أنظمة غذائية ومسائل زراعية لفيليب مكمايكل هو الكتاب الثالث في سلسلة "التغيير الفلاحي والدراسات الفلاحية" التي تصدرها "مبادرات في الدراسات الفلاحية النقدية". كان الأول كتاب هنري بِرنستين الطبقة والتغير الفلاحي، والثاني كتاب يان داو فان دِر بلوخ الفلاحون وفنّ الزراعة. وكتاب فيل هذا هو المتابعة المثلى، إذ يبني على المواضيع الرئيسة التي تناولها الكتابان الأوَّلان ويشتبك معها. وهذه الكتب الثلاثة، معًا، تعيد التأكيد على الأهمية والشأن الاستراتيجيين اللذين تتسم بهما العدسات التحليلية للاقتصاد السياسي الزراعي في الدراسات الزراعية اليوم. وهي تقف بأهميتها السياسية وصرامتها العلمية كمعيار ونموذج تحتذيه بقية السلسلة.
***
تـقـديـم
تزامن ظهور كتاب أنظمة غذائية ومسائل زراعيَّة في عام 2013 مع انخراط الصين المتزايد في النظام الغذائي العالمي من خلال استثمارات الشركات والدولة ومبادرتها المسمّاة “الحزام والطريق”، ما أدّى إلى تنوُّع النَّفاذ إلى المواد الغذائية الخارجية. وهذا ما عزَّز تعدد الأقطاب في النظام ونمذجةً جديدة للاستثمار في البنية التحتية لسلاسل السلع الغذائية. وشهدت السنوات التالية اشتدادًا لقوة الشركات في النظام الغذائي مع تنافس الدول والشركات على أخذ مواقع لها في السوق العالمية. وأدَّى توسُّع سلسلة الإمداد العالمية، تلك السلسلة المكوّنة من خلال تمفصلات معقَّدة لصفقات الشركات والبنوك مع الدول وفيها وعبرها، إلى تطويق العالم بتدفقات متضافرة من الأغذية والأعلاف والمكوّنات الغذائية.
يأتي تراكم القوة هذا على حساب السيادات الغذائية الإقليمية، ما يعيد إنتاج التوتر الأساس في النظام الغذائي الحالي. يبدو هذا صارخًا في بنود القوانين الزراعية الأخيرة التي أصدرها حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند: تعزيز أجندة التجارة الزراعية العالمية التي تطيح بضروب الحماية لملايين ممن لا يملكون أرضًا وصغار المزارعين، وبحقوق المواطنين في الأمن الغذائي. أمّا التهديد المرتبط بهذا لحقوق جماعاتالأديفاسي* في أراضي الغابات، فيعزِّز انقراض عوالم حياة السكّان الأصليين على “حدود” عالم المستوطنين البيض الجديد، ذلك الانقراض الذي كان قد بدأ مع تشكُّل النظام الغذائي الدولي.
يبدو أنَّ نظام الشركات الغذائي يبلغ ذروته مع هذه التطورات. ومثل هذه السوق المدعومة من الدولة وما تطلق له العنان في الهند من مصالح البنوك والشركات واسعة النطاق هي تتويج لربع قرن من تحرير تجارة الأغذية والاستثمارات على طريقة منظمة التجارة العالمية (WTO)، ما عجّل بمصادرة واسعة النطاق للأراضي (والموائل) وهجرة اليد العاملة. وكان التعبير العالمي عن هذه السيرورة المتصاعدة إذعان الأمم المتحدة لطلب المنتدى الاقتصادي العالمي عقد قمّة النظام الغذائي في عام 2021، الأمر الذي عزَّز وضع الشركات يدها على إدارة شؤون النظام الغذائي العالمي. هذا الاستيلاء على السلطة، في غلبةٍ لأصحاب المصلحة” (وليس لتعددية الأطراف)*، يهمِّش الممارسة الجامعة للجنة الأمن الغذائي العالمي (CFS)[1] التابعة للأمم المتحدة ومسؤولياتها الإلزامية عن إدارة عالمية لحقوق المواطنين الغذائية وحمايتها.
سبق لحركة نهج الفلّاحين ، وهي حركة رائدة بين حركات السيادة الغذائية، أن وصفت الزراعة الصناعية (والرقمية الآن) بأنَّها “زراعة بلا فلاحين”. وفي حين يشير هذا إلى إحلال المدخلات الخارجية والتقنيات المسلَّعة محلّ معارف المزارعين العملية المشتركة وبذورهم، فإنّه يشير أيضًا إلى طرد المنتجين الصغار وتربية الحيوانات الصناعية. ويتمثّل أحد الردود التقنية التي أبدتها “التجارة الزراعية المعتادة” حيال الخطر الأخير على الصحة العامة والصحة البيئية بظهور التغذية المُنتَجة مخبريًا التي تعتمدها شركات “منتجي البروتين”. لكنَّ تدهور الظروف البيئية، واضمحلال الزراعة أحادية المحصول، وارتفاع الديون الزراعية، والاستغلال متعدد الجوانب لعمال المزارع والغذاء، والجوع المتصاعد، والعراقيل الوبائية في وجه الإمدادات الغذائية، جعل سياسات السيادة الغذائية وممارسات الزراعة البيئية تحظى باعتراف شعبي ودعم عام، لا سيما في الزراعةِ الطبيعية من دون ميزانية المتناميةِ في جنوب الهند، والتقرير رفيع المستوى للجنة الأمن الغذائي في عام 2019 عن الزراعة البيئية. توثّق هذه التَّطورات الحركة المضادة لنظام الشركات الغذائي، وهي حركة تقوم على تأييد جمعي شعبي وتجارب بيئية، وتتوسّع الآن باتجاه مزارع “تقليدية” متوسطة الحجم. وهي وليدة الضرورة والنضال لحماية التربة وأسواق الأغذية الزراعية الإقليمية المتداخلة وإعادة بنائها. ومن شأن إعادة تقويم تنوّع النظام الغذائي، والصحّة العامة وصحّة الكوكب، أن تعيد صوغ المسألة الزراعية الحالية على نحوٍ يرفض تمركز النظام الغذائي على رأس المال.
فيليب مكمايكل
- ترجمة: ثائر ديب – حَلا ميّا
يمكنكم الاطلاع على الكتاب وتحميله من :الرابط
* الأديفاسي، Adivasi، هم المجموعات الإثنية المتنوعة التي تُعدّ السكّان الأصليين لشبه القارة الهندية. اعترت شعوب الأديفاسي تغيرات كبرى في طرائق عيشها التقليدية منذ أواسط القرن العشرين، لا سيما مع خسارتهم أراضيهم نتيجة النمو السكاني وتطور المدن والتصنيع.
* يُقصد بغلبة أصحاب المصلحة (stakeholderism) هنا قيام الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات الشريكة لها بدور الفاعل الداخلي في الحوكمة والإدارة العالميتين وادعاؤها الحقّ بمقعد كامل على الطاولة، وذلك مقابل تعددية الأطراف (multilateralism) التي يكون فيها للدول القومية مسؤوليات وواجبات والتزامات قانونية واسعة.
[1] لجنة الأمن الغذائي العالمي (Committee on World Food Security) (CFS): الجهاز الرئيس في منظمة الأغذية والزراعة (FAO) لرصد طيف واسع من قضايا الأمن الغذائي ومناقشتها، الأمر الذي يجري الآن مع مساهمة مشروعة من المجتمع المدني بالإضافة إلى ممثلي الدول الأعضاء.

