالية والملك الغابوي بهدف تمليكها، ومن تم تفويتها الى المشاريع الكبرى بالفلاحة والسياحة والعقار والمعادن والمقالع. وأيضا ضمن المخطط الوطني للماء، الذي وضع مشاريع هائلة لمواكبة سيرورة الاستحواذ على الأراضي عبر تطوير قنوات لنقل مياه الري من المنطقة الغنية بها الى مناطق بورية، ومواصلة سياسة السدود المسخرة للزراعات التصديرية، وتحلية مياه البحر، مع إعداد الإطار المؤسساتي لتأمين الاستحواذ على الثروات المائية. وقد تنامت احتجاجات الفلاحين الصغار والسكان القرويين ضد نتائج هذه المخططات التوسعية بعديد من مناطق المغرب، لكن الدولة واجهتها بالقمع والاعتقالات والمحاكمات.

يتغلغل النموذج الزراعي المالي، الصناعي، التجاري والتصديري برعاية من مصالح الدولة ووزارة الفلاحة من خلال فرض أنماط إنتاج واستهلاك وفق نموذج البلدان الرأسمالية الكبرى، وتعميم البذور الهجينة والأغراس المعتمدة (وسلالات الماشية) والمشاتل الكبيرة، وتدمير آخر ما تبقى من الموروث الجيني الذي راكمه الفلاحون الصغار، الذي استحوذت عليه الشركات متعددة الجنسيات واحتكرته باسم الملكية الفكرية وبراءة الاختراع التي عملت الدولة المغربية على وضع ترسانة من القوانين لحمايتها. وسنت أيضا قوانين تتعلق بالعلامات المميزة للمنشأ والجودة ازاء المواد الغذائية والمنتجات الفلاحية والبحرية لتسهيل الاستحواذ على الثروات المحلية لصغار الفلاحين والبحارة، كشجر الأركان والتمور والزعفران. وتقوم هذه الأنواع من البذور والأشجار الدخيلة على تقنيات زراعية مدمرة للأرض ومستنزفة للماء، وعلى استعمال كثيف للأسمدة الكيماوية والمبيدات السامة (والشيء نفسه بالنسبة لسلالات الماشية والدجاج، التي تستهلك كميات هائلة من العلف والمضادات والهرمونات الحيوية)، كما تقوم على استهلاك كبير جدا للطاقة الأحفورية (النفط والغازوال والبوتان) المساهمة بدورها بظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ، وما ينتج عنهما من كوارث جفاف وفيضانات. هذا علاوة على المخلفات الملوثة لمحطات التلفيف، ومحطات التخزين والتبريد، ومعامل الصناعات الغذائية، ونفايات جميع أنواع البلاستيك والبراميل والعبوات. فمنطق الربح يتعارض مع ضرورات الحفاظ على الطاقة والبيئة.

وقد وضعت الدولة نظاما متكاملا من الإعانات المالية للقطاع الفلاحي على مستوى الإنتاج والتسويق، خصوصا لتشجيع الزراعات التصديرية بالمناطق السقوية التي لا تشكل سوى 17 % من المساحة الزراعية الإجمالية، بحين همشت المساحات المرتبطة بالأمطار، التي يتركز بها إنتاج المواد الغذائية الرئيسة كالحبوب والقطاني (حوالي 60%). ويعد نظام الإعانات بالواقع مجالا لنهب المال العمومي من قبل كبار الرأسماليين والشركات التجارية الفلاحية.

هكذا يجد الفلاحون الصغار أنفسهم محاصرين بزحف نمط الإنتاج الرأسمالي الكبير بالزراعة، الذي يدمرهم كمنتجين ويهمشهم كسكان قرويين ويدوس كرامتهم كمواطنين.

استمد هذا النمط أسسه من فترة الاستعمار الفرنسي، ثم تواصل بعد الاستقلال الشكلي من قبل النظام لدعم تشكيل بورجوازية زراعية وتمليكها غالبية الأراضي الزراعية المسترجعة (أكثر من مليون هكتار) وتمتيعها بمنافع سياسة السدود وقانون الاستثمارات الفلاحية والمساعدات المالية والاعفاءات الضريبية.

هذا ما يحاول الفصل الخامس تحليله حيث إن هذه الاستثمارات الفلاحية الهائلة كانت تحتاج الى مالية عمومية ضخمة، بوقت خرج به البلد منهوكا من الفترة الاستعمارية وتعاني خزينته الخصاص. من هنا يأتي تدخل المؤسسات المالية الدولية بسلسلة من القروض ذات الفوائد التفضيلية، ما سيؤدي إلى أزمة ديون عمومية نهاية السبعينيات، تضافرت عوامل عديدة لاندلاعها نذكر منها ارتفاع معدلات الفائدة، وانخفاض أسعار المواد الأولية والمنتجات الفلاحية بالسوق العالمية.  لقد عجز المغرب عن تسديد خدمات الدين الخارجي للدول والبنوك الأجنبية، فتدخل صندوق النقد الدولي لوضع برنامج للتقويم الهيكلي شمل فترة 1983-1993، ما مهد لمرحلة ليبرالية جديدة من خلال الخصخصة وتقليص الميزانيات الاجتماعية وتقليص دعم أثمان مواد الاستهلاك الرئيسة وتجميد الأجور. وستؤدي هذه الإجراءات التقشفية إلى اندلاع ثلاث انتفاضات شعبية سنوات 1981 و1984 و1990 على التوالي. وقد تضمن “برنامج التقويم الهيكلي بالقطاع الفلاحي” نفس الإجراءات، حيث جرت خصخصة عديد من المقاولات العمومية الفلاحية، كما حررت الأسعار على مستوى مدخلات الإنتاج ولدى الاستهلاك، وتقلصت اعانات الدولة. كان جوهر هذه السياسة فتح المجال أكثر للقطاع الخاص للاضطلاع بالاستثمارات الفلاحية بالزراعات التصديرية بمساعدة انتقائية للدولة.

وستتعمق سيرورة الانفتاح الليبرالي مع انضمام المغرب إلى منظمة التجارة العالمية سنة 1995 وانخراطه بمسلسل توقيع اتفاقيات التبادل الحر مع أقطاب الامبريالية العالمية، الاتحاد الأوروبي (دخلت حيز التنفيذ سنة 2000) والولايات المتحدة الأمريكية (2006) وعديد من الدول الأخرى. وتوسعت لتشمل جميع القضايا التجارية والسياسية والأمنية، ونقل فروع الإنتاج، والتغلغل بقطاع الخدمات، والخصخصة، وحرية تداول الرساميل. وقد فتحت هذه الاتفاقيات الاستعمارية حدود المغرب أمام دخول السلع والرساميل المضارباتية، من جهة، وترحيل الأرباح من جهة ثانية، وزادت العجز التجاري استفحالا، وعمقت الاستعباد الامبريالي لبلدنا و تبعيتنا الغذائية. وقد تجلت خطورة هذه الأخيرة في نتائج الأزمات الغذائية العالمية 2007-2011، وهي إحدى التجليات الرئيسة للأزمة الرأسمالية العالمية 2007-2008، التي قادت إلى ارتفاع أسعار مواد الاستهلاك الأساس وتنامي سلسلة احتجاجات شعبية دفاعا عن القدرة الشرائية بعديد من مدن المغرب وقراه.

هذه هي إذن حصيلة ما فرضه علينا حكامنا من الوصفات الليبرالية لمنظمة التجارة العالمية والبنك العالمي، التي أكدها الأخير بتقريره السنوي لسنة 2008 المخصص للتنمية بالزراعة. وبهذا السياق بالضبط جاء “مخطط المغرب الأخضر” بالفلاحة سنة 2008 الذي يستند على تطوير المجموعات المندمجة أو التكتلات الرأسمالية التصديرية الكبرى وتخصيص الحيز الأكبر من التمويل لها، وتهميش جماهير الفلاحين الصغار التي لن تستفيد سوى من قسط ضئيل بإطار ما سمي “الفلاحة التضامنية” التي فرض عليها أن تكون تابعة للمجموعات الكبيرة بما يسمى سلاسل الإنتاج النباتي والحيواني. واستدعى مخطط المغرب الأخضر على مدى سنوات عشر 2008-2018 استثمارا اجماليا بلغ 104 مليار درهم، لم تنل منه الفلاحة التضامنية سوى 15 مليار درهم، بحين، ارتفع عجز الميزان الغذائي بهذه الفترة، حيث بلغ المعدل السنوي للواردات الغذائية 42 مليار درهم، تمثل منها واردات الحبوب 34,5 %، مقابل 19,7 مليار درهم كمعدل صادرات غذائية، تمثل منها الطماطم الطرية والحوامض 32%[1]. فاحتداد تبعية المغرب الغذائية يبين طبيعة النموذج الفلاحي المالي، التجاري، الصناعي والتصديري الذي لا يهمه سوى تحقيق الأرباح لشلة من المصدرين الذين يستفيدون من الإعانات لملء حساباتهم البنكية بالخارج. وهم أنفسهم الذين يضاربون بما يتعلق باستيراد الحبوب والمواد الغذائية الأخرى. وهم الذين يهربون الرساميل الى الخارج. ما يؤدي إلى ارتفاع المديونية العمومية التي بلغت 83% من الناتج الداخلي الخام، وحيث تمتص خدمة الدين سنويا ما يعادل 10 أضعاف ميزانية الصحة، وحوالي 3 أضعاف ميزانية التعليم[2].

وإذا كانت هذه الخيارات النيو-ليبرالية مفروضة علينا من قبل المؤسسات المالية الدولية ومراكز القرار الامبريالية الأخرى، فهي تشرعن من قبل مؤسسات “تمثيلية” لا تعبر عن الطموحات الشعبية بظل نظام سياسي محدد. هذا الأخير الذي يسهل استحواذ عدد قليل من العائلات المرتبطة بدواليب السلطة على الثروات بالاشتراك مع قسم من رأسمال أجنبي يقتسم معها الغنيمة، عبر تدوير سريع لرساميلَ نهبت ببقاعَ أخرى من العالم، حيث يجري ترحيل أرباح ناتجة أساسا عن مضاربات واستثمارات محفظاتية ممنوحة. هذا بما الفلاحون الصغار والعمال الزراعيون يعبرون عن تطلعاتهم نحو أفق ديمقراطي يضمن لهم الكرامة والحرية والعدالة والتوق لانتزاع الحق من الظالمين. كما بدأوا يؤمنون بإمكانية وقف سرعة تدميرهم ونزع مطالبهم بسياق الاحتجاجات والنضالات التي يشهدها المغرب إذا ما توحدوا وتنظموا.

فهناك إذن حاجة ملحة إلى تكثيف النقاشات الجماعية بفضاءات واسعة حول البدائل الممكنة للنموذج الفلاحي والغذائي السائد.

ولإغناء التفكير، بدا مفيدا الاستئناس بالتجارب الدولية، من خلال الفصل السادس، وأساسا تلك التي تركزها الحركة العالمية لصغار الفلاحين والبحارة والعمال الزراعيين، التي تحمل اسم نهج المزارعين الدولية (فيا كامبسينا LA VIA CAMPESINA)، وما يمكن أن نستلهم منها من دروس، أخذا بعين الاعتبار خصوصيات بلدنا، لتحديد محاور مطالبنا الرئيسة وسبل بناء حركة الفلاحين والبحارة الكادحين والعمال الزراعيين من الأسفل. فقد تأسست فيا كامبسينا سنة 1993 بسياق التعبئات المنظمة ضد جولات مفاوضات الاتفاق العام حول التعريفات الجمركية والتجارة 1986-1994. هذه التعبئات التي تنظم أكثر من 200 مليون فلاح صغير بـ 81 بلدا عبر العالم، راكمت خبرة نضالية ودراسية وميدانية طويلة حول البديل الزراعي الشعبي المتمثل بالسيادة الغذائية. وتعني السيادة الغذائية حق الشعوب بغذاء صحي يحترم الثقافات، وينتَج بطرق مستدامة ومحترمة للبيئة، وتعني أيضا حق تلك الشعوب بتحديد نظمها الغذائية والزراعية، وهي تضع تطلعات واحتياجات أولئك الذين ينتجون ويوزعون ويستهلكون الغذاء بقلب السياسات الغذائية، بدلا من متطلبات الأسواق والشركات متعددة الجنسيات. وترتكز السيادة الغذائية على إصلاح زراعي حقيقي وشامل يضمن للمزارعين حقوقهم الكاملة بالأرض والماء والموارد الطبيعية، ويرتكز على سن سياسات تحفز الزراعات المعاشية، كما يتبنى نماذج تكنولوجية تسمح برفع الإنتاج الفلاحي دون انتهاك صحة الفلاحين والسكان، مع احترام للموارد الطبيعية. ما يعني تكثيف الزراعة البيئية أو الإيكولوجية كشكل إنتاج يحترم الدورات الطبيعية وقادر على إبطاء تغير المناخ والحفاظ على التنوع البيولوجي والحد من التلوث. لن يتحقق هذا الإصلاح الزراعي بصورة جذرية إلا بالارتكاز على التنظيمات الاجتماعية التي تبنى من الأسفل، وبإدراجه ضمن مطالب أكثر شمولية لمجتمع بديل، مطالب تلف حولها قطاعات شعبية واسعة بخضم تعبئة قاعدية شاملة.

هكذا، فالسيادة الغذائية لا تختزل في تلبية استهلاك منتوجات محلية وصحية، كما أنها لا تخص المزارعين وحدهم. انها تضع، انطلاقا من المسائل الزراعية والغذائية، الأسس الضرورية لبناء مشروع تحرري لمجتمع ديمقراطي.  لقد بينت الخلاصات العامة للقاءات الجهوية أن النقاشات الجماعية ببلادنا، بطورها الحالي، ليست بعيدة عن بديل السيادة الغذائية، كما كشفت عن إمكانيات ملموسة لبناء تحالفات مبينة على عمل مشترك يجمع صغار الفلاحين والبحارة والرعاة ومربي الماشية والعمال الزراعيين والنساء والشباب والمناضلين النقابيين والجمعويين بالقرى والمدن، للنضال ضد نموذج الإنتاج الفلاحي المالي، التجاري، الصناعي والتصديري وضد نمط الاستهلاك المدمر السائد، ومن أجل نمط غذاء صحي وبيئي.

ومن هنا مساهمة جمعية أطاك المغرب بهذه الدراسة الميدانية لتدعيم النقاش حول البديل الزراعي الممكن وتثقيف قاعدة تحالف معسكر الشعب لأجل السيادة الغذائية ببلادنا.

حاولت هذه الدراسة أن تنقل التأثيرات الملموسة للنموذج الفلاحي التصديري على صغار الفلاحين والعاملات والعمال الزراعيين، وأن تعكس مشاكلهم الرئيسة كما طرحوها، وأراءهم بالسياسات الفلاحية المنتهجة، وكيف يتصورون الحلول لمعاناتهم. وحاولت أن تضع كل هذا بسياق تحليلي لمجمل الخيارات الليبرالية التي اعتمدتها الدولة بتضافر مع المؤسسات المالية الدولية. وهي لا تدعي الإحاطة بمجمل الإشكالات التي يطرحها تسارع تغلغل الرأسمال الكبير المحلي والأجنبي بالقطاع الفلاحي بهذا الطور من التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي بلغه بلدنا، على ضوء اندماجه بالنظام الرأسمالي العالمي وتأثره بأزماته. فالدراسة جهد أولي متواضع، ويحتاج إلى تطوير بعديد من المحاور، كالأرض والماء والغابة والبحر. وبالنسبة لهذا الأخير، ستشرع جمعية أطاك المغرب بانجاز دراسة ميدانية ملحقة تخص بحارة الصيد الساحلي والصيد بأعالي البحار، بحدود الإمكانات المتاحة للتقرب من أوضاع هذه الشريحة التي تعد مكونا رئيسا للسيادة الغذائية، التي يطحنها نفس المنطق الرأسمالي المتحكم بــ “مخطط المغرب الأخضر” من خلال مخطط أليوتيس الخاص بالبحر. كما يحتاج بديل السيادة الغذائية الى تمحيص أكبر بارتباط مع خصوصيات واقعنا وبسط عناصر الإصلاح الزراعي الشعبي والزراعة الإيكولوجية بشكل ملموس. ولابد أيضا من تعميق التفكير والنقاش بصدد الأشكال التنظيمية الملائمة لبناء حركة قوية من الأسفل، بعيدا عن تقاليد الوصاية من فوق، وتطوير أشكالنا التنظيمية تلك، عبر ربطها بالتجارب والشبكات الدولية المناضلة وضمنها حركة فيا كامبسينا، وأيضا على المستوى الإقليمي من خلال تدعيم جهود بناء “شبكة شمال افريقيا للسيادة الغذائية”.

[1] -أرقام وزارة الفلاحة، 2018.

http://www.agriculture.gov.ma/sites/default/files/AgricultureEnChiffre2017VAVF.pdf

[2] – جمعية أطاك المغرب، 2018 ، مقال بعنوان: جمعية أطاك المغرب تؤكد على مطلبها بإلغاء الديون العمومية كشرط ضروري لأي تنمية اقتصادية واجتماعية وبشرية حقيقية، نشر بتاريخ 12 سبتمبر، 2018.

الرابط الأصلي للمقال