مقهى غربي بوسط بالبلد بجوار الجامعة الأمريكية، صاخب للغاية، مليء بالشباب والشابات الأجانب، تصدح في أرجائه موسيقى صاخبة نوعا ما. الحيوية والنقاشات العالية تغلب على الطاولات المجاورة لنا، تليق بهذا اللقاء الذي جمعني بالدكتور يان داو فان در بلوخ، أستاذ الاجتماع الريفي في جامعة “واجينينغن” بهولندا، قبيل دقائق من بدء جلسة النقاش التي أقامتها الجامعة الأمريكية الأسبوع الماضي بعنوان “السلطة والسياسة من خلال الكلمات المفتاحية وسياسة الأرض”.
نشأ يان في شمال هولندا، والتحق بجامعة “فاجينينجن” الزراعية حيث حصل على درجة مهندس زراعي عام 1976.
وفي الجامعة تخصص في علم الاجتماعي الزراعي للدول غير الغربية واقتصاديات التنمية وأساليب وتقنيات البحث الاجتماعي.
في شبابه أمضى أكثر من عام في بيرو، درس خلالها تناقضات عملية الإصلاح الزراعي التي كانت تجري في هذا الوقت ، بعد أن أكمل بحثه الميداني قام بتأليف كتابه الأول “المستقبل المسروق” الذي قارن فيه بين نمط التنمية الذي تطور داخل المجتمعات الفلاحية المحلية بالنمط الذي فرضته الحكومة.
توصل يان بالتعاون مع مجموعة بحثية إلى أن “التنمية الريفية” ليست مجرد برامج سياسية أو خطابات، إنها ظاهرة واعدة وواسعة الانتشار، تستند إلى ممارسات المزارعين، تتمتع بإمكانيات هائلة وقد سلط الضوء على ذلك في كتاب مشترك بعنوان “أطلس الأراضي الريفية المزدهرة”، الذي نشر باللغة الإنجليزية تحت عنوان “تجديد الريف”.
للدكتور يان العديد من الدراسات والكتب التي مسح خلالها البلاد شرقا وغربا بحثا عن مفاهيم جديدة لما أسماه “السيادة الغذائية”، كان من بينها كتاب “المزارعون الجدد” ويكشف فيه عن ظاهرة تحدث عالميا وهي أن هجرة الفلاحين للأعمال الزراعية تقابلها زيادة أعداد المزارعين الجدد من الشباب المزدهر الذي يرغب في الزراعة وينجح في إحداث نقلات جديدة في الزراعات المستدامة.. فإلى نص الحوار..
ـ تطرح مفهوما مشابها للأمن الغذائي وتطلق عليه “السيادة الغذائية” .. نود فهم هذه الفكرة أولا؟
بالنسبة للأمن الغذائي فإن الزراعة الفلاحية هي أكبر ضمانة لتحقيق السيادة الغذائية، لأن الزراعة الفلاحية تتسم بالاستدامة والاستمرارية للأسروالعائلات والأراضي والأسواق، ولو عقدنا مقارنة بينها وبين الزراعة الرأسمالية العادية فإن الأخيرة تهدف لتحقيق الأرباح قبل وبعد أي شيء، بينما الزراعة الفلاحية تهدف لتحقيق استمرارية الحياة للأسر المنتجة والمزارعين واستدامة المزارع ثم الأسواق بطبيعة الحال.
ولا يخفى على أحد أن الزراعة الرأسمالية بمفهومها الواضح والمباشر تتوجه مباشرة إلى الأسواق، والأسواق بدورها مرتبطة بأسعار السلع هبوطا وارتفاعا، ولا يعنيها سوى تحقيق الربح، هذا ليس ذما في رأسمالية الزراعة وإنما توصيفا للحالة العامة للسوق، أضف إلى ذلك أن الزراعة الرأسمالية قد تنهي أعمالها وتفض مشروعاتها إذا وجدت أنها لا تحقق هامش الربح المطلوب، بينما لا يستطيع المزارع فض أعماله لمجرد أنه خسر في موسم زراعي.
ـ ما مفهومك للزراعة الفلاحية؟
هي الزراعة التي يقوم بها الفلاحون أنفسهم هم وأبناءهم، في حيازاتهم الصغيرة أو الكبيرة.. هي الزراعة الأسرية التي لا تقوم أعمالها من خلال الشركات.
ـ لكن الشركات لا تتوقف بهذه السهولة عن الإنتاج إذا حققت خسائر؟
في السنوات القليلة الماضية، خاصة أثناء أزمة “كوفيد 19″، لاحظنا ظاهرة وهي تكرار غلق مزارع ضخمة مملوكة لشركات لأنها لم تعد تحقق المكاسب المخطط لها نتيجة لمشاكل لوجيستية، وتوقف شركات كبرى عن الإنتاج الزراعي لأن هامش الربح أصبح أقل من المخطط له، بينما لم يتوقف المزارعون حول العالم عن الإنتاج الزراعي، وهو ما أدى لصمود الغذاء وتحقق وفرته أمام الأزمات الدولية الكبرى.. نستطيع القول إن الزراعة الفلاحية هي أهم ضمانة لاستمرار تدفقات الموارد الزراعية.
ـ في مصر نحو 80% من الإنتاج الحيواني يأتي عن طريق المربين وليس شركات الإنتاج الحيواني.
بالطبع النسبة الأكبر من الإنتاج الزراعي والحيواني تأتي عن طريق المزارعين والمربين، دعني أخبرك أن حوالي 75% من الغذاء المنتج عالميا يأتي بشكل أساسي عن طريق المزارع الفلاحية أو أراضي المزارعين، وهي بالطبع النسبة الأكبر والغالبة التي تقوم بتغذية الكوكب كله.
ـ حتى نفهم أكثر مفهوم السيادة الغذائية، هل هناك تجربة ماثلة أمامك لدولة استطاعت تحقيق مفهوم “السيادة الغذائية” بالكامل عالميا؟
التجربة الأكثر وضوحا لتحقيق مفهوم السيادة الغذائية الصين، هناك سوء تفاهم واضح حول التجربة الصينية من أنها احتكرت أو تحكمت في أدوات الإنتاج بالكامل لنفسها كدولة، وما حدث خلاف ذلك تماما، حيث تمنح الأراضي لزراعتها من قبل الفلاحين وأبنائهم ولا تتحكم في تسعير السلع المنتجة، لكنها تنظم السوق، ونجحت في تحقيق السيادة الغذائية لسائر البلد الذي قوامه مليار و400 مليون نسمة. التنمية الزراعية في الصين بدأت من الإصلاح الزراعي الأول سنة 1950 حتى اللحظة، بنفس النهج والخطط والاستراتيجيات وإن كانت تخضع لبعض التغيرات على مدار السنين، لكن الرؤية واضحة للإصلاح الزراعي وإحداث التنمية الزراعية تزيد بالتوازي مع النمو الاقتصادي الشامل.
في نفس الوقت هناك انحسار شديد ومستمر في معدلات الفقر في الصين، بخلاف العديد من الدول الأفريقية التي تتزايد فيها معدلات الفقر وتهميش المزارع الفلاحية والفلاحين أنفسهم بينما تتزايد أرقام الشركات الزراعية الكبرى في هذه الدول الأفريقية.
ـ كيف حدث هذا؟ ما الإجراءات التي قامت بها الدولة؟
الصين بلد غني جدا في تطبيق سياسات زراعية متعددة، بعكس الغرب الذي يهدف لرفع الدعم عن المزارع من أجل زيادة مساحات السوق الرأسمالي، هناك العديد من الإجراءات التي تتخذها الصين مثل الزراعات التعاقدية وتحقيق دورة زراعية متوازنة وتحقيق الاستدامة.
في الصين كل أسرة من المزارعين لديها قطعة أرض تقوم بزراعتها لصالح الأسرة وكان متوسط حيازة الفلاح الصيني 5 مو، و “المو” وهي وحدة قياس أقل من الهكتار (6 الاف متر تقريبا)، ومع الزيادة السكانية زادت هذه المساحة قليلا والشاهد في هذا الأمر ليس المساحة الكبيرة ولكن كفاءة استغلال المساحة.
دعني أؤكد أن هكتار واحد جيد من الأراضي يمكن أن تحصل منه على دخل جيد إذا أحسنت استغلاله وإدارته.

ـ كيف تنجح الزراعات الفلاحية من وجهة نظرك في تحقيق مفهوم السيادة الغذائية؟
ليس هناك طريق واحد معبد وسهل، لكن هناك طرق لا حصر لها لتجارب الدول التي انتهجت هذا النهج. في الزراعة الفلاحية مثلا لا يوجد أجر واضح للعمالة الزراعية التي قوامها الأسرة سواء الأخوة والأخوات أو الأبناء أو الأب والأم وهكذا، وبالتالي فهم ليسوا عمالا زراعيين، وفي الزراعة الفلاحية لا يوجد نمط ملزم بالسوق الحرة، لكن هناك أنماط للإنتاج الزراعي الصحيح والممارسات الزراعية السليمة.. في البرازيل مثلا أنتجت ما تسمى بـ “اقتصادات المقاومة” أسواقا صغيرة للمزارعين بعيدا عن السوق الرأسمالي، وأصبحت عماد أعمالها هذه الأسواق الصغيرة.
في اليابان ـ مثلا ـ هناك 50 ألف سوق للمزارعين أنفسهم.. في هذه الأسواق يتقابل المنتجون مع المستهلكين في الأسواق مباشرة وجها لوجه بعيدا عن الوسطاء وبهذا يتحرر المزارع من شروط الأسواق التقليدية بمفهومها الغربي.
ـ على ذكر الإصلاح الزراعي في الصين.. كيف تقيم تجربة الإصلاح الزراعي في مصر؟
تجربة الإصلاح الزراعي في مصر بدأت كبيرة مشحونة بأفكار كبرى طالت نحو 44% من الأراضي المصرية، إلا أن هذه السياسات تراجعت مع الوقت وتغير الحقب السياسية وصدرت قوانين ضد الإصلاح الزراعي نفسه، وبالتالي لم يكتب لهذه التجربة أن تستمر.
ـ هل تطبيق الإصلاح الزراعي يعتبر حلا في مصر لإحداث نقلة في الإنتاج؟
بالطبع لا أستطيع أن أقول نعم أو لا، كل دولة لديها مقوماتها وتجربتها الخاصة والفريدة جدا وما يمكن أن نقوله عن الصين ليس بالضرورة صالحا لمصر والعكس صحيح، كل بلد يجب أن يكتشف خصوصيته وتجاربه الذاتية الملهمة سواء باستنهاض التعاونيات الزراعية أو باستنهاض سياسات جديدة لتحقيق الوفرة في الإنتاج الزراعي، وبالتالي لا توجد روشتة واضحة لمصر ولكن هناك مبادئ عامة حاكمة في العملية الزراعية يجب الاهتمام بها، وهي الاهتمام بالعنصر الأساسي المنتج للغذاء عالميا وهو الفلاح، والاهتمام بالموارد الطبيعية مثل المياه والأراضي، والاهتمام بأوضاع المزارع بشكل عام.
تهتم الجامعات والدراسات الأكاديمية حول العالم بالدراسات التي تقدم حلولا للإنتاج الزراعي بعيدا عن العامل البشري، بل وبدون الاعتماد على العامل البشري قدر الإمكان لتوسيع نطاق الاستصلاح الزراعي وتحقيق أكبر عائد من الزراعة عبر تقليل أجور العمالة الزراعية لأقل حد ممكن، لكن التجارب العملية تثبت أن الاهتمام بالعامل البشري هام إذا وضعنا في الاعتبار الاستدامة وتحقيق النهوض بالقطاع الريفي ككل.
ـ على ذكر قطاع التعاونيات.. ما تصورك للعمل التعاوني؟ هل يتطور عالميا أم ينحسر؟
هناك مشاكل في كافة أنحاء العالم فيما يخص التعاونيات.. الطبيعي أن تستخدم كأداة لنقل الفائض عن حاجة المزارعين من المنتجات الزراعية من القرى إلى المدن أو للتصدير، وهنا حديثي عن الجمعيات التعاونية التي تقوم بتسويق المحاصيل، ثم نجد أن بعضها يدار عن دريق الحكومة مباشرة، وبعضها يدار عن طريق الأعضاء، وفي الإجمال لا نهوض للقطاع الزراعي إلا بزيادة الاعتماد على التعاونيات التي يقودها أصحاب المصلحة أنفسهم وهم المزارعون.
ـ كيف تقيم إصدار “شهادات الكربون” للمزارع البيئية؟ هل تعتبرها تسليعا لأزمة المناخ أم طريقة حقيقية وفعالة للحد من الأزمة؟
شهادات الكربون من حيث المبدأ مفيدة للغاية، وهي وسيلة لتشجيع المزارعين على الحد من التلوث وزيادة إنتاج الأشجار ومساحات التشجير عالميا وبالتالي الحد من الانبعاثات. السؤال من هو الذي يتحكم في إصدار شهادات الكربون؟ هل البنوك والشركات الاستثمارية أم الحكومة؟ النظرية جميلة بلا شك لكن التطبيق يحتاج للنقاش.
- للاطلاع على النص الأصلي للحوار اضغط: هنا
للاطلاع على كتاب “الفلاحون وفن الزراعة” لـ يان داو فان در بلوخ: اضغط هنا