العدد الثاني من مجلة “سيادة” الافتتاحية: الأرض وآفاق السيادة الغذائية



خلف الاستعمار بعد إخراجه من بلدان شمال افريقيا، بنية عقارية سمتها التفاوت الحاد في الملكية وحق الولوج للأرض.  باستيلاء قسم من خدام الاستعمار على أجود الأراضي الزراعية وحرمان صغار الفلاحين منها، وزاد من تلك الحدة رفض سن سياسة إصلاح زراعي جذري، أو التحايل عليه بعد الاستقلال من طرف النخب التي تسلمت مقاليد السلطة بتلك البلدان.

فكان أن سهَّل ذلك دمج التصرف بمورد الأرض في السياسة النيوليبرالية، بتفكيك القطاع العام، وتعميق استحواذ كبار الملاك الخواص على أجود الأراضي وأوفرها ماء، مع ما يتطلب الأمر من تكييف قانوني، لتشييد ضيعات فلاحية رأسمالية كبيرة موجهة لتلبية طلب استهلاك خارجي، في المراكز الامبريالية أساسا.

في المقابل، كان صغار الفلاحين ومعدومي الأرض ضحية هذا النظام الفلاحي، إذ سرعان ما جرى التراجع عن طفيف المكاسب التي جاء بها الاستقلال، منها استفادتهم من عمليات توزيع اراض، او تسيير ملكيات عامة من قبل العاملين فيها.

 ترتب عن هذا الوضع تحول قسم من صغار الفلاحين إلى عمال زراعيين، أو يد عاملة بالمدن في شتى مهن القطاع المسمى “غير نظامي” أو بشكل أدقّ كجيش احتياطي من العاطلين عن العمل يعيشون في عشوائيات وأحياء شعبية رثّة. أدّى هذا إلى تضخيم أحزمة الفقر التي باتت خاصية مميزة لبلدان منطقتنا على غرار الكثير من بلدان الجنوب التي شهدت سيرورات مماثلة.

كان هذا وضعا عاما بشمال أفريقيا والمنطقة العربية، وبالطبع مع خصوصيات محلية لكل بلد، بما في ذلك مدى الارتهان بالتبعية إلى الخارج، لاسيما إلى الدول والمؤسسات الإمبريالية التي وضعت مسألة الأرض في مرمى سياساتها الاستلابية والتفقيرية التي تشمل قوانين ما سمي “تقويما هيكليا” بداية من ثمانينات القرن الماضي. حيث جرى تمويل مشاريع استثمارية ضخمة (زراعية وغير زراعية) على أراضي منزوعة من ملاكها الأصليين، كما هو الحال في المغرب وتونس ومصر والسودان.

شهدت المناطق الفلاحية والريفية بشمال أفريقيا مقاومة حقيقية من صغار الفلاحين وسكان القرى دفاعا عن أراضيهم وثرواتهم، ضد استحواذ الرأسمال الإمبريالي والخليجي والمحلي، حيث خيضت معارك ضارية، كما هو الحال في موريتانيا في منطقة ترارزة والبراكنة والأراضي السلالية بالمغرب  وأراضي الجزيرة و المناقل بالسودان…وغيرها

تشكل المسألة الزراعية، وبوجه خاص ملكية الأرض، مدخلا أساسيا لأي نضال اجتماعي من أجل السيادة الغذائية في شمال أفريقيا. فلم يعد بالإمكان الحديث عن أية بدائل حقيقية للقطع مع المؤسسات المالية الكبرى، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، والفكاك من قبضة المديونية دون طرح مسألة السيادة الشعبية على الأرض والثروات الطبيعية والأنظمة الغذائية كإحدى النقاط الجوهرية في النضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في منطقتنا.

إن رهن مقدرات بلداننا لرؤوس الأموال المحلية والخارجية، و بمقدمتها للشركات متعددة الجنسية التي تستثمر في نهب الأرض والثروات الأخرى كالمياه النادرة في منطقتنا، سواء عن طريق تشييد السدود وتجهيز العقارات الضخمة (كمحطات الطاقات المتجددة) أو الضيعات الكبرى الفلاحية الموجهة نحو تصدير المحاصيل النقدية والتجارية ذات الكلفة البيئية العالية  أو بتدمير الغابات والأحراج مع استيراد معظم المواد الغذائية الأساسية، يضعنا في مصاف البلدان التابعة غذائيا واقتصاديا.

ما يجري حاليا في منطقتنا من استحواذ الأجانب وكبار الملاك المحليين، على الأراضي وتهجير صغار الفلاحين والرعاة وسكان القرى، عبر سياسات  تتبع النموذج النيوليبرالي، يؤكد لنا راهنية النضال الجماعي في سبيل مشروع السيادة الغذائية (التي تشمل السيادة على الأرض) ليس فقط على الصعيد القطري، بل المغاربي والأفريقي والعربي بشكل عام.

حاولنا قدر الإمكان، من خلال مواد العدد الثاني من مجلة “سيادة”، أن نعطي صورة عامة عن النضالات الجارية حول الأرض (الأسباب والتأثيرات والبدائل)، ونضع مسألة الاستيلاء/الاستحواذ على الأراضي في إطار سيرورة تفقير وسلب الفلاحين بمنطقتنا ضمن عملية مراكمة رأس المال في أيدي أقلية جشعة، على أمل أن نواصل هذا العمل بدراسات ميدانية أكثر تفصيلا حول مسألة الأرض.

 نتناول في هذا العدد مع فاطمة أحمد عبد الباقي، تجربة تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل بالسودان، التي تواجه السطو الرأسمالي على المشروعين، بنضال سواعد المزارعين و المزارعات.

ويكشف لنا الحوار الذي أجريناه مع عمر أزيكي و صقر النور، السياق العالمي للرأسمالية و التحولات التي يجري عبرها الاستيلاء على الأراضي وتشريد صغار الفلاحين بشمال أفريقيا.

ويتضمن ملف العدد، مجموعة من المقالات التي تدرس حالة الاستحواذ على الأراضي في شمال افريقيا، حيث نقرأ لعمر بيسعود مراحل أوجه التغير الاجتماعي والاستحواذ على الأرض بالريف الجزائري.

وتسعى فاطمة ولد بلعيد، باستعراض أوجه الاستحواذ على الاراضي السلالية وهي المسألة التي ترتبط بشكل وثيق بمسألة الأرض في المغرب، بل تعد أهمها على الإطلاق.

ونتابع الملف مع مقال علي أموزاي حول مسألة الأرض في موريتانيا، حيث سلط الرأسمال الاجنبي أنظاره على هذا البلد بالاستيلاء على مجموعة من الأراضي في مناطق مختلفة، مع استعراض أوجه المقاومة التي باشرها الضحايا.

كما يقدم محمد رمضان، رؤيته لصراع القائم على الارض في مصر ويشرح تموضع عمليات المال الخليجي في الاقتصاد السياسي الزراعي لمصر ومنطقة الشرق الأوسط.

كذلك تقربنا دينا شعث من أوضاع المزارعين و المزارعات في غزة المحاصرة من الاحتلال الاسرائيلي، وترسم ملامح صمود صغار فلاحي غزة خلال الحرب الأخيرة على القطاع.

وأخيرا نتابع مع محسن كلبوسي حالة الاستيلاء على الاراضي في تونس من  طرف الشركات الرأسمالية أو الافراد الذين حولوا غالبية الأراضي إلى مناطق انتاج زراعي تصديري مستنزف للماء ومدمر للبيئة.

ونتمنى أن تكون مجلة “سيادة” منبرا لحركات نضال صغار الفلاحين/ات (وصغار منتجي الغذاء عامة)  والمتضامنين معهم، بمراسلات حول قضية الأرض والنضال من أجلها، وأداة عمل بيد نشطاء وناشطات حركات النضال من أجل الحق في الأرض ومن أجل السيادة الغذائية.

علي. أ

هيئة تحرير مجلة سيادة

للقراءة وتنزيل العدد الثاني : هنا

علي أزناكAuthor posts

باحث ومنسق شبكة سيادة.