لا يشكل الاستحواذ على الأراضي “ظاهرة طبيعية” ملازمة للعولمة التي لا بديل لها. في الواقع، لقد تطورت في إطار سياسي دولي ووطني بفضل التشريعات والأنظمة (و/أو إلغائها) والاحتكار القانوني والأمني للدول. فالسياسات المشجعة للاستيلاء على الأراضي والممتلكات العامة لها أبعاد عدة، وهي مترابطة ومتنوعة بحسب السياق السياسي والقانوني. إنها غالبًا ما تكون مبهمة ومصحوبة بفساد النخب الوطنية التي تدافع عن مصالحها الخاصة. نادرا ما يشارك السكان المعنيون في تطويرها. يصف هذا المقال عددًا من التطورات العالمية التي تضع السياسات الوطنية والمحلية في سياق أوسع.
التشريعات المعززة لتسليع الأراضي
إذا كانت الأراضي والمياه في السابق تقع عمومًا ضمن اختصاص السلطات الوطنية، وجزئيًا، السلطات المحلية، فقد كان هناك اتجاه حديث نحو تسليع هذه الممتلكات العامة على مستوى التجارة الدولية الحرة. والنتيجة هي انخفاض مطرد في الاستخدام المجتمعي وفي إجراءات السياسة العامة لضمان استخدام الأراضي والمياه لإنتاج الغذاء المحلي، تحت سيطرة السكان. فمن ناحية، هناك تحرير متزايد لأسواق الأراضي، مثل إزالة الحواجز التي تحول دون بيعها للأجانب. يبين عدد من الحالات أنه في البلدان التي لا تزال توجد فيها قوانين تحظر بيع الأراضي إلى جهات دولية، يجري استخدام تشكيل كيانات قانونية للتحايل عليها. رومانيا مثال جيد على هذا الاتجاه. في هذا البلد، لا يُسمح لأي شخص اعتباري أو كيان خاص أجنبي بشراء الأراضي إلا إذا كان لديه كيان مماثل على المستوى الوطني. ومع ذلك، عندما تنسحب هذه الشركة الوطنية من الصفقة، يحق للكيان الدولي الاحتفاظ بالأرض. لذلك من الشائع أن تتم عمليات الشراء من خلال شركة وطنية، والتي لا تكون في بعض الأحيان أكثر من شركة وهمية، من أجل إبرام العقد.
هناك اتجاه ناشئ آخر يتمثل في إلغاء التشريعات التي تحمي استخدام المجتمع المحلي، بوسائل مختلفة، مثل إلغاء القوانين التي تحمي الأراضي المجتمعية وأراضي السكان الأصليين وتحظر بيعها. كان هذا هو الشرط المفروض على المكسيك قبل انضمامها إلى اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. أما في أوروبا، فرغم من أن معظم الإنتاج يتم من قبل الأفراد، إلا أن البلديات والقرى لا تزال تمتلك الأراضي المجتمعية المستخدمة لتربية الماشية، والتي يجري خصخصتها بشكل متزايد. وفي حالات أخرى، تُعتبر الأراضي ملكًا للدولة ” عامة “، ما يفرض الشروط لبيعها أو امتيازها دون التشاور مع السكان المحليين.
في تركيا، وُضعت الأراضي الجماعية القروية، التي تديرها البلديات، بعد إعادة تنظيم الإدارة الإقليمية تحت إدارة الدولة الوطنية، مما يسهل خوصصتها. في الهند، كما هو الحال في بلدان آسيوية أخرى، لا تزال البقايا التشريعية لنزع الملكية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية (الاستملاك، الذي يعادل نزع الملكية الإدارية للمنفعة العامة)، والتي سمحت للمستعمرين بالاستيلاء على أي نوع من الأراضي، تستخدم لهذا الغرض، لصالح مشاريع التعدين، مثلا. لا تستخدم عدة بلدان سجلات مركزية للأراضي. وقد ثبت أن هذه الآلية تمثل جانبًا غامضًا للغاية، وتختلف الحالات باختلاف الإقليم. فمن ناحية، يشكل منح سندات الملكية الفردية أهمية كبيرة للشركات، لأنه مقارنة مع نظام الأراضي المجتمعية، تساعد هذه السندات على “تعزيز” سوق الأراضي. بالإضافة إلى ذلك، تعد سجلات الأراضي أداة مهمة لضمان الأمن القانوني للشركات متعددة الجنسيات (على سبيل المثال، حماية استثماراتها بموجب اتفاقيات التجارة الحرة). ونتيجة لذلك، كان هذا النظام أحد التوجهات الرئيسة التي روج لها البنك الدولي، لا سيما في سياق “الإصلاح الزراعي القائم على السوق”. غير أن انعدام سجلات الأراضي مكّن السلطات المحلية أو الوطنية من تزوير سندات ملكية الأراضي، من خلال الإعلان عن أن الأرض المعنية “غير مزروعة”. بهذه الطريقة وبمجرد تسجيل الأرض في سجل الأراضي، يمكن الاستيلاء على الأراضي في “شرعية” كاملة.
يشجع الجيل الجديد من الاتفاقيات ومناطق التجارة الحرة على الاستيلاء على الأراضي والمياه على نطاق واسع. بموجب هذه المعاهدات الجديدة يحظر على الدول اتخاذ تدابير لمنع الأجانب من الاستيلاء على الأراضي بحجة أن القواعد المتعلقة بالاستثمار يجب أن تكون هي نفسها للمستثمرين الوطنيين والدوليين. كما أنها تنص على إدخال نظام عقوبات لحماية هذه الاستثمارات واسعة النطاق.
التشريعات المشجعة على احتكار المياه الداخلية والبحرية
تتخذ التشريعات التي تستثني على نحو متزايد أولئك الذين يعملون في الصيد التقليدي وصيد ثمار البحر بالأيدي على الساحل عدة أشكال:
تؤدي حصص الصيد إلى إقصاء الحرفيين غير الصيادين. كثيراً ما تطرح في خطاب حماية البحار، الحصص التي تؤدي إلى تلك الحقائق، نقل الحقوق القانونية التي يملكها الحرفيون الصيادون نحو الصيد الصناعي. يرافق هذا تقليص الأميال البحرية التي تحدد المناطق المحظورة على سفن الصيد الكبيرة. بينما يجري التفاوض على وصول الصيد الصناعي إلى المياه الإقليمية تشجع الاتفاقيات الشركات التجارية هذا النوع من التطوير. يشرح ليدر غونغورا Líder Góngora، ممثل المنتدى العالمي لصيادي الأسماك- هذا الوضع: “من قبل، كان لدينا في الإكوادور200 ميل بحري، منها اثنا عشر ميلًا بحريًا محجوزة لمناطق الصيد الوطنية. وكان بإمكان أي شخص الحصول على ترخيص لـ 188 ميلاً المتبقية. أما اليوم، جرى خفض مناطق الصيد الوطنية إلى ثمانية أميال؛ وفي بلدان أخرى مثل الصين، أصبحت ثلاثة أميال فقط. وفي الوقت نفسه، تستخدم الأساطيل الكبيرة التكنولوجيا الحديثة لجذب الأسماك باستخدام الموجات فوق الصوتية أو الضوء. ويحصل الصيد الصناعي على حصص للصيد. يمكن للصيادون الأكوادوريون أن يصطادوا 80% من الأسماك، بينما يصطاد قطاع الصيد الصناعي الدولي 20%. لكن كميات الأسماك انخفضت، لذلك سنصطاد في العام المقبل 60% فقط ثم 40%، هكذا نفقد الأراضي”.
كما هو الحال بالنسبة للاستحواذ على الأراضي، فإن الاستيلاء على غابات المانغروف ينطوي أيضًا على امتيازات وعمليات وشراء الأراضي. في العديد من الحالات، يجري بعد ذلك إضفاء الشرعية على المنشآت المشيدة بشكل غير قانوني.
التشريعات المشجعة على خوصصة البذور
أطلقت الثورة الخضراء النهوض بالبذور الهجينة. بينما لا يزال معظم الناس في الجنوب يستخدمون البذور التقليدية، يجري تجريم بيع هذه البذور بشكل متزايد. وقد تعزز هذا الاتجاه الأخير من خلال توحيد قوانين حماية براءات الاختراع وقوانين “حقوق مربو أصناف النباتات”، التي تحكم إنتاج وإعادة إنتاج والتسويق والاستيراد والتصدير وكذلك تصدير وحيازة البذور. بموجب التشريع، يجب أن تستوفي البذور المعايير التالية معايير “الثبات” و”التماثل” و”الحداثة”. هذا يعني أن جميع النباتات التي يجري الحصول عليها من هذه البذور يجب أن تكون متماثلة تمامًا، وهوشرط لا يتوفر في البذور التقليدية. هذه الاخيرة، التي جرى تطويرها وتبادلها على مدى آلاف السنين وأثبتت الممارسات أنها تتكيف بشكل أفضل مع الأراضي.
يتزود عدد متزايد من البلدان بأنظمة إصدار الشهادات والتسجيل، التي بدونها يحظر بيع البذور. في الاتحاد الأوروبي، باستثناء عدد قليل من التجارب الزراعية الإيكولوجية، فإن البذور التجارية تُستخدم على نطاق واسع. إن الحصول على بعض الإعانات مشروط بإثبات استخدام البذور المعتمدة. هناك عامل آخر يتعلق بترويج وتوزيع البذور المعدلة وراثيًا، وهو ما تعارضه حركة لا فيا كامبيسينا بشدة. أدى استخدام هذا النوع من البذور إلى زيادة استخدام المواد الكيميائية الزراعية وانخفاض التنوع البيولوجي (الزراعي) وتلوث الموارد الطبيعية. بسبب نقص الدراسات المستقلة، لا يُعرف الكثير عن عواقبها الحقيقية. رغم ذلك، فقد كشفت الدراسات القليلة التي أجريت على الحيوانات من قبل مختبرات مستقلة عن معدلات عالية من السرطان وتلف الأعضاء الداخلية. نتيجة لذلك، يؤدي هذا التطور إلى زيادة خوصصة البذور التي تحميها التشريعات لصالح الفاعلين الاقتصاديين. من خلال ما يسمى بالتحالفات من أجل الأمن الغذائي (مثلا، التحالف الجديد من أجل الأمن الغذائي والتغذية الذي أطلقته بلدان مجموعة الثمانية) واتفاقيات التجارة الحرة، يجري تشجيع المصادقة على اتفاقية الاتحاد حماية الأصناف الجديدة من النباتات المعروفة باسم. ” UPOV 91 ” تنظم هذه الاتفاقية براءات الاختراع وحقوق منتجي أصناف النباتات. لذا فإن الدفاع عن أراضينا ينطوي أيضًا على النضال من أجل حرية استخدام وبيع البذور التقليدية. يجب أن تكون للمزارعين القدرة على الاستفادة من شروط مختلفة لتسجيل البذور الإيكولوجية. يدافع المزارعون عن حرية استخدام البذور وبيعها ليس فقط باعتبارها موردًا إنتاجيًا، بل أيضًا لأنها أساس الغذاء والحياة. بالإضافة إلى ذلك، ترتبط البذور في العديد من الأماكن ارتباطًا وثيقًا بالطقوس والثقافة ومعارف الأجداد التي تضمن النساء انتقاء معظمها. في هذا الصدد، تعتبر البذور من الممتلكات العامة التي يجب أن تبقى السيطرة عليها ورعايتها في أيدي الناس.
اتفاقيات التجارة الحرة وحماية الاستثمارات
تمثل اتفاقيات التجارة الحرة والاتفاقيات الإقليمية واتفاقيات حماية الاستثمار قوة جبارة لتعزيز عمليات تسليع وخوصصة الأراضي والمياه ومصايد الأسماك والبذور. بينما يركز النقاش العام غالبًا على آثار تجارة السلع الحرة، تؤثر في الواقع على العديد من المجالات الأخرى. أولاً وقبل كل شيء، تتعلق هذه المعاهدات والاتفاقيات بأسواق المنتجات التي تهدف إلى إزالة الحواجز الجمركية وتنظيم الأسعار وإنشاء مناطق التبادل الحر. هنا، يجري وضع المزارعين في منافسة “حرة” مع الشركات متعددة الجنسيات التي تتمتع بوصول واسع إلى رأس المال. تؤدي الإعانات التي يمنحها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية إلى تفاقم المشكلة، حيث أدت إلى الإفراط في الإنتاج وإغراق الأسواق في البلدان الأخرى بالمنتجات بأسعار إغراقية. Dumping إن هذه الممارسة هي أحد أسباب اختفاء المزارع الصغيرة التي تزود الأسواق المحلية بالمواد الغذائية. بالإضافة إلى ذلك، تزيل هذه المعاهدات إمكانية قيام الدول بما يلي تنظيم الاستثمارات (في الأراضي والمياه وشركات تصنيع الأغذية) أو الخدمات (توفير الخدمات الأساسية مثل مياه الشرب والطاقة). تعزيز قواعد الملكية الفكرية (التنوع البيولوجي والبذور والأدوية). ومن وجهة نظر قانونية، فإن الدساتير والقوانين والتشريعات الوطنية يجب أن تتكيف مع اتفاقيات التجارة الحرة المتوقعة. بهذه الطريقة، يجري القضاء على الطبيعة الديمقراطية للقرارات العامة. علاوة على ذلك، جرى انشاء ” محاكم تسوية النزاعات التجارية “بين البلدان فضلاً عن إمكانية قيام الشركات باتخاذ إجراءات قانونية ضد الحكومات عند حرمانها من أرباحها. بحيث أن العقوبات التي تطبقها هذه الآلية قاسية. واجهت عدة دول موجة من الشكايات لمجرد أنها اعتمدت سياسات عامة لحماية البيئة أو الصحة. في حين أن هذه الاتفاقيات لا تنص على أي شكل من أشكال العقوبات ضد الشركات التي ترتكب جرائم ضد حقوق الإنسان وقانون العمل والصحة، أو المسؤولة عن تلوث البيئة. لذلك تعارض حركة لا فيا كامبيسينا بشدة هذه المعاهدات، التي لا تؤدي فقط إلى المنافسة غير العادلة بين المنتجات، بل تعزز أيضًا احتكار السلع والخدمات العامة وتدهور حماية المستهلك والصحة والطبيعة. إنها إلغاء للطبيعة الديمقراطية للدول الوطنية وتجاوزها وتشجيعها من قبل أو من أجل الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات الدولية غير الديمقراطية.
يشكل إنشاء تحالفات وشبكات إحدى طرق تعزيز السياسات الزراعية. تسعى "الشراكات قطاع عام - خاص" إلى التأثير على السياسة العامة على أعلى المستويات وتمكين تنفيذ المشروعات مع الفلاحين/ات. ومن الأمثلة على ذلك، يبرز التحالف الجديد من أجل الأمن الغذائي والتغذية، الذي أطلقته بلدان مجموعة الثمانية من أجل أفريقيا والذي يجمع بين ممثلي الحكومات والأعمال الصناعية الزراعية، يضم المشاركون فيه جميع الشركات الرئيسة في قطاع الأغذية الزراعية: صناعة المدخلات (البذور والأسمدة والمبيدات) والمستثمرين المحليين والدوليين في الأراضي، وكبار الصناعيين والتجار في قطاع الأغذية. حتى الآن، جرى توقيع اتفاقيات مع ستة بلدان أفريقية.
تحت شعار"مكافحة الفقر والجوع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى"، يشجع البرنامج على: اعتماد قوانين بشأن براءات الاختراع وحقوق منتجو أصناف النباتات في مجال البذور من نوع (UPOV 91)؛ واستخدام الأسمدة والمبيدات الحشرية؛ وتحرير أسواق الأراضي والمياه وتنشيطها؛ وتوفير خدمات مثل البيانات الجغرافية لتعزيز "الاستثمار" في الأراضي. بالإضافة إلى ذلك، تشمل مشاريع التحالف الجديد "الزراعة التعاقدية" وتمويل وإقناع الفلاحين/ات بإنتاج مواد أولية للسوق العالمية، ثم بيعها إلى نفس الشركات متعددة الجنسيات. على المستوى الوطني، تقوم وكالات "التعاون الإنمائي" أيضًا بإقامة هذا النوع من التحالف بين القطاع الخاص والجهات الفاعلة الحكومية. بهذه الشاكلة، يصبح التعاون الإنمائي مخوصصًا، لكن تشجيع مصالح الشركات يتم تمويله أيضًا من المال العام.
- الإطار 6: التحالفات التي تعزز السياسات التي تشجع على الاستيلاء على الأراضي
الاقتصاد الأخضر وآليات الحد من الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهور الغابات REDD و REDD+
على مستوى الساحة الدولية، يجري تشجيع الاقتصاد الأخضر بهدف حماية الطبيعة وإبطاء تغير المناخ. بعيدًا عن نموذج النمو المستمر، فإن هذا المفهوم يشجع بوجه خاص، على تسليع الطبيعة مثل وآليات الحد من الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهور الغابات REDD و +REDD . هذه الآليات تستند إلى فكرة أنه من أجل حماية الطبيعة، يجب إعطاؤه قيمة نقدية، بحيث يقوم السوق بتنظيم تدميرها أو تقدير قيمة الحفاظ عليها من خلال حساب التكاليف والمنافع. وبالنظر إلى أن إزالة الغابات هي أحد الأسباب الرئيسة لتغير المناخ، تهدف آليات خفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها إلى حماية النظم الإيكولوجية باستخدام آليات السوق. وهي تقوم على دفع تعويضات من قبل أولئك الذين يلوثون البيئة بانبعاثاتهم لمشاريع الحفاظ على البيئة في البلدان “النامية”. يجري توفير التمويل من قبل الحكومات ومن خلال أموال “تجارة الانبعاثات”. تعتبر حركة لا فيا كامبيسينا الاقتصاد الأخضر وآلياته “حلاً زائفاً”، ذلك لعدة أسباب. تمثل هذه الآليات شكلًا من أشكال تسليع و/أو تمويل الطبيعة، مما يؤدي إلى زيادة الاستثمار مع تجنب أي تشكيك في النظام الحالي، المسؤول حقًا عن تغير المناخ وتدمير الطبيعة. كما أنها تسمح للشركات “بشراء حقوق تدمير الطبيعة”، وفي الواقع، بما أن الزيادة في الانبعاثات لا يقابلها الحفاظ على الغابات (الموجودة بالفعل)، فإنها لا تقلل من الانبعاثات. وبالتالي فإن هذه الآليات تخلق سوقًا يجري استنكاره كذريعة لتشجيع الاستيلاء على الغابات والنظم الإيكولوجية، بهدف إنتاج المال (التعويضات). لكن، كما هو الحال في إندونيسيا، فإنها أيضًا تمنع السكان المحليين من الوصول إلى النظم الإيكولوجية واستخدامها، على الرغم من قيامهم بحمايتها لآلاف السنين من خلال ممارساتهم. علاوة على ذلك، لا تأخذ هذه الآلية في الحسبان تشابك النظام الإيكولوجي ككل، وهو نظام قائم على أساس طبيعي على الدورات الطبيعية التي تقوم على أساسها المجموعات السكانية التي تمارس الحصاد والصيد والزراعة. إنها ترى في النظم البيئية مجرد “آبار تخزين الكربون”، وتطرح عدة مشاكل، خاصة، اعتبار المزارع أحادية الزراعة “غابات” في حين أنها ليست كذلك غابات، في حين أنها في الواقع لا تطلق انبعاثات فحسب، بل تشكل أيضًا “صحاري خضراء” حقيقية خالية من التنوع البيولوجي.
السياسات الزراعية المشجعة على إنشاء المزارع الكبيرة والصناعة الزراعية
هناك عدة أنواع من السياسات الزراعية المختلفة من بلد إلى آخر. في العديد منها يديم المال العام وضعًا غير مواتٍ من خلال الاستمرار في تشريد المزارعين الذين لم يعد بإمكانهم كسب لقمة العيش من عملهم. رغم وجود عدد قليل المشاريع الموَجهة للمزارعين/ات، فإن تحليل توزيع المسؤوليات الوزارية ومحتوى البرامج والمشاريع وكذلك تخصيص الميزانية، يُظهر أن هذه العناصر تعزز الإنتاج الغذائي الصناعي لإنتاج وتصدير المواد الخام واستخدام الكيماويات الزراعية. بالإضافة إلى ذلك، في العديد من البلدان المتضررة من الأراضي يتم دعم المستحوذين على الأراضي من خلال الإعانات المباشرة أو غير المباشرة. سعيًا إلى لجذب المزيد من الاستثمارات، تشارك الحكومات بشكل مباشر في شراء الأراضي على نطاق واسع من خلال توفير التمويل، ولا سيما من خلال بنوك التنمية الوطنية. ثمة تدبير آخر يتمثل في منح إعفاء من الضريبة على الأرباح أو الإعفاء من الرسوم الجمركية لمنتجات التصدير. تساهم المؤسسات المالية الدولية أيضًا في التوسع العنيف للاستيلاء على الأراضي والصناعة الزراعية واسعة النطاق وتقدم المتاجر الكبرى. وتشمل أمثلة عن السياسات على المستوى الدولي ما يلي: سياسة الوقود الزراعي التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي التي طُرحت بهدف الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والتي تحدد سلسلة من أهداف الزيادة التدريجية لحصة الوقود الحيوي في الوقود. أدت الزيادة في الطلب إلى ارتفاع الأسعار والتسبب في الاستيلاء على الأراضي وتغييرات واسعة النطاق في استخدام الأراضي. جرى تحويل الغابات والمحاصيل الغذائية إلى مزارع للنخيل وفول الصويا والذرة.
تمثل السياسة الزراعية المشتركة للاتحاد الأوروبي (CAP) 40% من ميزانيته الإجمالية وتشمل المساعدات المباشرة وغير المباشرة. بسبب العديد من العوامل الإيجابية، لا سيما المعونة المباشرة للهكتار الواحد، فإن هذه السياسة الزراعية المشتركة تُفضل الإنتاج على نطاق واسع وتعيق الوصول إلى الأراضي. يوضح فيديريكو باتشيكو Federico Pacheco من نقابة العمال الأندلسيين (SAT)”هذا يعني أنه في إسبانيا، على سبيل المثال، يتلقى مزارع في إسبانيا حوالي 500 يورو سنويًا، بينما يكسب المزارعون الـ 200 أو 300 من كبار المزارعين ما معدله 900,000 في المتوسط. لذا، على المستوى الأوروبي، فإن 70 في المائة من المساعدات المباشرة تذهب إلى 20% من كبار المنتجين. وهذا يعزز تركيز الأراضي”. قام الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى الدفع المباشر وغير المباشر للإنتاج، أيضًا بدعم “تحديث ” قطاع التصنيع الغذائي المكون من الشركات عبر الوطنية الكبيرة مثل نستله (Nestlé) وأساطيل الصيد الصناعية الكبيرة. ساهمت هذه السياسات في التركيز الهائل في كل من الإنتاج والتسويق. نتيجة لذلك، اختفت أربعة ملايين مزرعة في أوروبا اختفت في عشر سنوات فقط (2003-2013), أي حوالي 1,110 مزرعة في اليوم، بينما زاد متوسط حجمها بـ 38%. تؤثر الزيادة في التصنيع أيضًا على تلوث المياه التلوث، والتنوع البيولوجي والانبعاثات والصحة العامة ورعاية الحيوان. كما أن لها آثار كبيرة على بلدان العالم الثالث. تؤدي اتفاقيات التجارة الحرة والإفراط في الإنتاج والتركيز على مستوى مقاولات الصناعة التحويلية والتسويق (منتجات الألبان واللحوم والسكر والحبوب على سبيل المثال)، بالإضافة إلى ارتفاع وصعود الصيد الصناعي، إلى المنافسة غير العادلة وبالتالي تدمير الأسواق المحلية في بلدان العالم الثالث واستبعاد واسع النطاق الرجال والنساء للعاملين في الزراعة وصيد الأسماك على نطاق صغير.
العواقب المترتبة على الغذاء والأراضي
يتكرر مرارًا أن الإنتاج الزراعي الصناعي على نطاق واسع ضروري لأنه أكثر كفاءة، وبدونه سيكون من المستحيل إطعام البشرية. لكن الواقع مختلف تمامًا: فالرجال والنساء الذين يمارسون الزراعة على نطاق صغير والصيد الحرفي وصيد الأسماك على الأقدام يتناقص وإمكانية وصولهم إلى الغابات وغابات المانغروف والبحار محدودة، مع ذلك فهم الذين ينتجون الغالبية العظمى من الأغذية المستهلكة في العالم.
لإخلاء المزارعين/ات ونزع ملكية أراضيهم انعكاسات خطيرة، ليس فقط على الاقتصادات المحلية، لكن أيضًا على غذاء المجتمع ككل. وفي هذا الصدد فإن النضال من أجل الإصلاح الزراعي المتكامل والشعبي والسيادة الغذائية هو نضال ملموس للغاية من أجل البقاء واحترام الحق في الغذاء وصيانة الثقافات والهياكل الاجتماعية، فضلاً عن حقوق المرأة. رغم الحسابات العديدة المتعلقة بمستوى إنتاج الغذاء اللازم لإطعام سكان العالم، فإن أرقام الجوع على كوكب الأرض تصل إلى مستويات مقلقة. في العام 2015، قدرت منظمة الأغذية والزراعة أن 800 مليون شخص يعانون من الجوع المزمن. مع ذلك، فإن هذه الأرقام قابلة للنقاش. بصرف النظر عن تعقيد الموضوع، فإن الأشخاص الذين يعانون من الجوع على أساس دائم، أي اثني عشر شهرًا في السنة، يجري أخذها في الحسبان. إضافة إلى ذلك، فإن متطلبات السعرات الحرارية التي حددتها المنهجية المستخدمة هي تلك الخاصة بـ الشخص غير النشط، وهو ما لا يتوافق مع الحياة التي يعيشها المزارع، مثلا. صحيح جداً أن المقياس الحقيقي للجوع أكبر بكثير من هذه الأرقام. الأكثر من ذلك، تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 30% من سكان العالم لديهم شكل من أشكال نقص التغذية. لا تخص هذه المشكلة بلدان الجنوب فقط، لكن البلدان الصناعية أيضًا.
إذا كان من الصعب تحديد التأثير الحقيقي على الصحة الغذائية المنتجة باستخدام الكيماويات الزراعية والمضادات الحيوية والهرمونات والمواد المضافة، فإن معدلات السمنة والسكري والحساسية وأمراض القلب والسرطان وغيرها من الأمراض، تصل إلى مستويات غير مسبوقة. إن الآثار المباشرة لنموذج الإنتاج هذا والمرتبطة بالتغيرات في العادات الغذائية أصبحت الآن مشكلة صحة عامة في أعقاب فضائح مثل أزمة “جنون البقر” وبقايا المادة الفعالة الغليفوسات glyphosate الموجودة في البول وحليب الأم وتتزايد الشكوك حول نموذج إنتاج الغذاء، بما في ذلك في المدن. إن المناطق التي تشغلها مزارع، واسعة النطاق، للسلع الأساسية مثل الصويا وبذور اللفت (المعدلة وراثياً في كثير من الأحيان) وقصب السكر أو الموز لها عواقب وخيمة على الصحة بسبب التعرض المباشر وغير المباشر للمنتجات السامة. يشمل ذلك ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان والأطفال الذين يولدون بإعاقات وأمراض الجلد والكلى والكبد.
يشعر السكان المحليون بالآثار المترتبة على اقتصاداتهم وقدرتهم على إعالة أسرهم. مقارنة مع الزراعة الأسرية وصيد الأسماك على نطاق صغير أو صيد الأسماك على الأقدام، فإن الزراعة على نطاق واسع (مع استثناءات قليلة) تقلل من الطلب على اليد العاملة. رغم أن إنتاج الخضروات من الزراعة العائلية يتطلب ما بين شخصين أو ثلاثة أشخاص لكل هكتار سنوياً، فالحقل المزروع بواسطة الزراعة الأحادية من نخيل الزيت أو مزرعة الجمبري مزرعة روبيان توظف ما بين 0.1 و0.7 شخص في السنة في السنة، عمال لا يتمتعون في الغالب بأي حقوق على الإطلاق. تعاني الاقتصادات المحلية أيضًا لأن الإنتاج من أجل التصدير له آثار مضاعفة ضئيلة عليها.
تؤثر التداعيات السلبية في معظم البلدان على النساء بشكل غير متناسب. لذا في العديد من الأماكن، تتولى النساء في كثير من الأماكن معظم إنتاج الغذاء وهنّ القيّمات على المعرفة الزراعية والمحاصيل وهن أيضًا الأكثر تضررًا من الجوع. الأكثر من ذلك، يجدن أنفسهن أيضًا مستبعدات من نظام حيازة الأراضي ومن المشاركة الاجتماعية والسياسية. أدت هجرة الرجال إلى تأنيث القرى، ما زاد من عبء العمل المضاعف الواقع على النساء، بالإضافة إلى رعاية الأسر، فإنهن يقمن أيضًا بأنشطة إنتاجية.
نتيجة لذلك، يرتبط النزوح إلى المدن وغيرها من البلدان، على أمل العثور على عمل، ارتباطًا وثيقًا بتدهور المناطق الريفية، خاصة بين الأجيال الشابة. تشهد جميع البلدان تقريبًا شيخوخة الزراعة الأسرية أيضا بسبب النظم الأبوية التي تستبعد الشباب من المشاركة وملكية الأراضي. في مناطق أخرى، تمنع هياكل حيازة الأراضي وارتفاع أسعار الأراضي بسبب المضاربة وندرة الأراضي الصالحة للزراعة، المزارعين الشباب من إنشاء أعمال تجارية. أمام الفقر وتدهور القرى، حيث لا مستقبل لهم، يغادر العديد من الشباب إلى المدن أو حتى إلى الخارج، بحثاً عن فرص أفضل. هذا هو السبب في أن إصلاح الأراضي مهم بشكل خاص لجيل الشباب.
إن الاستيلاء على الأراضي على نطاق واسع لا يؤثر فقط على الحياة الاقتصادية. رغم أنها تعتبر أشكالًا بسيطة من العمل، فإن الأنشطة المرتبطة بالزراعة وتربية الماشية وصيد الأسماك على نطاق صغير والصيد على الأقدام ترتبط أيضًا ارتباطًا جوهريًا بالثقافة وبإدراك العالم والعلاقات الاجتماعية القائمة على التضامن بين البشر وأمنا الأرض. تؤدي عمليات الإخلاء إلى تدمير سبل العيش والاقتصادات المحلية واختفاء هذه الثقافات واللغات وأشكال الإدارة الاجتماعية المحلية، بل حتى انقراض شعوب بأكملها، كما هو الحال في الأمازون.
تُسبب زيادة استخدام الكيماويات الزراعية في إزالة الغابات والصيد الجائر والمواد المعدلة وراثيا والتعبئة والتغليف والنفايات والنقل والنفايات والزراعة الصناعية أحد العوامل التي تدفع الكوكب إلى حافة الانهيار: تلويث الأراضي والمياه العذبة وتدهور التربة وانقراض الأنواع وفقدان سريع للتنوع البيولوجي وتحمض المحيطات وتغير المناخ. وفقًا للدراسات، فإن الانبعاثات الصادرة عن السلسلة الغذائية بأكملها مسؤولة عن 53% من الغازات المسببة للاحتباس الحراري المنتجة في جميع أنحاء العالم. نتيجة لذلك، فإن النموذج الزراعي القائم على الاستخدام المكثف للكيماويات الزراعية غير مستدام على الإطلاق. يشعر السكان المحليون بعواقب تغير المناخ بشكل مباشر للغاية، في تغير الفصول المتغيرة وفترات الأمطار والجفاف وفي زيادة الكوارث الطبيعية.
المقال أعلاه هو جزء “مُحرر” من الفصل الثالث في دراسة: “نضالات لا فيا كامبيسينا من أجل الإصلاح الزراعي والدفاع عن الحياة والأرض والأقاليم”، وعنوانه الأصلي: (السياسات المشجعة لهيمنة النظام الزراعي الغذائي) يمكنكم\ن الرجوع إلى الدراسة الأصلية من: الــرابــط