تلعب المؤسسات المالية الدولية دورًا كبيرًا في الضغط على بلدان المنطقة من أجل اتباع سياسة زراعية ليبرالية، إذ إنَّ تاريخ هذه المؤسسات، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين، يشهد على دورها في فرض النموذج الزراعي التصديري على بلداننا.
ومنذ بدء التعاون بين كافة بلدان المنطقة ومؤسسات التمويل الدولية، كانت أولى التوصيات تتعلق بإضفاء الطابع الزراعي على المنطقة واعتبارها غير مُؤهلَة للتصنيع، وعلى هذا الأساس جرى منحها القروض بنسب فائدة مرتفعة، لتهيئ البُنى التحيتة والظروف اللازمة لخلق طبقة رأسمالية زراعية.
فبلد مثل المغرب، وبعد خروجه من الاستعمار العسكري الفرنسي، لم ينتظر طويلًا لقبول قروض البنك العالمي ومعها السياسة الزراعية المُوجَّهة للتصدير عبر سلسلة من المخططات التي جرى تجهيزها مُسبقًا من قِبل المؤسسات المالية الدولية، لتكرَّس تلك السياسات تَبعِيةَ دول المنطقة لمراكز القرارات الغربية، بعد أنْ أصبحت الديون واتفاقيات التبادل الحر آليات ناجعة للضغط على الحكومات لتقديم المزيد من التنازلات لصالح الشركات، بخاصة تلك العابرة للقارات.
لبلوغ ذلك الهدف الرئيسي الذي يتمثل في ضمان أسواق جديدة للاستثمار، تتسلح الرأسمالية بإيديولوجيا تمهد طرق السطو على موارد بلدان المنطقة من مياه وتربة وبذور ويد عاملة.
تعتبر حرب المفاهيم الكلمة الأساس لخداع الشعوب، فمصطلح مثل الأمن الغذائي يوحي للوهلة الأولى أنَّه تعبير عن ضمان الغذاء وتأمينه، لكن عند النظر بتمعُن في خلفية هذا المفهوم، يتبين بوضوح أنَّ مرتكزاته مبنية على تسليع الغذاء وبالتالي تغليب منطق الربح على منطق العدالة الغذائية.
وفي هذا العدد الذي نصدره بمناسبة انعقاد الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين، نقف على تعريف بعض المفردات وسياق ظهورها وخلفياتها.
1- التبادل الحر
يعتبر التبادل الحر آليةً لدمج البلدان في العولمة الرأسمالية، وقد بدأ العمل باتفاقيات التبادل الحر بشكل أوسع منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي عرفت الانتصار السياسي للرأسمالية وسقوط المعسكر الاشتراكي وتراجع الحركة النضالية العالمية، في هذا السياق كان الشغل الشاغل لقادة المعسكر الرأسمالي المنتصر هو دمج كل الأسواق المحلية ضمن السوق العالمية، فجرى تأسيس منظمة التجارة العالمية سنة 1995 بمراكش، وتمثل دورها في ضمان عدم اتخاذ أي من أعضائها أية سياسة حمائية، من أجل تسريع وتيرة تحرير التجارة العالمية وتعزيز استراتيجيات الشركات متعددة الجنسية.
يرتكز التبادل الحر على ثلاث فرضيات، وهي: حرية تنقل رؤوس الأموال، حرية الاستثمار، وحرية حركة البضائع.
عَمِلَ كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي جنبًا إلى جنب منظمة التجارة العالمية على تعزيز اتفاقيات التبادل الحر، فبعد فترة وجيزة من إنشاء منظمة التجارة العالمية، جرى إبرام اتفاق تعاون على عدة مستويات بينها وبين صندوق النقد الدولي، من أجل زيادة الترابط في عملية صنع السياسات الاقتصادية العالمية (1).
يرتكز التبادل الحر على ثلاث فرضيات مُستَقاة من نظرية “الميزة النسبية” لريكاردو التي تبلور عنها التقسيم الدولي للعمل، وهي: حرية تنقل رؤوس الأموال، حرية الاستثمار، وحرية حركة البضائع، وبذلك فإنَّ اتفاقيات التبادل الحر تضع كل نشاط بشري موضعًا للتنافس، وبالتالي قابلًا للاستثمار ومُدِّرًا للربح (2) بما في ذلك الغذاء الذي تراه الرأسمالية سلعة قابلة للاستثمار ومُدِّرة للربح، بغض النظر عن أية اعتبارات إنسانية.
من جانب آخر، تتعامل هذه الاتفاقيات وفقًا لوزن كل دولة داخل المؤسسات المالية والتجارية العالمية، فمندوبو دول الجنوب لا ينعمون بقوة تفاوضية مقارنة بنظرائهم في دول الشمال، ما ينتج عنه اتفاقيات غير متكافئة، إذ تفرض الدول الدائنة اتفاقيات في مصلحتها، بحجة ضرورة فتح أسواق الدول المَدِينة أمام الشركات متعددة الجنسيات بما يُمكِّن البلدان المدِينة- وفق هذا الزعم- من دفع ديونها والخروج من أزمة المديونية، وفي ذلك الإطار يهتم موظفو البنك الدولي وصندوق النقد بإنجاز تقارير ودراسات عن وضع البلد المَدِين وكيفية نزع أصوله وجهازه الإنتاجي لسد الديون.
2- الأليكا
تتعدد أنواع اتفاقيات التبادل الحر، فمنها اتفاقيات متعددة الأطراف تجمع بين مجموعة من الدول، وأخرى ثنائية، ومنها الاتفاقيات الكبيرة والأخرى الصغيرة، وهي في الغالب غير متكافئة ولا متوازنة، مثل تلك التي يبرمها الاتحاد الأوروبي بمجموع دوله مع دولة واحدة من دول العالم الثالث، من نوعية اتفاقية “الأليكا” وهي الاسم المُختَصر للاسم الفرنسي Accord de libre-échange complet et approfondi “اتفاقية التبادل الحر الشاملة والمُعْمَّقة”، وتُعَدُ إحدى أخطر الاتفاقيات على شعوب الدول الطَرَفِيَّة.
أطلق الاتحاد الأوروبي المفاوضات على هذه الاتفاقية مع عدد من الدول المجاورة له جنوبًا وشرقًا منذ سنة 2010 في إطار ما يسميه بسياسة الجُوار التي بدأ العمل عليها منذ سنة 2004، واستطاع الاتحاد الأوروبي توقيعَ هذه الاتفاقية مع بلدان جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا، التي تشهد حربًا عسكرية مع روسيا الرافضة لشراكة أوكرانيا مع الغرب، فيما سعت البلدان الثلاث الواقعة شرق أوروبا لتوقيع هذه الاتفاقية، أملًا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
تهدف اتفاقيات الأليكا لمد الشراكة إلى البعدين السياسي والاجتماعي وتعميق الشراكة على المستوى الاقتصادي.
أما على مستوى الجنوب فقد استهدف الاتحاد الأوروبي التفاوضَ مع كل من المغرب وتونس ومصر والأردن لتوقيع هذه الاتفاقية المُصممة وفق ظروف كل دولة، لكن المفاوضات لا تزال قائمة، أو مُعلَّقة، بين تلك الدول وبين الاتحاد الأوروبي.
وتعتبر “الأليكا” امتدادًا لاتفاقيات الشراكة السابقة بين الاتحاد الأوروبي ودول جنوب المتوسط، وتهدف تلك الاتفاقيات لمد الشراكة بين الطرفين إلى البعدين السياسي والاجتماعي وتعميق الشراكة على المستوى الاقتصادي، لتشمل قطاعات جديدة مثل الزراعة والخدمات والقطاع المالي إلى آخره من القطاعات التي لا تندرج ضمن الاتفاقيات التبادل الحر السابقة، ويهدف الاتحاد الاوروبي من خلالها إلى تعميق تبعية هذه البلدان له من خلال(3):
- ملاءمة تشريعات الدول لتشريعات الاتحاد الأوروبي.
- تحرير قطاعات الخدمات لصالح الاحتكارات الأوروبية.
- إضافة القطاع الزراعي إلى اتفاقيات التبادل الحر بنفس شروط القطاعين الصناعي والتجاري.
3- الزراعات التصديرية والاستخراجية
ضمن إطار التقسيم الدولي للعمل يكمُن تقسيم دولي لإنتاج الغذاء ضمن السوق العالمية، ويرى البنك الدولي(4) أن الزراعة الموجهة للتصدير يمكن أن تكون القطاع القائد للنمو ببلدان الجنوب، وهي سياسة تطبقها عدد من البلدان التابعة منذ بداية الستينيات، ولم تُجنِ منها سوى الغرق بالمديونية والتبعية الغذائية.
وتقوم تلك الاستراتيجية على تصدير المحاصيل النقدية واستيراد المحاصيل الأساسية، لكن هذه العملية تحكمها ضوابط النظام الرأسمالي من قبيل اتفاقيات التبادل الحر، وكذلك الديون، وهي آليات يجري بواسطتها إجبار دول على اتباع النموذج الزراعي الحديث الذي تحتكر الشركات متعددة الجنسيات جميع أطوار إنتاجه من المُدخلات الزراعية إلى التكنولوجية المطلوبة إلى التحكم في عملية البيع وشروطها وأثمناها.
ومقابل هذا، يجري التخلي على النمط الزراعي التقليدي المتوارث عند الشعوب، والذي قاوم التغييرات المناخية لقرون خَلَتْ، وهكذا يجري سلب سيادة الشعوب على غذائها ومواردها، وتُخضَع قوتها العاملة لأشد أشكال الاستغلال بشاعة وقسوة.
وما يزيد الطينة بِلَّة هو الطابع الاستخراجي لهذه الزراعات التصديرية، والتي يعني في مفهومه الواسع: نهب الموارد الطبيعية والبشرية والمالية، ومفهوم الاستخراجية يُمَكِّننا من تفسير التفاوتات الاجتماعية وتدمير البيئة، وفهم وتحديد العلاقات القائمة بين مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية، خصوصًا أن الزراعات التصديرية تُعَدُ أُحادِيةً وتستنزف المواد العضوية للتربة وتتطلب كميات كبيرة من الماء، نظرًا لعدم مقاومتها للعطش، ناهيك عن حاجتها الدائمة للاسمدة المُصنَّعة والمبيدات الكيماوية، بما يضر بالبيئة بقوة.
يسعى البنك الدولي الى جعل ما يسميه الأصول الثلاثة المحورية من: أرض وماء و”موارد بشرية” في خدمة الرأسمال تحت غطاء خدمة الفقراء ومحاربة الفقر.
وإلى جانب البُعد البيئي، نلمس الآثار الاقتصادية والاجتماعية على المزارعين الصغار الذين يعجزون عن منافسة المستثمرين الكبار والشركات متعددة الجنسيات، ما يضطر الكثيرين منهم إلى الهجرة أو العمل داخل المزراع الكبرى كأُجرَاء، ولهذا الأمر انعكاسات أخرى سياسية تتمثل في فقدان الشعوب السيادة على غذائها ووضع مصيرها بين أيدي حفنة ممن يراكمون الأرباح ويتحكمون في المؤسسات المالية الدولية.
ويسعى البنك الدولي الى جعل ما يسميه الأصول الثلاثة المحورية من: أرض وماء و”موارد بشرية” في خدمة الرأسمال تحت غطاء خدمة الفقراء ومحاربة الفقر، لكن النتائج المباشرة لهذه السياسات تؤثر بالسلب على حياة الفقراء وتسهل الاستحواذ على أراضيهم الصغيرة جدًا من قِبَل كبار الرأسماليين.
4- مخطط المغرب الأخضر 2008-2018
يتماشى مخطط المغرب الأخضر 2008-2018 مع رؤية البنك الدولي حول الزراعة من خلال تقريره السنوي لسنة 2008، ففي نفس السنة التي شهدت أزمة غذائية عالمية جرى تبني مخطط المغرب الأخضر من قِبَل الحكومة المغربية، وهي وصفة ليبرالية محضة جرى إنجاز دراستها من قبل مكتب “ماكنزي” الأمريكي وتمويله من قبل مؤسسات مالية دولية يتقدمها البنك الدولي بـ18% من مجموع المِنَح المالية، إلى جانب 20 مؤسسة مالية أخرى.
يقوم مخطط المغرب الأخضر على دعامتين: تتعلق الأولى بتطوير عمل المجموعات الاستثمارية المندمجة في الاقتصاد العالمي والعاملة في الزراعة الرأسمالية الكثيفة “ذات القيمة المضافة المرتفعة والإنتاجية العالية” مثل الطماطم والبواكر بصفة عامة، ثم إنتاج السكر وإنشاء مراكز جمع الحليب، وتربية الماشية، التي خُصص لها الحيز الأعظم من التمويل والإعانات الذي بلغ 85% من مجموع الاعتمادات المالية، فيما تتعلق الدُعامة الثانية بإلحاق المزارعين الصغار والمتوسطين بهذه المجموعات الرأسمالية عبر مشروعات التجميع باعتمادات بلغت 15%.
وحقق المخطط مجموعة من الأهداف الليبرالية، كان أبرزها: زيادة إنتاج الزراعات التصديرية مثل الفواكه من 2.900 هكتار سنة 2008 إلى 7.200 هكتار سنة 2018 كمساحة إجمالية، منها 50% مُخصصة لتوت الأرض، بينما تقلصت المساحة المزروعة بالحبوب لتبلغ 4,6 مليون هكتار في سنة 2018، مقارنة بـ 5,4 مليون هكتار في سنة 2008. هذا نموذج لبلد يعتمد غذاء مواطنيه على الحبوب والقطاني بشكل أساسي(5)!
5- الجيل الأخضر 2020-2030
تعتبر استراتيجية الجيل الأخضر 2020-2030 تتمة لمخطط المغرب الأخضر 2008- 2018، لذا يدعمها البنك الدولي بقروض مالية بنفس وتيرة المخطط السابق، كما أنَّ نفس مضامين مخطط المغرب الأخضر يسري العمل بها بالاستراتيجية الجديدة، والتي تعتمد على دعم الزراعات التصديرية مثل البواكر والخضروات والحوامض، في مقابل استيراد السلع الأساسية مثل الحبوب والقطاني والزراعات السُكَّرية، ومؤخرًا اللحوم الحمراء، وهذه نتيجة طبيعية لسياسة دامت 15 سنة من الدعم الكبير للزراعات التصديرية.
لا تزال النخبة الحاكمة في المغرب تواصل نهجها الليبرالي ضمن الاستراتيجية الجديدة من خلال توسيع عمليات التجميع في جميع سلاسل الإنتاج الفلاحي، والتحويل الصناعي للمنتجات الغذائية، ومضاعفة الصادرات الفلاحية، وتحفيز الاستثمارات الكبرى في البِنية التحتية الزراعية والمدنية، وتسخير الثروات المائية للزراعات التصديرية، في وقت يشهد فيه البلد جفاف غير مسبوق، بالإضافة إلى إنشاء محطات تحليَّة المياه في مناطق يتركز النموذج الزراعي التصديري، مثل محطة أكادير والداخلة والناظور، ناهيك عن عملية ربط السدود ببعضها البعض.
كما تواصل تلك النخبة تقديم الإعانات العمومية لكبار الرأسماليين الذين تعمل الدولة على تسهيل استحواذهم على الأراضي من خلال منحهم أراضي الدولة، والملك الغابوي (الغابات العامة والخاصة)، وتمليك أراضي الجماعات السلالية (وهي أراضي مملوكة للقبائل أو العشائر على سبيل المنفعة المشتركة)، خصوصًا تلك التي تُوجَد في المجالات السَقَّوِيَّة وتصلها مياه الري بسهولة.
لا تزال النخبة الحاكمة في المغرب تواصل نهجها في تسخير الثروات المائية للزراعات التصديرية، في وقت يشهد فيه البلد جفاف غير مسبوق.
بالإضافة إلى تعبئة مليون هكتار في مرحلة أولى عن طريق سن مجموعة من القوانين التي ترمي إلى تسهيل عمليات الكِراء والبيع للمستثمرين، بالإضافة الى البرنامج الخاص لتجهيز الأراضي الجماعية في إطار مشاريع التجميع(6)، بالإضافة إلى تهيئة المجالات الرَعوِيَّة والمراعي الغابوية لصالح كبار مالكي قِطعان الإبل والماشية.
6- مُخطط “أليوتيس” 2009-2020
في سبتمبر/شتنبر 2009 جرى إطلاق استراتيجية جديدة للصيد البحري تحمل اسم “أليوتيس” ولا يختلف هذا المخطط عن مخطط المغرب الأخضر، حيث جاءا معًا في نفس السياق الذي كان يتسم بأزمة غذائية عالمية، ويهدف مخطط “أليوتيس” إلى تهيئة البِنية التحتية اللازمة لكبار الشركات المُخصصة في مجال الصيد البحري، من خلال خلق ثلاثة أقطاب تنافسية كبيرة في كل من مدن طنجة وأكادير والعيون، بخاصة بعد الاتفاقيات التي أبرمها المغرب مع روسيا واليابان والاتحاد الأوروبي، لاستغلال المجال البحري للصيد المُكثَّف.
ويعتمد المخطط على تصدير الثروات البحرية من قِبَل الشركات متعددة الجنسيات، فكان مخطط “أليوتيس” استنزافيًا بالكُلِيَّة، وخطوة أخرى لإدماج المغرب في السوق العالمية، وهذا ما تؤكده الإحصاءات، فقد تضاعفت قيمة المنتجات البحرية بين سنة 2007 و2015 من 9.26 إلى 19.81 مليار درهم.
وفي الوقت الذي تضاعفت فيه صادرات المنتجات البحرية المغربية، لا يزال الشعب المغربي يجد صعوبة في الوصول للمنتجات السمكية المحدودة من حيث الأصناف وكذلك من حيث الكمية، إذ لا يتجاوز متوسط الاستهلاك عند المواطن المغربي من 10 إلى 12 كيلو غرامًا في السنة، وهو رقم بعيد عن متوسط الاستهلاك الفردي العالمي الذي يبلغ 20 كيلو غرامًا، في بلدٍ يتوفر على 3500 كيلو متر من السواحل.
في خِضَم هذا يعيش الصيادون الصغار والمنتجون الأساسيون للثروات السمكية على واقع البؤس والتضييق، فتكلفة الإبحار مرتفعة وأثمنة البيع تتحكم بها مجموعة من الشركات المحتكرة للموانئ، ناهيك عن كثرة القوانين التي لا تُطبق إلا على صغار الصيادين بحجة استدامة الثروات البحرية فيما تُغمِضُ أعينها على سفن الشركات العابرة للقارات التي تستنزف الثروات البحرية(7).
7- الانتقال الزراعي العادل
يقوم الإنتاج الزراعي الرأسمالي على الزراعات التصديرية والاستخراجية المفرطة، وهذا ما يجعله عائقًا أمام تحقيق العدالة الغذائية والاقتصادية، لذلك يهدف الانتقال الزراعي العادل إلى الانتقال نحو زراعة مُستدامة إيكولوجيًا يقودها السكان، بغض النظر عن لونهم أو اعتقادهم أو جنسهم أو لغتهم، كما يهدف إلى احترام النظم الزراعية الموروثة مثل الزراعة المعيشية باعتبارها ثقافة غذائية.
فمن أجل انتقال زراعي عادل، يتعين علينا فهم واسع وشامل لحجم الدمار الذي يَخْلُفُه الإنتاج الزراعي السائد، ولاسيما الكارثة البيئية على مستوى استنزاف الموارد المائية وتوالي الجفاف، ما يُشَكِّلُ إحىد المُعيقات الرئيسة لتحقيق العدالة الغذائية(8).
ويتماشى مفهوم الانتقال الزراعي مع السيادة الغذائية والشعبية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وسيادة الشعوب على مواردها ومصيرها، وعلى عكس الإنتاج الرأسمالي الذي يتم التخطيط له داخل مكاتب المؤسسات المالية العالمية في أمريكا وأوروبا ويطبق ببلدننا، فإنَّ الانتقال الزراعي العادل لا يقوم على دمج صغار الفلاحين وأصحاب الحيازات العائلية وغيرهم من المنتجين الصغار فحسب، بلْ يقوم على جعلهم في ريادة التخطيط وتنفيذ السياسة الفلاحية التي تقود إلى العدالة والسيادة الغذائية.
بالإضافة إلى ذلك، يهدف الانتقال الزراعي العادل الى نهج زراعة بيئية سليمة وصحية، تحافظ على الموارد الطبيعية واستدامتها، وتحترم التنوع البيولوجي والدورة الزراعية، وتعتمد على الأسمدة العضوية الطبيعية.
فحسب منظمة “لافيا كمبيسنا” (نهج الفلاحين) فإنَّ الزراعة البيئية تعتبر بديلًا زراعيًا ضد الزراعات الصناعية المُوجَّهة للتصدير، وضد تسليع الغذاء والإتجار فيه داخل البورصات العالمية، وضد المؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية التي ترعى هذا النموذج الزراعي، وبذلك فالزراعة البيئية هي ركن من أركان السيادة الغذائية التي تهدف إلى المشاركة السياسية لصغار المزارعين بمن فيهم النساء والسكان المحليين، وهي نابعة من اهتمامات الفلاحين وتطلعاتهم واحتياجاتهم ومشاركاتهم وليست مبنية على مقتضيات الأسواق ومتطلبات الربح.
لا يقوم الانتقال الزراعي العادل على دمج صغار الفلاحين فحسب، بلْ يقوم على جعلهم في ريادة التخطيط وتنفيذ السياسة الفلاحية التي تقود إلى العدالة والسيادة الغذائية.
كما نجد في تعريف السيادة الغذائية الذي اعتمده مؤتمر “تليني” من أجل السيادة الغذائية سنة 2007 تعريفًا آخر للزراعة البيئية، إذ قرر أنَّ: “مِن حق الشعوب والمجتمعات المحلية والبلدان في تحديد سياساتها الخاصة بالزراعة والعمالة الزراعية وصيد الأسماك والغذاء والأراضي بطريقة ملائمة بيئيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا لظروفها. ويشمل ذلك الحقَّ في الغذاء وإنتاج الغذاء، إذ إنَّ لجميع الناس الحق في النفاذ لغذاء آمن ومغذٍ ملائم ثقافيًا، والنفاذ لموارد إنتاج الغذاء والقدرة على إعالة أنفسهم ومجتمعاتهم، لذا تُولِي استراتيجية السيادة الغذائية الأولوية لحقوق الناس والمجتمعات المحلية في إنتاج الغذاء واستهلاكه، وذلك فوق الاعتبارات التجارية والأسواق العالمية”.
فقرة ختامية
يستدعي واقع النتائج الكارثية للسياسات النيولبرالية المُطبَّقة على منطقتنا، بخاصة القطاع الفلاحي، نضالًا موحدًا على جميع الأصعدة، وتعتبر القمة المضادة لاجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد التي تحتضنها مراكش في هذه السنة، فرصةً أخرى للتنديد بهذه السياسات، ودحض المفاهيم الاستعمارية التي تتبناها، وهي فرصة أيضًا للدفاع عن مفاهيمنا النابعة من قلب المعنيين الحقيقين بإنتاج الغذاء، كمفهوم السيادة الغذائية الذي تحاول هذه المؤسسات المالية الدولية وحلفاؤها المحليون السطوَ عليه وإفراغَ مضمونه الشعبي والسيادي.
يستلزم النضال من أجل السيادة الغذائية السعي لوقف التسديد الفوري للديون، فالديون لعبت دورًا محوريًا للسطو على ثروات شعوبنا منذ عقود، كما يستدعي بالضرورة النضال من أجل طرد صندوق النقد والبنك الدولي من التدخل في شؤوننا، ووقف اتفاقيات التبادل الحر باعتبارها اتفاقيات استعمارية ساهمت في ترحيل ثرواتنا نحو الشمال مقابل رهن سيادتنا على غذائنا بين أيدي الشركات العابرة للقارات.
حفصة هجيري\ المغرب
المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الرابع: “هذا من عمل البنك والصندوق.. 40 عامًا من التخريب النيوليبرالي لسيادتنا الغذائية“.
يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط
المراجع
1- اريك توسان كتاب طغيان البنك العالمي، ترجمة اطاك المغرب فبراير 2019، ص 308
2- لوسيل دوما، أطاك المغرب كتاب التبادل الحر اتفاقيات استعمارية ضد الشعوب، ماي 2015، ص10
3- إبراهيم أوباها، أطاك المغرب كتاب التبادل الحر اتفاقيات استعمارية ضد الشعوب، ماي 2015، ص29
4- أطاك المغرب، دراسة دفاعا عن السيادة الغذائية بالمغرب، ص158
5 – حصيلة مخطط المغرب الاخضر، ارقام وزارة الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات، https://www.achdartleflaha.ma/
6- تعبئة العقارات المملوكة للجماعات السلالية من أجل الاستثمار، http://www.terrescollectives.ma/Pages/ar/mobilisation.cshtml
7- دراسة واقع اليوتيس http://kanouni-maroc.blogspot.com/2021/07/blog-post_87.html
8- صقر النور نحو انتقال عادل في القطاع الزراعي بشمال أفريقيا https://drive.google.com/file/d/1y7cYtARLEJSXgXbcQGWjQQTyyrEhArad/view