إنَّ استراتيجيات التراكم في منطقتنا تجلب معها المقاومة والتناقضات بين مصالح رأس المال ومصالح المجتمعات المحلية والمزارعين والصيادين والعُمّال والمعطّلين عن العمل. شهد العقد الأخير ارتفاعا لتحركات اجتماعيّة جديدة نسبيا ضد استخراج الموارد، وهي تحركات مرتبطة بالحركة العالمية للعدالة البيئيّة. وماهي إلا مظهر من مظاهر التوجّه البيئي لدى الفقراء المتنامي نتيجة نزاعات تدور حول طرق استعمال وتوزيع الموارد البيئّية اللازمة لكسب العيش. لا يتعلّق هذا الوعي البيئي كثيرًا بالمحافظة على الكائنات النّادرة والطبيعة البِكر. بل هو بالأحرى بحث عن عدالة بيئية واجتماعيّة وصراعٌ ضدّ الاقصاء الاجتماعي وضدّ عنف وتسلط النيوليبرالية ونخبها. وغالبا ما يكون العنصر البيئي عاملاً ثانوياً أمام الحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة مثل التشغيل وتطوير البنية التحتية وتوزيع الثروة ودمقرطة اتخاذ القرارات.
نحن بحاجة إلى مفردات للحديث عن القضايا البيئية والمناخية باللغة العربية، لإنصاف رؤيةً لمستقبل آمن وعادل نتمكن من الكفاح من أجله. مجرد استيراد المصطلحات والمفاهيم من أماكن أخرى من هذا الكوكب لن ينجح – فلكي تتردد أصداء الأفكار في مسامع الناس في منطقتنا، يجب أن تنشأ هذه المفاهيم في شمال أفريقيا وتجد تربة خصبة لتتجذّر فيها. ولكن من المفيد أيضا التفاعل مع الحركات الاقليمية والعالمية والتعلم منها ومن تجاربها.
العديد من هذه الحركات تستعمل مفاهيم العدالة المناخية والعدالة البيئية والانتقال العادل. ولا يوجد تعريف واحد لأي من هذه المفاهيم، ولكن هذا لا يقوّض قيمتها.
العدالة البيئية
ظهر مصطلح العدالة البيئية في الولايات المتحدة نتيجةً للنضالات ضد إلقاء النفايات في ولاية كارولينا الشمالية في العام 1982. منذ الثمانينيات، أظهرت مئات التقارير أن “الأشخاص السود” والسكان ذوي الدخل المنخفض عانوا من أضرار بيئية أكبر من مواقع النفايات والمصافي وبنية النقل التحتية قياسا بالمجتمعات البيضاء والميسورة. كانت مكافحة الظلم البيئي، بالنسبة للأشخاص الذين شاركوا في هذا النضال، جزءًا من الكفاح ضد العنصرية. وعادة ما تتمحور العدالة البيئية حول احتياجات المجتمع، ما يجعل صناعة الوقود الأحفوري والصناعات الكبيرة الأخرى مسؤولة ويجب أن تتوجّه نحو علاقة مستدامة مع الطبيعة. في هذا الإطار، لا يمكننا فصل التأثيرات المدمرة للبيئة عن التأثيرات على الناس، وأن المجتمعات الأفقر يتم استغلالها لصالح الأقوى والأغنى (رؤية طبقية). تؤكد العدالة البيئية أيضًا بسيادة الناس على أراضيهم ومواردهم الطبيعية.
العدالة المناخية
تم تقديم مصطلح العدالة المناخية وبلورته من قبل منظمات العدالة البيئية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لقد كان نتيجة ربط العدالة الاجتماعية بالمشاكل البيئية المحددة جغرافياً. لم يتم فصلها عن النضالات الأخرى مثل مناهضة العنصرية، والنضال ضد الهيمنة المالية/التجارية الشمالية على الجنوب، وحركة العدالة العالمية أو مناهضة العولمة التي ظهرت لأول مرة في الاحتجاجات ضد منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999.
عادة ما تنطوي العدالة المناخية على الاعتراف بمسؤولية الغرب الصناعي التاريخية في التسبب في ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، وتأخذ في الاعتبار تباين آثارها وعدم تناسب مستويات التصدي لها في البلدان والمجتمعات. إنها تميز وتركّز على دور علاقات السلطة في التسبب في تغير المناخ وفي صياغة الاستجابة له وتحديد من يتحمل هذا العبء. وهذا بدون نسيان أبعاد الطبقة أو العرق أو الجنس، ومسائل الإرث الاستعماري والاستغلال الرأسمالي الحالي. العدالة المناخية تعني القطيعة مع “العمل كالمعتاد” الذي يحمي النخب السياسية العالمية، والشركات متعددة الجنسيات والأنظمة العسكرية، وتتطلب تحولا وتكيّفا اجتماعيا وبيئيا جذريا.
الانتقال العادل
نعرفُ أن النظامَ الاقتصادي الراهنَ يُقوِّض أنظمةَ بقاءِ الحياة على الكوكب، وسينتهي إلى انهيار. لذا بات الانتقالُ محتوما بينما العدالة ليست كذلك. يمثل الانتقال العادلُ في هذا السياق انتقالا مُنصفا نحو اقتصادٍ مستدام ايكولوجيا، ومنصفٍ وعادلٍ لكل أعضائه. ويعني الانتقالُ العادل انتقالا من نظام اقتصادي قائم على استخراج الموارد واستغلال الأشخاص إلى نظام مُهيكل بالأحرى حول استرجاع وإحياء مجالات الحياة والحقوق وكرامة البشر. إن رؤيةً جذرية للانتقال العادلِ تُدرك تدمير البيئة والاستخراج الرأسمالي، والعنف الامبريالي، واللامساواة، والاستغلال، والتهميش وفق محاور العرق والطبقة والنوع الاجتماعي، وتحلّلُها بما هي مفاعيل متزامنة لنظام شامل يستدعي التغيير. و”الحلول” التي تسعى إلى تناول بُعد واحد، مثل الكارثة البيئية، دون اعتبار البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الكامنة خلفها، “حلول زائفة”.
ويستند الانتقالُ العادل كذلك على مفاهيم مثل الديمقراطية والسيادة الشعبية على الأرض، الثروات، الغذاء والطاقة لتشكيل رؤية عالم يتيح للناس الإفادة والتحكم في الموارد التي يحتاجون لأجل حياة لائقة، وحيث يقومون بدور سياسي في اتخاذ القرار حول كيفية استعمال تلك الموارد ومن يستعملها. يجب أن يكون هذا الانتقال خاضعا لرقابة المجموعات السكانية، لا أن تترك للقطاع الخاص، لأن المشاركة النشيطة في اتخاذ القرار وبناء الانتقالات أمرٌ حاسمٌ.
ولا يقتصر أمر الانتقال على الطاقة. إذ تمثل الزراعةُ الصناعية والتجارية مكانَ التقاء آخرَ بين السيطرة الامبريالية وتغير المناخ. فهي ليست إحدى محركات تغير المناخ وحسبُ، بل تُبقي بلدانَ الجنوب أسيرةَ نموذجٍ زراعي غير مستدام ومدمرٍ، قائم على تصدير منتجات زراعات ريعية وعلى استنزاف الأراضي والموارد المائية النادرة في مناطق جافة وشبه جافة، مثل مصر وتونس والمغرب (وكذا الجزائر أكثر فأكثر). وفي هذا السياق تقع مسألة السيادة الغذائية في قلب مفاهيم العدالة البيئية/المناخية والانتقال العادل.
السيادة الغذائية
إن “السيادة الغذائية” ليست مجرد مفهوم تمردي، ولكنها أيضًا مشروع جذري للتغيير الاجتماعي والاقتصادي العميق نحو السيادة الشعبية للمنتجين الحقيقيين للمواد الغذائية على وجه الخصوص والمضطهدين بشكل عام. ترتبط “السيادة الغذائية” عمومًا بحق الشعوب في تقرير المصير على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وبناءً على هذا المنطق، فإن أي مناقشة للسيادة الغذائية في بلدان المنطقة العربية يجب أن تتناول المسائل المتعلقة ببنيات السلطة غير العادلة على المستوى العالمي، واستدامة الموارد، ونزع ملكية الفلاحين التاريخي وزعزعة استقرارهم في الفترة الاستعمارية وفي حقبة ما بعد الاستعمار من خلال فرض الإصلاحات الاستعمارية الجديدة وبرامج التقويم الهيكلي النيوليبرالية.
وبنفس القدر من الأهمية، لا يمكن اختزال السيادة الغذائية في مناقشة بسيطة حول الزراعة. إنها تتعلق بطبيعة وأداء الاقتصاد بأكمله. كذلك، لا يمكن ربطها بالمدى القصير وبزراعة كثيفة مرتكزة على الصادرات في إطار نموذج فلاحي تجاري وصناعي. في الواقع، إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسيادة الشعبية، وبالديمقراطية الجذرية، وبالعدالة القائمة على إعادة التوزيع، وبمبادرات الاستدامة التي يقودها صغار الفلاحين/ الحيازات العائلية وغيرهم من صغار المنتجين الآخرين.
كل هذه المفاهيم تتقاطع مع بعضها البعض وتغني النقاشات حول مسائل العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ونحن نعتقد أنه يجب تبنيها في رؤانا التحررية وأقلمتها مع بيئاتنا السياسية وسياقاتنا الاجتماعية.
على سبيل الختام
يجب أن يغيِّر التّحوّل/الانتقال الأخضر والعادل بشكل أساسي نظامنا الاقتصادي العالمي الذي لا يصلح على المستوى الاجتماعي والبيئي، وحتى البيولوجي (مثلما كشفته جائحة كوفيد-19)، وأن ينهيَ العلاقات الاستعمارية التي ما زالت تستعبِد الشّعوب. يجب أن نتسائل دائماً: من يمتلك ماذا؟ من يفعل ماذا؟ من يحصل على ماذا؟ من يفوز ومن يخسر؟ ومصالح من تأتي في المرتبة الأولى؟ نحن بحاجة إلى الابتعاد عن المنطق الإمبريالي والعرقي (وكذلك الجندري) لتحميل العبء للآخرين، الذي إذا تُرك دون تحدٍّ، لن يؤدي إلّا إلى استعمار أخضر ومزيد من السعي للاستخراج والاستغلال من أجل أجندة خضراء مزعومة.
يستلزم الكفاح من أجل العدالة المناخية والانتقال العادل أخذ المسؤوليات ونقاط الضعف المتفاوتة بين الشمال والجنوب في عين الاعتبار. لذلك يجب سداد الديون البيئية والمناخية إلى بلدان الجنوب العالمي التي باتت أكثر تضرراً من تغيرات المناخ والتي حبَستها الرأسمالية العالمية في نمط استخراجي نهّاب ومدمّر. يجب، في سياق عالمي من اللّبرلة القسرية والدفع باتجاه صفقات تجارية غير عادلة، بالإضافة إلى التدافع الإمبريالي على النفوذ وموارد الطاقة ، ألا يصبح أيّ انتقال أخضر وأيّ حديث عن الاستدامة واجهة لامعة لمخططات الاستعمار الجديد للنهب والسيطرة.
يجب أن يكون الانتقال الأخضر في منطقتنا، كما في سائر بلدان أفريقيا وسائر بلدان الجنوب، مشروعاً قائما على السيادة، موجهاً أساسا نحو الداخل، وقاصدا أولا تلبيةَ الحاجاتِ المحلية قبل النظر في إمكان التصدير. لا يمكنُ أن نستمر في الإنتاج لصالح غيرنا، وإطاعة إملاءاتهم. إننا نحتاج، لتصميم وتطبيق تحول عادل بعيداً عن الوقود الأحفوري والنمط الاستخراجي (بما يشمل القطاع الزراعي)، إلى إنقاذ بيئتنا من براثن آليات السوق وإعادة صياغة النقاش حول قضايا العدالة والمحاسبة والمنفعة الجماعية. ويجب علينا أن نبتعد عن منطق رأس المال الذي يجزّئ أسباب عيشنا وأراضينا ويسلّعها ويخصخصها.
إن الأزمة البيئية والانتقال الضروري يتيحان لنا، من أوجه عدة، فرصةً لإعادة تكييف السياسة. لذا يجب أن يكون النضال من أجل انتقال عادل وعدالة مناخية ديمقراطيًّا للغاية عبر خرط مجموعات السكان الأكثر تضررا والاستجابة لحاجات الجميع. المقصود بناء مستقبلٍ يتيح للجميع كفايتَه من الطاقة وبيئةً نظيفةً وآمنةً، ومستقبلٍ منسجمٍ مع المطالب الثورية للانتفاضات الافريقية والعربية، مطالبِ السيادة الشعبية والحرية والعدالة الاجتماعية.
وسوف يكون هذا النضال العالمي سمة القرن الحادي والعشرين.
هيئة تحرير مجلة سيادة
- المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثالث لمجلة سيادة “الكفاح من أجل العدالة المناخية والسيادة الغذائية”
- الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط