انطلق الغضب الشعبي على نظام حكم بن علي في تونس من منطقة “السباسب”، وهي منطقة رعوية اشتهرت تاريخيا بتربية الماشية وتجويد الخيول، وشهدت تحولات عميقة منذ الاستعمار وبعد الاستقلال. فبعد سلب الأراضي وتوطين البدو ودمجهم قسريا في تعاضديات فلاحية، جرى التخلي عن هذه السياسة دون إرجاع الأرض للأهالي، ودون خلق بدائل تنموية. هي منطقة مفقرة تعاني استعمارا داخليا لأراضيها الفلاحية الخصبة ومواردها المائية الباطنية، وتعتبر مثالا معبرا عن التهميش التنموي والسياسي.
منذ انطلاقه، كان الحراك الشعبي العفوي قد حدد قضاياه الأساسية: اسقاط منظومة الاستبداد والنهب والفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وتجلت هذه القضايا في الشعارات المرفوعة تباعا في الأرياف و في الأحياء الشعبية ثم في المدن الكبرى مطالبة بدورها بالكرامة وبالعمل وبإسقاط النظام.
لم تكن الساحة السياسية، التي تكونت على أنقاض المعارضة المتكلسة والموالات المهزومة، تعبر عن الهواجس الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت الشعب التونسي نحو الثورة. فانساقت إلى الانقسام التقليدي بين اسلاميين وحداثيين، وجرَّت النقاش العام إلى مستنقع الهوية. في الأثناء، تواصل اتساع الشرخ المجتمعي بين الفئات المنتجة والمعطلة عن الانتاج من ناحية، والفئات الريعية والطفيلية من ناحية أخرى. وفي الأثناء أيضا، انتشرت في الأوساط الاجتماعية المعنية بالتغيير فكرة العمل من أجله والإيمان به، ومكّن تحرر الفضاء السياسي والإعلامي من دخول فاعلين سياسيين جدد على الخط.
وفعلا، شهد المجتمع التونسي بعد الثورة طفرة في النشاط المدني والسياسي، لعل من مقاييسها عدد الجمعيات التي تكونت منذ العام 2011 ، وكذا عدد الحركات الاحتجاجية سنويا. أوضح تمأسس المجتمع المدني في كلا الشكلين (الجمعيات والحركات الاحتجاجية) أهم القضايا الاقتصادية والبيئية والاجتماعية التي تلقى التعبئة وتدفع، بطريقة أو بأخرى، من أجل التغيير. فنجد على رأسها-من حيث الحجم-القضايا الجهوية المطالبة بالحق في العمل والحق في التنمية (الكامور، الفانا)، كإشارات غير مباشرة نحو مطالبة بتغيير منوال تنموي أثبت فشله.
عشر سنوات من الحراك الاجتماعي في أرياف تونس
شهدت الأرياف التونسية أكبر قدر من الحركات الاجتماعية خلال السنوات العشر بعد الثورة، وطرحت قضايا عديدة كانت غائبة تماما عن النقاش السياسي والاعلامي، لعل أبرزها قضية الأرض عبر مثال جمنة. كان لهذه الملحمة السياسية دورا مهما في التنبيه إلى اشكالية أراضي الدولة، وتفشي الفساد فيها، وفشل مقولة الاستثمار الخاص بها، وكذلك في التعبير وضوحا عن أحقية الفلاحين في استصلاحها واستغلالها. ولم تكن جمنة القرية الوحيدة التي حاولت استرجاع أراضيها، بل شهدت الفترة الأولى من الثورة أمثلة عديدة لمثل هذه الحركات في كافة ربوع البلاد. كما طُرحت قضية الأرض عن طريق المطالبة بتملّك الأراضي الاشتراكية والأراضي المستصلحة غير المهيكلة، وإعادة إحياء التعاضديات، وكراء أراضي الدولة لأصحاب الشهادات المعطلين عن العمل، وعديد المطالب الأخرى التي تطرح مباشرة قضية حق الفلاحين في الإفادة من الأرض.
نجد أيضا من أهم القضايا التي شهدت اهتماما وتعبئة بعد الثورة قضية الماء، بما هو حق مواطني ومورد أساسي للنشاط الفلاحي. فتعددت الحركات في القرى والمدن احتجاجا على انقطاع الماء الصالح للشرب، وتحرك الأهالي والفلاحين احتجاجا على تملح الآبار، وعلى تلوث العيون واستنزاف الطبقة المائية (قابس، الهوايدية، قفصة، قبلي)، وعلى تحويل الموارد من الدواخل إلى المدن الساحلية (جلمة، جندوبة، سبيطلة)، وعلى احتكاره من طرف المستثمرين (سيدي بوزيد). وواكب الحراك الميداني عمل مثابر من الجمعيات المهتمة بهذا الموضوع على غرار جمعية نوماد 08، محاولة التأثير من أجل تغيير الأطر القانونية، مرتكزة في ذلك على دستور جديد يضمن الحق في الماء.
كما شهدت أرياف تونس في السنوات الأخيرة حراكا حثيثا ضد تدهور حالة منظومات الانتاج الأساسية، أي الحبوب واللحوم والحليب والبيض. إذ طالب المنتجون برفع أسعار قبول منتوجاتهم، وبدعم نشاطهم. وانتفضت عديد القطاعات ضد كارتيلات الاحتكار، دون أن تتمكن من فرض تغيير جدي في المنظومة ككل (منظومة المواد الفلاحية المدعمة وشبكة المسؤولين والشركات والنقابيين المتحكمة فيها). هذا لأن قضية رفع أسعار إنتاج المواد الأساسية تصطدم بمنوال اقتصادي قائم على الأجور الضعيفة وعلى دعم الاستهلاك. إن كل ارتفاع في أسعار المواد الأساسية ينعكس سلبا على جمهور المستهلكين، خاصة الموظفين. فلا يمكن حل معادلة أسعار المنتوجات الغذائية الأساسية دون إعادة النظر في المنوال ككل، وفي سلم الأجور أساسا. لكن في الأثناء، يمكن ضبط مسالك التوزيع لتقليص هوامش ربح الوساطات وتحسين هامش ربح الفلاح. في هذه القضية، يصطدم حراك منتجي الغذاء بواقع النظام الاقتصادي-السياسي التونسي الفاسد ذي الشكل الأوليغارشي.
ظهرت أيضا في الأرياف، بعد الثورة، حركة بيئية متنوعة ومنتشرة، تستهدف الصناعات الملوثة (المجمع الكيميائي،مغاسل الفسفاط، مصانع الاسمنت والآجر…)، والاستخراج (الفسفاط والجبس والرخام والكلس…)، والبنى التحتية الملوثة (الزارات، مارث، مدنين…)، ومصبات النفايات (رادس، عقارب، الصخيرة…). وقد طالبت هذه الحركة من السلط التدخل للدفاع عن الحق في البيئة، وعن حقوق الأجيال القادمة أمام استهتار الشركات الوطنية والخاصة بشروط عيش القطاعات الأخرى. تجد الحركة البيئية اليوم إسنادا لها من عامة الشعب المتضرر، غير أنها تصطدم، عند معارضتها للمنوال الاقتصادي، بالحركة النقابية العمالية وبثقل المدن في ميزان القوى السياسية.
تركت الجوائح المناخية والجرائم البشرية آثارا موجعة في عديد المناطق الفلاحية تكبد كلفتها صغار ومتوسطي المنتجين رغم احتجاجهم ومطالبتهم بحقهم في التعويض (فيضانات زغوان ومجردة والوطن القبلي والقصرين، حرائق الغابات والحبوب بالشمال والشمال الغربي، أمراض النخيل والقوارص، اضطرابات في المنظومة الايكولوجية…).كما تحملت هذه الفئة أيضا كلفة توقف أسواق التصدير، مع ليبيا أولا نتيجة تأزم الوضع الأمني، ثم مع الجزائر وبقية العالم نتيجة انتشار الجائحة. عموما، ينهي الريف التونسي العقد الأول بعد الثورة منهكا اقتصاديا بعد أن تضاعفت تكلفة الانتاج، وتدهورت القدرة الشرائية، وبعد أن عبثت اضطرابات الكوفيد -19 بتوازنه الهش. وتنذر كل الاشارات بتفاقم الازمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وباحتداد الانشقاق بين الفئات المعنية بالتغيير-كفئة الفلاحين-، والفئات المناهضة له.
من ناحية أخرى، نشأت في السنوات الخمس الأخيرة حركة مدنية تعمل على استرجاع البذور الأصلية، وعلى تشجيع الرجوع إلى بذور المزارعين المتجددة والطبيعية. هذا مع اهتمام عميق بالفلاحة المستدامة ومناويل الانتاج المتأقلمة مع المناخ. فقد تجلت نتائج استعمال البذور المهجنة للفلاحين بارتهانهم لتجار المدخلات الفلاحية وبتبعيتهم لأسواق البذور العالمية. كما اتضحت الكلفة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للمواد الكيميائية والفلاحة الأحادية. وانتبه المنتجون إلى آثار التغير المناخي، واقتنع العديد منهم بوجوب تغيير أنماط الانتاج والتسويق والاستهلاك. ويبرز هذا الوعي من خلال النقاش العام المفتوح على صفحات المواقع الاجتماعية، كما في نجاح مبادرات الجمعيات، كحفلة الزريعة التي تنظمها جمعية التونسية للفلاحة المستدامة والمبادرات التعاونية والتعاضدية المختلفة.
كما طفت على الساحة في السنوات العشر الأخيرة قضية حق المرأة في امتلاك الأرض من خلال طرح النقاش حول الميراث في الفضاء السياسي، وحول اقصاء المرأة الممنهج من استغلال أراضي الدولة، وكذلك من خلال اهتمام الجمعيات والاعلام بوضعية النساء العاملات في القطاع الفلاحي. حيث بانت مفارقة كبرى تعبر عن انفصام داخل فئة الاجتماعية. فبينما تمثل النساء قوة العمل الأكبر في القطاع الفلاحي (أكثر من 80 بالمائة)، لا تمتلك سوى نسبة 5 % من المخزون العقاري الفلاحي الوطني. هذا التشخيص المؤلم معبر عن حقيقة عدم المساواة التي خلفتها منظومة ميراث تقليدية والتي تستثني المرأة الفلّاحة من الأرض، فيكون عملها في المستغلات العائلية دون مقابل، وتضطر للعمل في مستغلات أخرى للحصول على مدخول.
سبل المقاومة وملامح البديل
انتهجت كل الحكومات تقريبا منذ الثورة نفس المسار في مجال الفلاحة والصيد البحري المتمثل في دعم المنتجات ذات المزايا النسبية، والاستثمار فيها لتصديرها، وتهميش الفلاحة العائلية والمعاشية وتعويضها بالاستيراد. إنها فلسفة الأمن الغذائي التي يعتمدها منوال التنمية التونسي. فلسفة على نقيض السيادة الغذائية التي بدأ مفهومها يُتداول باحتشام بين الفلاحين كبديل اقتصادي اجتماعي بيئي مستدام.
فالفلاح يدرك وجوب استبدال البذور المهجنة ببذور طبيعية، وتنويع إنتاجه وملاءمته مع المناخ، وتفضيل الفلاحة البعلية والأصناف المحلية والأسمدة الطبيعية، غير أن مثل هذا التحول يعتبر مجازفة حقيقية بالنسبة لأي مستغلة فلاحية، خاصة الصغرى منها. بل مقاومة، في ظل هيمنة المنظومة الرسمية المعادية. فهو يعني حتما المرور بتراجع في حجم الإنتاج لا يقابله اعتراف بتحسين القيمة الغذائية أو تثمين للجودة الصحية. من هذا المنطلق، نجد عديد التجارب الميدانية تتشكل في شبكات دعم وتضامن متبادل محاولة اثبات نجاحاتها وتسجيلها وانتزاع الاعتراف بها.
وفعلا تسجل التجارب الميدانية عديد النجاحات: فقد فتحت قرية جمنة أفق الصراع من أجل الأرض، ودخل العديد من الفلاحين في كل أرجاء البلاد في مسارات تغيير منوال الانتاج، وبدأت التعاونيات والتعاضديات المحلية تتكون، وتشكلت تنسيقيات لتنظيم الاحتجاج، وبدأ الإعلام يتطرق لقضايا الفلاحة والفلاحين، وبدأ المستهلك ينتبه للمخاطر الصحية المتعلقة بالغذاء… من هذه الناحية، يمكن القول إن أرياف تونس تحصد اليوم بذور شتاء 2010. حيث فتحت ثورة الكرامة المجال أمام القوى الاجتماعية للتنظم والمطالبة بالحقوق وبتغيير المنوال الاقتصادي. وإن فشلت ترسانة الانتقال الرسمية، من انتخابات وعدالة انتقالية وانتقال اقتصادي، في بلورة إجابة جدية للاشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس، فإن عشر سنوات من الحراك المدني والاحتجاجي كانت كفيلة بإيضاح معالم مشروع زراعي بديل في جملة نقاط نذكر منها :
من ناحية السياسات العامة :
اعادة النظر في الخارطة الفلاحية، واستصلاح المخزون العقاري الفلاحي لصالح الفلاحين والفلاحات
تمكين منتجي الغذاء من حقهم في الولوج إلى الموارد
اعطاء الاولوية للفلاحة المعاشية المتأقلمة مع النظام الغذائي والمناخ ودعمها وحمايتها
القطع مع سياسية الانتاج الأحادي
تفكيك منظومات الاحتكار وإعادة هيكلة التوزيع المحلي
تحديد أسعار المواد الغذائية على حسب كلفتها مع ضمان هامش ربح المنتج
رفع قيمة عمل في الفلاحة وفي قيمة العمل ككل
احترام المنظومات الايكولوجية والتقاليد الغذائية
من ناحية منوال الانتاج :
العودة للبذور الطبيعية والحد من استعمال المواد الكيميائية
التأقلم مع المناخ الطبيعي والمنظومات الايكولوجية
الحرص على التكامل والتنوّع في رسم منظومات الانتاج الجديدة
الحفاظ على الماء
دعم حرية تنقل الماشية والرعاة
التنظم في أشكال إنتاج تعاضدية واشكال بيع تعاونية
التركيز على انتاج متطلبات السوق المحلية
تمثل اليوم كل نقطة من نقاط المشروع البديل مجالا للنضال والتجربة والتعبئة تشترك فيه، إضافة إلى الفلاحات والفلاحين، عدة فئات أخرى. ونجد في هذا المشروع جملة قيم اجتماعية كالتعويل على النفس وعلى المجموعة، والتضامن والتآزر، والمطالبة الحثيثة بالحقوق، وإعلاء شأن المصلحة المشتركة، والحفاظ على الموارد الطبيعية وغيرها من القيم الأساسية التي تقطع مع الفردانية ومع السعي إلى مراكمة الربح. ويحمل في طياته مختلف قضايا التحرر الوطني من السيادة على الموارد إلى حق النساء في الأرض مرورا بحق الشعب في تغذية محلية سليمة.
يبقى مثل هذا المشروع رهن تنظم المدافعين والمدافعات عنه، وتصالح فئة الفلاحين مع ذاتها وهويتها السياسية والدفاع عن تمثيليتها وحقها في المشاركة في اتخاذ القرارات والتصدي بكل الطرق لآليات السلب والاستيلاء والتفقير. في هذا المشروع، يجد منتجو الغذاء حلفاء في كل أرياف البلاد وأحيائها الشعبية وفي كل الفئات الاجتماعية، من مستهلكين وجمعيات وباحثين وفاعلين سياسيين معنيين بالتغيير. المجال مفتوح لتجريب البدائل، ولبلورة رؤية عامة متكاملة، ودعم نضالات الريف، وترسيخ مرتكزات منوال اقتصادي بديل في المجال الفلاحي وفي الاقتصاد الشعبي، والتنسيق بين كل الفاعلات والفاعلين من أجل مشروع السيادة الغذائية في تونس.
ليلى الرياحي، جانفي 2021
صورة الواجهة من الأنترنات
من ملف : نضالات صغار منتجي- ات الغذاء الوجه الخفي لانتفاضات شعوب شمال أفريقيا 2011