ذريعة فيروس كورونا: دفع أموال أقلّ للمزارعين نظير محاصيلهم



يتجلى وادي الكبير مُطلا على الضفة الشمالية للمسطح الملحي شط الجريد ومتخذا من الطريق الرئيسية الرابطة بين توزر ودقاش متنفسًا له. هناك، يمتلك ويدير عزيز ووالده المسن واحة تمور صغيرة تمتد على هكتار واحد. من المنتظر أن يتم جني محصول هذا العام بحلول منتصف أكتوبر، بيد أن عزيز وعمّاله يواجهون انتكاسة جديدة هذه السنة تتمثل في فرض الزبائن لأسعار متدنية جدا بتعلة انهيار الطلب نتيجة لتفشي جائحة كورونا.

’’ قمنا السنة الفارطة ببيع الكيلوغرام الواحد من التمور مقابل حوالي 3.5 دينار… ولكن المصانع الآن مستعدة لشراء محصول هذا العام بدينارين فقط للكيلوغرام الواحد‘‘.  وواصل عزيز مفسرا لمشكال. ’’ تتعلل المصانع بمشاكل العرض التي تعاني منها، ويدّعون أنهم لم يتمكنوا من بيع كل مخزون السنة الفارطة بسبب تداعيات انتشار كوفيد 19.‘‘

على غرار صغار مزارعي التمور الآخرين، لا يتمتع عزيز بخيارات أخرى عدى بيع محصوله للمصانع القريبة التي توفر الموارد الكافية لغسل وتجفيف وفرز وتعليب التمور، فضلا عن القدرة على الحصول على التمويل وربط شبكة العلاقات اللازمة للوصول لأسواق التصدير – الوجهة النهائية لاغلب التمور التونسية. من المرجح أن يكون النفوذ الاقتصادي الذي تتمتع به هذه المصانع على عزيز هو السبب الأساسي الذي أثناه عن الإفصاح عن اسمه الحقيقي عند التحدث لمشكال. إذ بينت إحدى الدراسات أن مصانع التمور تقوم بإنشاء قوائم سوداء بأسماء العمال الذين يحتجون ضد ظروف العمل ويتشاركون هذه الأسماء فيما بينهم. ولهذا، خيرنا في هذا المقال تغيير أسماء بعض المزارعين وعمال الفلاحة الذين استجوبتهم مشكال.  

عمر، صديق عزيز الذي يعمل أحيانا لديه، تحدث لمشكال قائلا  ’’ خلق وباء كوفيد 19 أزمات تتجلى آثارها على مستوى الطلب، ولكن ما يثير الاستغراب هو أن كل المصانع تخفض من الأسعار لتستقر على نفس السعر تقريبا.‘‘ مضيفا أنهم ’’ يدركون أن الضيعات الفلاحية الصغيرة تفتقر للمرافق… وأن هذه الضيعات لا تسوِّق سوى 10% من مخزونها في السوق المحلية، الأمر الذي جعلها في تبعية لهذه المصانع التي تشتري محاصيلها.‘‘

نشأ عمر وترعرع رفقة عزيز في مدينة دقاش، ويعيش الآن في توزر المجاورة.

أردف عمر في سياق حديثة عن عزيز قائلا:’’ وضعه صعبٌ، إذ أن أرباحه ستشهد تراجعا كبيرا في حال اشترت المصانع الكيلوغرام الواحد بما يعادل الدينارين. في نفس الوقت، لا يمكنه التخفيض بشكل كبير في أجور العمّال الموسميين لأن ذلك سيدفعهم للتوقف عن العمل في الضيعة. ‘‘

على غرار عزيز، يجد العديد من صغار المزارعين أنفسهم مجبرين على البحث عن وظائف أخرى لإضافتها لإيرادات المحصول، وذلك على الرغم من ملكيتهم للأراضي ووضعيتهم الميسورة نسبيا بالمقارنة مع عمال الفلاحة الموسميين الذين يشغلونهم. لم يغفل عمر عن الإشارة إلى أن عزيز مطالبٌ بالاعتناء بالواحة طوال السنة، الأمر الذي يحِّدُ من قدرته على القيام بوظائف أخرى وإيجاد مصادر دخل إضافية.

دقلة النور‘‘ صنف من نخيل التمور الموجودة في واحة عزيز في وادي الكبير، في التاسع عشر من أوت 2020. صورة لجاك جفري.

لم يخف عمر وعزيز استيائهم من مصانع التمور، والتي تعود ملكية بعضها لشركات عالمية ضخمة حسب قولهم. حاولت مشكال الاتصال بعدد من هذه المصانع في ولاية توزر للحصول على تعليقها ولكن دون جدوى. تم الاتصال بمصنع مسجل تحت اسم ’’رويال بالم فاكتوري‘‘ إثر الحصول على رقم الهاتف التونسي على الإنترنت، وقد مدنا ممثل المصنع بالعنوان إلكتروني ’’ رويال غروب أ.إي‘‘ والذي يبدو أنه متصل بشركة قائمة في دولة الإمارات العربية.

من الصعب الجزم بما إذا حصل فعلا تراجعا كافيا في الطلب من السوق العالمي لتبرير هذا التدني على مستوى الأسعار. يشير تقرير البنك الدولي الصادر في شهر أفريل  إلى تأثير وباء كورونا الذي ’’أدّى لانخفاض في أغلب أسعار السلع، و من المتوقع أن يتفاقم هذا التراجع طوال سنة 2020‘‘ و لكن التقرير يسلّط الضوء على قطاعات الطاقة والسلع المعدنية باعتبارها الأكثر تأثرا فيما لم تشهد أسعار المنتجات الزراعية سوى’’معدلات تراجع طفيفة في الربع الأول لسنة 2020.‘‘

وفقا لآخر الإحصائيات التي نشرها المرصد الوطني للفلاحة، سجل الميزان التجاري الغذائي عجزا بلغ 137.1 مليون دينار بتاريخ جوان 2020، أي بتحسن ملحوظ بالمقارنة مع نفس الفترة من السنة السابقة التي تميزت بعجز بلغ 679.4 مليون دينار. ولكن يُعزى ذلك أساسا إلى زيادة هائلة في صادرات زيت الزيتون وتراجع في واردات السكر. يشير نفس التقرير الشهري للمرصد الوطني للفلاحة إلى تسجيل كمية صادرات من التمور تعادل 67000 طن بتاريخ جوان 2020، أي بتراجع يبلغ  فقط 4000 طن بالمقارنة مع نفس الفترة في 2019 التي استقرت فيها الصادرات على مستوى 71000 طن. يعكس هذا التفاوت تراجعا بنسبة 5.6% في حجم الصادرات، ولكن اللافت للانتباه هو التراجع الأهم في قيمة صادرات التمور التي انخفضت بما يعادل 9.3%. سجلت صادرات أخرى انخفاضا أكبر في كميتها بالمقارنة مع 2019، إذ تراجعت بقيمة 34.3% بالنسبة للقوارص و 35.6% فيما يخص منتجات الصيد البحري. [يمكن الاطلاع على النسخة العربية لتقرير المرصد الوطني للفلاحة لشهر جوان على هذا الرابط]

وفقا لعزيز، لا يمكن لتراجع الصادرات البالغ 5.6% – أو حتى للانخفاض الموازي لذلك في القيمة السوقية بنسبة 9.3% – أن يبرر شبح الهبوط الحاد بنسبة 40% من عائدات واحته الذي يلوح في أفق الخريف القادم.

في سياق حديثة لمشكال، بيّن عمر، الذي سيعمل في حصاد محصول عزيز من التمور في فصل الخريف، أن تشغيل قوى عاملة صغيرة متكونة من 5 عمال خلال حصاد الخريف يُكلف واحةً ذات هكتار واحد كواحة عزيز 5000 دينار. وسيتم اقتطاع هذه الأتعاب من مجموع العشرين أو الخمس وعشرين ألف دينار التي عادةً ما يجنيها عزيز من بيع محصوله. هذا علاوة على التكاليف الثابتة كالأسمدة وضريبة المياه التي يتعين أخذها جميعا في الحسبان.

نمو الصادرات يعني كذلك أكثر حاجة للمياه وارتفاع في التكاليف

قبيل انتشار فيروس كورونا، تميز حجم صادرات تونس من التمور بالارتفاع المطرد طوال خمس عشر سنة، إذ مرّ من 53000 طن سنة 2005 إلى 100000 طن سنة 2015، قبل أن يبلغ عتبة قياسية ناهزت 120000 طن بين أكتوبر 2018 وسبتمبر 2019. ولكن، بالتوازي مع الزيادة في الإنتاج، تعظم كذلك الحاجة للمياه.

وفقا لدراسة، تعادل كميات المياه اللازمة للعناية بأشجار النخيل التونسية حوالي 23600 متر مكعب للهكتار الواحد [تغطي تمور عزيز هكتار واحد.]

طبقا لبيانات مكتب الأرصاد الجوية بتورز، ارتفعت معدلات الحرارة في تونس بحوالي درجة مئوية واحدة (1.8 درجة فهرنهايت) منذ سنة 1988. ومن المتوقع، بالاستناد لدراسة تولت وكالة التنمية الدولية الأمريكية إعدادها، أن يتم تسجيل ارتفاع أشد وطأةً خاصة مع تصاعد معدلات الحرارة القصوى سنويا بما يتراوح بين درجة مئوية ونصف و درجتين مئويتين ونصف بحلول 2030، قبل أن تقفز لما بين 1,9 و3,8 درجة مئوية بحلول سنة 2050. كنتيجة لذلك، ستحتاج أشجار النخيل في وادي الكبير، مثلها مثل واحات التمور الصغيرة المنتشرة في توزر وقبلي، لكميات إضافية من المياه لتضمن عملية ري كافية لأشجار النخيل بالتوازي مع ارتفاع درجات الحرارة ومعدلات الرطوبة التي ستؤدي لإفراز النخيل للمياه. إن لم يتم معالجة هذا المشكل، سينجر عن ذلك انكماش في المحصول الذي سيغدو أكثر جفافا وعرضة للأمراض.

على صعيد آخر، سينجر عن هذه المياه الإضافية المتأتية من الآبار العمومية وينابيع المياه المحلية ترفيعٌ في نسب الضرائب التي تفرضها مجامع التنمية الفلاحية، وهي مؤسسات حكومية محلية على عاتقها مسؤولية توزيع المياه وتسعيره. في ظل الظروف التي يفرضها السوق حاليا، لا يمكن لمزارعين مثل عزيز تحمل مثل هذه التكاليف.

صورة للبئر الذي يستغله عبد الستار بن سعيد وشقيقاه في ري محاصيلهم في مرناق. تصوير جاك جفري في 22 أوت 2020.

عوضا عن تسهيل حاجياته من المياه، تقوم الدولة، وفقا لعزيز، بفرض رسوم مجحفة ضده، خاصة أن عدة تقارير أبرزت أن العديد من الشركات الكبرى تتمتع بإعفاء من هذه الرسوم. نتيجة لذلك، يلجأ المزارعون المحليون لطرق بديلة للحصول على الماء، من مصادر غير معلومة للمسؤولين القائمين على الولاية.

توجد وراء قطعة الأرض التابعة لعزيز واحة تمور تمتلكها الدولة منذ الاستقلال. لم تتمكن مشكال من التعرف على المجموعة المسؤولة على إدارة أرض الدولة، ولكن، فيما يخص قضية جمنة المشهورة، اعتبر أبناء المنطقة أن المحسوبية والمحاباة فضلا عن منظومة مصادرة الأراضي تتبع  و تحاكي نهج النظام لعبت جميعها دورا في تحديد الإجراءات الحكومية المتّبعة لتأجير واحات التمور المملوكة للدولة.

’’ يقومون بتوظيف فريق كامل من العمال على امتداد السنة ولا أظن أنهم يواجهون أي مشكل للحصول على مياه إضافية. ‘‘ جاء هذا على لسان عمر في سياق حديثه عن قطع الأراضي المملوكة للدولة.

أرض بمساحة ثلث هكتار أرض لا تسد الرمق

لا يمُسّ الانكماش من هم تحت رحمة المصانع والفلاحة الصناعية فحسب، إذ يتوقع البعض من صغار الفلاحين الذين يعتبرون بمنأى عن ذلك تراجعا في الأرباح كذلك.

تقع بالقرب من مدينة مرناق، على بعد حوالي 10 كيلومترات جنوب العاصمة تونس، ضيعة صغيرة لزراعة العنب يتولى عبد الستار بن سعيد إدارتها. اشترى الحاج صغير بن سعيد، والد عبد الستار البالغ 84 سنة، الأرض في أوائل الستينات، وتم منذ ذلك الحين تقسيم الضيعة بشكل متساوي بين عبد الستار وأخويه.

تقع على عاتق وجدي، ابن عبد الستار، مسؤولية نقل العنب لسوق الجملة أين يتم بيع المنتوج للتجار الآخرين. يتوقع عبد الستار، لو فرضنا بيع المحصول كاملا، أرباحا تناهز 10000 دينار هذا العام، وهو ما يعادل مداخيل السنة الفارطة.

ولكن يبدو الابن وجدي أكثر تشاؤما.

’’ قمنا السنة الفارطة ببيع كل صابة العنب مقابل حوالي 20000 دينار، ما سمح لنا بالحصول على أرباح صافية تتجاوز 10000 دينار، ولكن ذاك يعود لما قبل تفشي فيروس كوفيد 19.‘‘ وواصل مشددا: ’’ ندفع لعمال الجمع حوالي 4000 دينار، بينما نتكبد 2000 دينار أخرى في شكل رسوم مقابل استغلال مياه بئرنا في ضيعتنا الممتدة على ثلث هكتار. بالنظر لوضعية السوق حاليا، أكاد أجزم أننا سنكون محظوظين إن تمكنا من جني 10000 دينار هذا العام‘‘.

تشاؤم وجدي نابع من حقيقة ساطعة لا يمكن إنكارها: بغض النظر عن حجم الصابة وقيمتها، مساحة الثلث هكتار غير كافيٍة لإعالة أسرة ممتدة.

وأكّد وجدي ’’ كلنا، باستثناء أمي وأختي، نزاول أعمال أخرى، فأنا مدرس للغتين الفرنسية والعربية على الأنترنت وشقيقي التوأم يعمل في الميناء ووالدي بنّاء. ‘‘

صورة لوجدي بن سعيد أمام عربة نقل العنب الذي تم جنيه من مزرعة والده في مرناق من طرف عمال زراعة موسميين في 22 أوت 2020. سيتوجه وجدي نحو سوق الجملة في بن عروس. تصوير جاك جوري.

في مقال تم نشره في مجلة ’’الغذاء أوّلا‘‘سنة 2019، يذهب حبيب العايب، وهو المختص في الجغرافيا الاجتماعية ومنتج أفلام وعضو مؤسس لمرصد السيادة الغذائية والبيئة إلى تحميل كل من القطاع الفلاحي الموجه نحو التصدير وغياب سياسات الحماية مسؤولية خلق صناعة فلاحية تعاني من الاستقطاب، الأمر الذي من شأنه تقويض تنافسية ونمو الضيعات الصغيرة على غرار ضيعة عبد الستار. علاوة على ذلك، يولي العايب اهتماما خاصا بمشاكل انعدام المساواة في علاقة بملكية الأرض.

كما يشير العايب إلى أن ’’3% فقط من المنتجين الفلاحيين يملكون أراضي تتجاوز مساحة كل منها 100 هكتار. ويستأثر هؤلاء بنحو 30% من الأراضي الصالحة للزراعة ويذهب أغلب إنتاجهم نحو الأسواق الخارجية. ومن جانب آخر، يمتلك 97% من الفلاحين أراضي تقل مساحة كل منها عن 100 هكتار، وتغطي هذا الأراضي الثلثين المتبقيين من الأراضي الصالحة للزراعة. فيما يُوجه أغلب هؤلاء الفلاحين إنتاجهم نحو الأسواق المحلية و/أو الوطنية. ‘‘

يرى العايب أن الخلاص من هذا المأزق يكون من خلال’’ معالجة تقوم على إصلاح زراعي جذري يضبط الحد الأدنى والأقصى لملكية الأراضي الفلاحية وينظم استغلال الأراضي والإنتاج الفلاحي وأسواق الأغذية و يسخر السياسات الجبائية في سبيل الحد من المضاربة في الغذاء والفلاحة و يغيّر وجهة الإنتاج الفلاحي نحو الأسواق المحلية والوطنية عوضا عن تصديره للأسواق الدولية. ‘‘

عند سؤال وجدي بن سعيد وشقيقه الـتوأم مجدي عن تطلعهم لحيازة جزء من أرض العائلة، إعترف الشقيقان أنهما كانا يشعران بضرورة المحافظة على هذا التقليد على الرغم من التحديات المحفوفة به، إذ أردف وجدي مؤكدا ’’ الحياة هادئة هنا حيث أستمتع بوقتي أكثر بكثير من عملي بتونس العاصمة. ‘‘

التخلي عن الفلاحة لكسب الرزق

حتى قبل تفشي كوفيد 19، لم يكن صغار المزارعين وعمال الفلاحة الموسميون قادرين على كسب رزقهم من الفلاحة وحسب، وذلك على الرغم من كثافة العمل، مما دفع العديد منهم للبحث على مورد رزق آخر أو الهجرة للمدن.

بالعودة إلى واحة عزيز للتمور الموجودة في وادي الكبير، تطرق ماهر ابن عم عزيز البالغ 14 سنة لما يعنيه له العمل في ضيعة العائلة، قائلا: ’’ خلال موسم الحصاد، يبلغ الأجر اليومي حوالي 20 دينار، وهذا أعلى من أي عمل قد أقوم به خلال هذه الفترة من السنة. ولكني أحب القيام بكل أنواع الأعمال‘‘ كما صرح لمشكال أنه كان يتحصل على هذا الأجر المعمول به في القطاع على الرغم من كونه فردا من العائلة. في الواقع، يعمل ماهر في جني محصول التمور ولكنه يقوم بأعمال يومية أخرى في حظائر البناء في توزر ودقاش.

يبين تقرير منظمة يونيسيف السنوي لسنة 2016 أن ما يزيد عن 100000 طفل تونسي يغادرون مقاعد الدراسة سنويا وهم دون سن 16 سنة أي قبل إتمامهم لسنوات الدراسة الإجبارية. سمحت المادة 53-2 من قانون الشغل، المنقح في سنة 1996، للأطفال البالغين 14 سنة بالعمل، شريطة أن يندرج هذا العمل في برنامج ’’دراسة‘‘ أو ’’تدريب‘‘ رسمي. خلال حديثه لمشكال، لم يكشف ماهر بوضوح أنه توقف عن الدراسة، لكن من المؤكد أنه ستخلف عن جزء من الفصل الدراسي في الخريف إن توجه للعمل في وادي الكبير خلال فترة الحصاد.

حماس ماهر الظاهري للعمل لا يشاطره فيه زميله الأكبر سنا، أنيس، الذي قام عزيز بتشغيله للعمل خلال حصاد هذا العام.

’’ أعرف شخصيا العديد من الرجال في عمرى الذين غادروا توزر للبحث عن العمل، خاصة نحو مصانع تونس وصفاقس. فهناك يمكن أن تجد عملا بدوام كامل في مقابل الحاجة هنا للانتقال من عمل إلى آخر بصفة يومية. ولو لم يكن الأمر متعلقا بوالدتي المسنة لكنت قد رحلت منذ سنين.‘‘ أعرب أنيس خلال تصريحه لمشكال.

لئن يصعب إيجاد بيانات توضح أنماط الهجرة الداخلية في تونس، تبرز بعض المؤشرات التي تبين تواصل نمط معين، ألا وهو هجرة الشباب من المناطق الريفية الفلاحية نحو المراكز العمرانية بحثا عن العمل. وفقا لدراسة مستقلة قامت شركة البيانات التكنلوجية ’’كنوما‘‘  بنشرها، بلغ مجموع عدد المهاجرين المغادرين لتوزر بحثا عن عمل 1699 شخص ، مع الأخذ في الاعتبار أن مجموع سكان توزر يتجاوز عتبة المئة ألف نسمة بقليل. في نفس السنة، سجلت ولاية قبلي المعروفة كذلك بزراعة التمور، والتي يتجاوز عدد سكانها توزر بقليل ، أرقامً مماثلة للمهاجرين المغادرين، حيث استقرت الحصيلة على 1369 شخصا غادروا الولاية لأسباب متصلة بالعمل.

تتواتر الأدلة كذلك عن هجرة تونسيين قادمين من مناطق البلاد الداخلية نحو أوروبا، غالبا في رحلات محفوفة بالمخاطر عبر المتوسط، وعن تزايد هذه التدفقات في السنوات الأخيرة نظرا للصعوبات الاقتصادية، حيث كشف تقرير عن هجرة 600 شخص غادروا تطاوين خلال شهر واحد سنة 2017.

مثلت البطالة المستمرة وركود سوق الشغل الذي تهيمن عليه العمالة الموسمية ذات الدوام الجزئي سمات مميزة لاقتصاديات بلدان الجنوب طيلة عقود.

في مدينة توزر، بعيدا عن مسامع أرباب العمل الموسمي، كان الصديقان عمر وكريم أكثر وضوحا في نقدهما للصناعة الفلاحية المحلية. لم يتمالك كريم نفسه من الضحك عند سؤاله عن أجرته اليومية، هو الذي يعمل في مزرعة فلفل أحمر وواحة تمور خلال موسم الحصاد.

’’ أجر يومي!؟ لا أتحصل على أي مليم إلا بعد بيع المحصول. أتحصل على نسبة مئوية ضئيلة [من مجموع إيرادات المحصول]، تتراوح بين 10 و 15 بالمئة‘‘ وواصل كريم مفسرا ’’ سأقوم بأي شيء آخر لو توفر هذا الأجر اليومي‘‘.   

الصديقان عمر (يسار) وكريم يجلسان على عتبة مقهى ذو أبواب موصده وسط مدينة توزر في ساعة متأخرة من ليلة 19 أوت 2020. تصوير جاك جفري.

لا يكتفي كريم بهذا العمل الموسمي في المجال الفلاحي فحسب. فهو ينشط كذلك في مجال السياحة. صرّح كريم لمشكال قائلا: ’’ أسافر كل سنة خلال أشهر الصيف الأولى للحمامات رفقة صديقي لنعرض على السياح الأوروبيين ركوب الجمال. لطالما اعتبرت تلك الفترة من السنة فترتي المفضلة، حيث أحظى بقليل من الهدوء والسكينة. ولكن نظرا لتفشي كوفيد 19، باتت الشواطئ خالية هذا العام.‘‘

من جانب آخر، يعتبر عمر نفسه من الأقلية المحظوظة إذ تمكن من ضمان شغل قار كموظف استقبال في فندق عمه في توزر. ’’ يجدر بك أن تدرك أن كل الرجال هنا تقريبا مرّوا بتجربة العمل في واحات التمور. قام والدي منذ 30 سنة بشراء وزراعة قطعة أرضه. كنت قد عملت معه على الأرض عندما كنت طفلا يافعا لمساعدته على زراعة أولى البذور‘‘ وختم كلامه مازحا ’’لعل ذاك هو سبب كرهي الشديد للتمور.‘‘

على مقربة من تونس العاصمة، في مزرعة عبد الستار للعنب، تقتصر العمالة الموسمية على النساء حيث رحل العديد من الرجال للمدينة بحثا عن العمل.

أكد وجدي نجل عبد الستار أن جمع الغلال في مرناق نشاطٌ لطالما هيمنت عليه النساء المتزوجات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 35 و60 سنة. يعتقد وجدي أن نمط التشغيل هذا أصبح ممكنا، في جهة مرناق بالخصوص، بفضل قرب المنطقة من العاصمة، حيث فسّر قائلا: ’’غالبا ما يبحث الرجال هنا عن موطن الشغل القار البعيد والموجود في المدينة، ويتمثل عادة في حظائر البناء في الضواحي الجنوبية للعاصمة، فيما تبقى الزوجات في المنطقة المحلية.‘‘

خلال زيارة مؤخرا لقطعة أرض عبد السلام بن سعيد، كانت ثلاث عاملات محليات، مريم ولطيفة وفاطمة، تعملن بجد لتفحص حالة الكروم من محصول هذا العام ومعرفة أي منها نضج باكرا وأصبح جاهزا للقطاف. تحسبا للحرارة الشديدة في منتصف النهار، ينطلق عملهن على الساعة السادسة صباحا ليتوقف عند الغداء. وفقا لمشغلهن، سيعملن هذا الخريف يوميا طوال ثلاث أسابيع مقابل عشرين دينارا كأجرة يومية. ’’ توجد محاصيل متنوعة في المنطقة يجب جمعها خلال موسم الحصاد‘‘ قالت مريم، ذات الأربعين ربيعا، والأكبر سنا من بين الثلاث، و واصلت قائلةً:’’ أغلب الضيعات هنا تنتج العنب، خاصة المسكي. ولكن نجد كذلك التفاح والخوخ والتين واللوز، ويتوجب جنيها جميعا في فترات متباينة نوعا ما. نادرا ما نفتقر للعمل خلال هذه الفترة من السنة‘‘.

وأضافت فاطمة: ’’عملنا في حصاد المحاصيل لسنوات طويلة وجميع الفلاحين المحليين يعرفوننا حق المعرفة‘‘. لم تتمكن مشكال من التثبت من الأجرة التي تتحصل عليها النسوة حيث كن يتحدثن بحضور ابن المُشغل. كشفت سوسن الجعايدي، الباحثة صلب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في تصريح خصت به مشكال السنة الفارطة، أن أجرة العاملة الفلاحية الموسمية تتراوح عادةً بين 12 و14 دينار في اليوم فيما ينال الرجل ما بين 18 و20 دينارا في اليوم نظير نفس العمل المنجز.

توزر – جاك جفري. ترجمة: محمد شريف الزرعي

ساهمت وئام الشتاوي في مراجعة و تحريرالمقال

الرابط الأصلي للمقال