مضى نحو عقد ونصف على بداية تطبيق استراتيجية “أليوتيس” للصيد البحري، ونسعى في هذا المقال إلى تقييم نتائجها والنظر في آثارها. ونستطيع رصد نتائج هذه الحصيلة في ثلاثة مجالات: أولًا، لم تقطع هذه الاستراتيجية مع سياسة الصيد البحري المُوجَّهة حصرًا نحو التصدير المُكثف للموارد السمكية، بل عمَّقت هذا التوجه وأعادت توزيع حصص الصيد لصالح المُصدِّرين على حساب حقوق أسطول الصيد الساحلي.
ثانيًا، أفضت هذه الاستراتيجية إلى مواصلة سلب وهدر الغذاء السمكي في ظل انعدام العدالة الغذائية، بحيث نلمس ميلًا لانخفاض الكميات المُوجَّهة إلى الاستهلاك الداخلي خلال السنوات الأخيرة، وهذه نتيجة منطقية لحفز الصناعة التحويلية والتصديرية للسمك على حساب سيادتنا الغذائية ومواردنا السمكية.
ثالثًا، لم تساهم التربية الكثيفة للأحياء البحرية في الحد من وتيرة استنزاف المخزونات السمكية، وإنما تُشكِّلُ عاملًا إضافيًا لتلويث السواحل والضغط على الأنظمة البيئية البحرية الهشَّة وتهديد تنوعها.
أولًا: حصاد التصدير المُكثّف للموارد البحرية
خلال أربعينيات القرن الماضي، أجبرت السلطات الاستعمارية أسطول الصيد الساحلي (صنف السردين) على بيع كل محصوله من “الأسماك الصناعية” لمعامل تحويل السمك وتصديره، وكانت هذه السياسة تندرج في إطار سياسة أشمل تركز على توجيه المواد الأوليَّة المعدنية والزراعية والبحرية لتلبية حاجيات الأسواق والصناعات في المركز الإمبريالي بأسعار مُتدنِيَّة.
ولتنفيذ هذا الإجبار، وضمان توزيع “الأسماك الصناعية” على المعامل، جرى إنشاء “مكتب التصديق على السمك الصناعي وتوزيعه” المعروف لدى البحارة بـ “لاكرياج” (CARPI)(1)، وكانت فروع هذا المكتب بالموانئ تستقبل الكميات المُصطادة من “الأسماك الصناعية” وتُصنِّفها وفق صِنفين رئيسيين تبعًا لجودتها: 1- كميات مُوجَّهة نحو معامل التعليب، 2- كميات موجهة نحو معمل دقيق وزيت السمك التي تُباع بسعر يقل عن سعر الصِنف الأول بما يناهز 50% على العموم.
كانت معامل تحويل السمك تقتني المادة الأوليَّة وفق قدرتها الإنتاجية والتصديرية، فيما تنظم فروع المكتب بدورها عملية التوزيع اليومي للكميات المُصطادة على هذه المعامل حسب ترتيب طلبياتها والكميات المطلوبة وحجم المحصول(2).
وهكذا، كانت إحدى الغايات الأساسية لسياسة الصيد البحري تكمُن في توجيه معظم المحاصيل السمكية نحو معامل التحويل، حيث إنَّ “الأسماك الصناعية” كانت تمثل، وما زالت، الحصة الأكبر من الحجم الإجمالي للمحاصيل السنوية.
إنَّ نعت هذه الأسماك بـ “الصناعية” يعني حرفيًا أنَّ صيدها غير مُوجَّه لإشباع الحاجيات الغذائية لسكان البلاد، وإنما للاستجابة لطلبيات الصناعة السمكية التصديرية، ويتجلى هنا المدخل لحل المسألة الاجتماعية المرتبطة بالغذاء السمكي، إذ يبدو من المستحيل رفع متوسط الاستهلاك الفردي للأسماك دون وضع حد لسيطرة الصناعة التصديرية للسمك على محاصيل بواخر الصيد الساحلي المتخصصة في الأسماك السطحية الصغيرة (بواخر السردين).
لقد اصطفَّت الدولة بجانب المُصدِّرين ودافعت عن مصالحهم الاقتصادية وحافظت على كل الآليات وقوانين تسويق السمك التي تخدم سيطرة هؤلاء على المحاصيل السنوية، فإلى جانب آلية “مكتب التصديق على السمك الصناعي وتوزيعه” “لاكرياج” (CARPI) الذي جرى الحفاظ على أدواره إلى الآن، عملت الدولة على ضمان تزويد معامل تحويل السمك بالمادة الأولية وبالكميات الكافية والجودة اللازمة من خلال عدة آليات أخرى تتمثل في إبرام عقود بين الصناعيين المُصدِّرين وبواخر صيد السردين، والاعتماد على خدمات تجار الجملة، وأخيرًا في اللجوء إلى التمويل عن طريق البواخر الأجنبية المُكتراة، وتمثل أدوات التمويل هذه آليات فِعْلِيَّة للسطو على الغذاء السمكي.
وفي أغسطس/ غشت 2009 أُضِيفت إلى استراتيجية “أليوتيس” آلية جديدة، لمزيد من الاستحواذ على الموارد السمكية الطبيعية، لتعزز مصالح مصدري الغذاء السمكي وتعيد توجيه قطاع الصيد البحري وفق مبادئ جديدة تعيد هيكلة شروط عيش البحارة، وتقلِّص مداخيلهم ومداخيل الصيادين وأرباب القوارب وبواخر الصيد الساحلي، فقد أتاحت هذه الاستراتيجية- ولأول مرة- لمالكي معامل تحويل السمك دخول مجال الصيد، ومن خلال برامج تهيئة المصائد، جرى مراجعة حقوق الولوج إلى هذه المصايد عن طريق توزيع حصص صيد على مختلف الأساطيل.
وبفضل هذه السياسة لم تتمكن الصناعة التصديرية من الولوج المباشر إلى المصايد الرئيسية للأسماك الصناعية عن طريق حصولها على رخص صيد فقط، ولكنها استولت أيضًا على حصة صيد أكبر بأغنى منطقة صيد (المنطقة الجنوبية المُسماة “المنطقة س”)، فقد حصل أرباب المعامل الجديدة لتحويل السمك على اليابسة (وهم صناعيون محليون وأجانب) على حصة صيد قانونية من الأسماك السطحية الصغيرة تبلغ 500 ألف طن.
أما أرباب المعامل القائمة (مشاريع الإمدادات الإضافية) فحصلوا على حصة صيد تناهز 200 ألف طن، ومقابل ذلك، اقتصر الترخيص بالصيد على بواخر الصيد الساحلي بمنطقة الصيد الجنوبية على 70 باخرة في السنة، وذلك بالتناوب بين مجموع الأسطول المتخصص في صيد الأسماك السطحية الصغيرة البالغ حاليًا أكثر من 490 باخرة.
وأخيرًا، تمكن أرباب الصناعات التصديرية للسمك من وضع اليد على الحصة الأعظم من الثروات البحرية عن طريق استبعاد بواخر الصيد الساحلي من ولوج أغنى منطقة للصيد، وستكون عواقب هذا الإقصاء وخيمة على دخل البواخر والبحارة العاملين بها وعلى التشغيل، لأنها، في هذه الحالة، ستكتفي بالصيد في مناطق الصيد الثلاث الباقية التي تشهد تراجعًا للمخزونات وللكميات المُصطادة.
كان هذا عرض مُوْجَزًا لأحد المحاور الرئيسية لسياسة الصيد البحري التي خدمت المصالح الاقتصادية والاجتماعية للمُصدرين عندما ضمَّنت تزويد الصناعات التحويلية والتصديرية للسمك بالمادة الأولية ونجحت في ذلك من خلال فرض إجبارية تسليم المحاصيل على أسطول الصيد الساحلي لصِنف السردين.
ولاحقًا، مكَّنت هذه السياسة أرباب الصناعة التصديرية من وضع أيديهم على المخزونات السمكية، بدءًا من ترخيص تأجير البواخر الأجنبية، وانتهاءً بحصولهم على رُخَص صيد تُمكِّنهم من اقتناء أسطولهم الخاص.
ثانيًا: السمك.. لحم الفقراء المسلوب والمهدور
الأسماك المُوجَّهة للتصدير هي ببساطة غذاء طبيعي مسلوب، وبما أنَّ هذا الغذاء- في حقيقة الأمر- ملكية جماعية، فمن المفترض أن يستفيد منه السكان بالدرجة الأولى، لإشباع احتياجاتهم الغذائية المُلِحة من اللحوم السمكية الغنية بالبروتينات.
أما حقوق الصيد فتعود أساسًا للصيادين الحرفيين والبحارة الذين توارث معظمهم مهنة الصيد والإبحار عبر الأجيال، وليست للمُصدرين، إذ إنَّ الحياة الاقتصادية للعديد من القُرى والمدن الساحلية تقوم على الأنشطة والمداخيل البحرية لهؤلاء، وبهذا المعنى، فإنَّ الأسماك المصدرة، هي في الأصل أسماك “مسلوبة” بما يخدم فئةً ما ضئيلة من الشعب.
ولا يتوقف السلب عند انتزاع السمك من نطاق الاستهلاك المحلي، وإنَّما يمتد إلى الإضرار البليغ بالأنظمة البيئية البحرية التي يتوالد ويتكاثر السمك في ظلها، إذ ينجم عن التصدير الكثيف سلب غذاء الأجيال اللاحقة أيضًا عندما تُستنزف المخزونات السمكية وتُدمَّر المصائد بالصيد الصناعي التصديري المفرط.
نظام التصدير الكثيف للسمك، هو جزء من نظام لسلب الغذاء السمكي تشارك فيه كل من الأساطيل الأجنبية (الأوربية، الروسية، واليابانية) وأسطول أعالي البحار المحلي، وقد استولت جميعها على حقوق الصيادين وأضرت بحقوق المستهلكين المحليين في الانتفاع من غذائهم الطبيعي، خصوصًا بعد أن جرى إدماج أسطول الصيد الساحلي (صِنف سردين) في هذا النظام، عندما أُجبر على تقديم محاصيله لمصانع تحويل السمك وتصديره.
وقد فُرِض نظام سلب الغذاء السمكي الذي يستفيد منه مصدرو السمك ومالكو الأساطيل الأجنبية، من قِبل أقلية تحظى باحتكار السلطة السياسية للدولة استخدمتها لوضع سياسية للصيد البحري تتماشى مع مصالحها الضيقة.
وإلى جانب الكميات المسلوبة، تُوجد كميات كبيرة من الأغذية السمكية المهدورة، ومنها مئات آلاف الأطنان من السردين والساردنيل والأنشوفا والماكرو والشينشار المطحونة والمُحوَّلة إلى دقيق وزيت سمك وغير المُوجَّهة إلى الاستهلاك البشري.
ولا يتوقف هدر الغذاء عند انتزاعه من دائرة الاستهلاك البشري نحو الاستهلاك الحيواني، لكنه يتواصل حتى عندما يُعتمَد عليه كمواد علفية لتربية الأسماك في مزارع تسمين الأحياء البحرية، فعلى سبيل المثال، يتطلب إنتاج كيلو غرام واحد من الأسماك المُرباة بالأحواض العائمة عادةً متوسطًا من الأسماك المُصطادة يتراوح ما بين 2,5 إلى 5 كيلو غرام(3)، والتي تقدم كدقيق وزيت سمك.
هذه السياسة الجائرة لم تشارك أغلبية المعنيين المباشرين بهذه الثروة الطبيعية، سواء الصيادين أو المستهلكين في وضعها، بل تضرَّرت تلك الأغلبية منها، لذا يتوقف مصير الاحتياجات الغذائية لأغلبية المستهلكين وحياة المهنيين من آلاف البحارة والصيادين على النضال من أجل وضع حد لهذا السلب والهدر.
سنتوقف الآن عند حجم هذا الغذاء السمكي المسلوب أو المهدور لتقديم تقييم أولي لحجم عواقب تلك السياسة على نظمنا البيئية البحرية وعلى غذائنا السمكي، ولهذا لا بُدَّ من حساب كمية السمك الفعلية التي تُوجَّه للتصدير، لكنْ لنتوقف، أولًا، عند كميات الأسماك المُصنَّعة المُصدَّرة.
قفز حجم الصادرات السمكية المصنعة من 36,5% من كمية الأسماك المُصطادة سنة 2005 إلى 50% سنة 2006، أما بالنسبة لسنة 2020 فارتفعت هذه الحصة إلى ما يناهز 61%، وبذلك تضاعف حجم الأسماك الموجهة للتصدير خلال 15 سنة الأخيرة مرة واحدة تقريبًا، ليقفز من 440 ألف إلى 840 ألف طن.
المدهش خلال هذه المدة هو ارتفاع الصادرات بوتيرة سريعة للغاية، فقد كانت كميات السمك المصدر تتزايد بمعدل نمو سنوي هائل بلغ 6,6%، بحيث يفوق بكثير مستوى تزايد المحصول السمكي الإجمالي المُصطاد الذي لا يتجاوز 2,7% سنويا.
هذه الوتيرة المرتفعة لصادرات الأسماك المُصنَّعة تُفسِر ارتفاع حجم كمية المحاصيل السمكية المُصطادة خلال 15 سنة الأخيرة، والتي تغذي الصيد المُفْرِط وتُحفِّز استمرار استنزاف المصائد، وتساهم في تعريض العديد من الأنواع السمكية لخطر تهديد استنزاف كتلتها الإحيائية.
وليس تكثيف صادرات السمك المُصنَّع سوى إحدى الغايات الكبرى لسياسة الصيد البحري المُطبَّقة منذ عقود، وفي إطار هذه السياسة، تقرر في نهاية سنة 2009 زيادة رفع وتيرة التصدير، الكثيف أصلًا، بمقتضى استراتيجية “أليوتيس”.
وحقيقة الأمر أنَّ الكمية الفعلية للأسماك المُوجَّهة للتصدير تفوق بكثير حجم الصادرات المُصنَّعة، فالسمك المُصنَّع هو منتوج خضع لعمليات تحويل داخل سلاسل الإنتاج بالمعامل، بحيث إنَّ كيلو غرام واحد من السمك المصنع يتطلب بالضرورة كمية أكبر من الأسماك المُصطادة.
انخفاض الاستهلاك المحلي للأسماك
حسب البحث الوطني حول استهلاك ونفقات الأُسَر لسنة 2014، يُقدَّر متوسط الاستهلاك السنوي للمواطن المغربي للسمك حاليًا بـ 13,6 كيلو غرامًا، هذا المستوى من الاستهلاك مُتدنٍّ جدًا، ويقل كثيرا عن متوسط الاستهلاك العالمي الذي يتجاوز 20,3 كيلو غرامًا للفرد في السنة.
وبالتالي يندرج المغرب في قائمة البلدان الأقل تقدمًا التي لا يتجاوز فيها عرض الأسماك المُوجَّهة للاستهلاك 12,4 كيلو غرامًا للفرد في السنة، في حين يبلغ هذا العرض بالنسبة للبلدان الصناعية 26,8 كيلو غرامًا للفرد في السنة، وهكذا يتجاوز مستوى استهلاك السمك في البلدان المتقدمة مستوى الاستهلاك في بلدنا التي تصدره إليها بأكثر من الضعف.
يملك مجتمعنا الإمكانية الموضوعية اللازمة لرفع وتيرة وكمية استهلاك اللحوم السمكية، فالكميات المتوفرة لا تقتصر على إمكانية جعل السمك طبقًا رئيسًا على المائدة المغربية وحسب، بلْ إننا إذا ما اكتفينا بتوزيع نصف الحصة المُصطادة فقط، سيحصل كل مواطن في المتوسط على ما يناهز 21 كيلو غرامًا في السنة، عِوَضًا عن 13,6 كيلو غرامًا حاليًا، إذ إنَّ المحاصيل السنوية المُصطادة تتيح رفع متوسط الاستهلاك الفردي إلى ما يقارب 42 كيلو غرامًا في السنة.
في ظل هذه الطفرة الغذائية يُوجَد العِوَزُ الغذائي الأشد خطورة، حيث يحصد الموت الآلاف وينهش المرض أجساد الملايين من الذين يُوجدون في وضعية فقدان حاد أو معتدل للغذاء(4)، كما تدل على ذلك إحصائيات منظمة الأغذية والزراعة لسنة 2021. فبماذا يفسر هذا التناقض الصارخ بين وفرة غذاء سمكي ذي قيمة رفيعة، وبقاء كل مظاهر الفقر الغذائي؟
الإجابة تكمن في سببين رئيسيين، يتجلى الأول في التصدير المُكثَّف للسمك، أما الثاني فيكمُن في انخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين.
ثالثا: تهديد البيئة البحرية عبر استراتيجية “التربية الكثيفة للأحياء”
جعلت الدولة من قطاع تربية الأحياء البحرية أحد المحاور الأساسية ضمن استراتيجية “أليوتيس”، وسعى هذا البرنامج إلى جعل مساهمة أحواض تربية الأسماك في الإنتاج الإجمالي تنتقل من لا شيء تقريبًا (أقل من 500 طن سنويًا) إلى 200 ألف طن سنويًا في سنة 2020.
يتعلق الأمر إذن بالتربية الصناعية الكثيفة للأحياء البحرية، التي تتوقف مشروعاتها على استثمارات الرأسمال الكبير الأجنبي والمحلي، والتي جرى البرهنة على الصعيد العالمي على دورها المُخرِّب للأنظمة البيئية المائية، وعلى كون نشاطها يقود إلى فرط استغلال الاحتياطات السمكية العالمية بمزيد من الضغط على المصائد.
من الناحية البيئية، تمثل تربية هذه الأسماك اللاحمة هدرًا كبيرًا للموارد الغذائية الطبيعية، إذ من الثابت أن كل كيلو غرام واحد من السمك اللاحم المُربى يكلف في المتوسط ما لا يقل عن 3 كيلو غرام من السمك المُصطاد، وبالتالي ينجم عن تربية هذه الأسماك اللاحمة فقدان صافي لبروتينات الأسماك، وليس كسبها.
فحجم الغذاء المُقدَّم للأسماك والداخل للأحواض العائمة كعلف يفوق كثيرًا حجم الأسماك الخارجة منها، وإذن فالاستنتاج المنطقي هو أنَّ قطاع تربية الأحياء المائية لن يساهم في التخفيف من الضغط على الاحتياطات السمكية بالمحيطات، بل يتجه إلى زيادة حدته.
وهكذا، من وجهة نظر الدفاع عن الأنظمة البيئية البحرية، لا يمكن إلَّا استنكار هذا المنطق العبثي الذي يشتغل وفقه قطاع تربية الأحياء المائية، لكنْ من الناحية التجارية يُعَدُ الاستثمار في تربية الأسماك اللاحمة مُجزِيًا ماليًا طالما أنَّ سعر بيع كيلو غرام واحد من لحم السمك المُربى يفوق كثيرًا تكلفة شراء كمية الأسماك المُصطادة اللازمة لإنتاجه، وبالنسبة إلى مالكي هذه الوحدات، فإنَّ الاعتبارات البيئية لا تأخذ بالحُسبان، فطالما ظلت تكلفة تغذية الأسماك المُرباة أدنى من سعر البيع، بحيث يضمن في النهاية ربح بمعدل لا بأس به، فلا بُدَّ من مواصلة الإنتاج.
ستُشَيَّد على امتداد كل خليج أو بحيرة ساحلية أو مصب نهري بالبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عشراتُ الوحدات لتربية الأسماك تمتد لمئات الهكتارات، ما يهدد بتلويث كل هذه المساحات الساحلية بالمخلفات الغذائية، وهي عبارة عن بقايا العلف غير المُستهلك وفضلات الأسماك، وقد تؤدي الأعداد الكبيرة في الشِباك العائمة إلى إنتاج ما يكفي من المُخلَّفات لخفض مستوى الأكسجين في الماء، ما قد يفضي إلى خنق الأسماك البحرية والأسماك المُرباة.
إنَّ إطلاق العناصر الغذائية في المحيط البيئي يُغَيِّر التركيبة الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية للأنظمة البيئية الساحلية، وبما أنَّ هذه الأنظمة هي بمثابة ملاجئ لتوالد ونمو يرقات العديد من الأنواع السمكية التي تساهم في تجدد المصايد البحرية، فإن كل خلخلة لتوازناتها البيئية يضغط بشكل مباشر نحو تقليص المخزونات السمكية.
إنَّ تراكم هذه المخلفات قد يؤدي إلى نمو سريع لبعض أنواع الطحالب التي قد تكون سامة وقاتلة لبعض الأنواع البحرية، بل قد تشكل تهديدات صحية للمستهلكين.
ولمواجهة الأمراض ومحاربة انتشار العدوى، تستخدم ضيعات تربية الأسماك بانتظام، وبشكل دائم، المُضادات الحيوية لوقف انتشار الفيروسات، وسيُشكِّل هذا الاستعمال الكثيف للمضادات الحيوية، تهديدًا مباشرًا للصحة البشرية، إذ سيفضي إلى تطوير مناعة لدى البكتيريا المُسبِبة للأمراض للإنسان..
تُستخدم أيضا العديد من المواد الكيميائية للقضاء على الطفيليات، إضافة إلى استعمال مواد لمحاربة الأوساخ الملتصقة بالشبكات العائمة، وبذلك تنتقل كل هذه المواد والمبيدات للبيئة البحرية، ما يتسبب في ضرر مباشر للأنواع السمكية، ويهدد بتسمم البيئة البحرية بالمبيدات عبر السلسلة الغذائية الطويلة، إذ إنَّ هذه المواد تتركز أكثر عند كل مستوى أعلى من السلسلة الغذائية.
خلاصة القول، لا يساهم قطاع التربية الصناعية الكثيفة للأحياء المائية في الحفاظ على ديمومة الأنظمة البيئية المائية للمحيطات والأنهار، وإنما يعمل بالعكس على تدميرها من خلال رفع حدة الاستغلال المفرط لمخزونات العديد من الأنواع السمكية، لاسيما الأسماك السطحية الصغيرة التي تُوجَّه لمعامل التحويل، نظرًا لتكلفتها المنخفضة ولغناها بالعناصر المُغذِّيَّة، ولا تقتصر التهديدات البيئية للتربية الصناعية الكثيفة للأحياء المائية على استنزاف المخزونات السمكية، وإنما تطول التنوع الإحيائي وتلوث السواحل والأنْهُر والبحيرات.
- الشرقي شمام/ المغرب
المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الرابع: “هذا من عمل البنك والصندوق.. 40 عامًا من التخريب النيوليبرالي لسيادتنا الغذائية“.
يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط
الهوامش:
1-CARPI : Comptoir d’Agréage et de Répartition du Poisson Industriel (CARPI)
2- Larbi Sbai, Pêche industrielle et industrie de pêche au Maroc, voir pp 113-125.
3- Pour des sciences océaniques belles, utiles et partagées
https://wwz.ifremer.fr/peche/FAQ/FAQ/L-aquaculture-pourra-t-elle-un-jour-remplacer-la-peche
4- حسب تقرير 2021 لمنظمة الأغذية والزراعة حول “حالة الأمن الغذائي والتغذية بالعالم”، يوجد أزيد من 10 مليون مغربي في وضعية فقدان حاد أو معتدل للأمن الغذائي. وضمن هؤلاء يوجد نحو مليون ونصف في وضعية مواجهة الجوع.