إعادة بناء السياسة الزراعية بوجه التغيرات المناخية في الجزائر



الظروف الزراعية المناخية صعبة والموارد الطبيعية نادرة وهشة في الجزائر … 

ينضاف إلى الاكراه المرتبط بالتضاريس، حيث المنحدرات سمة للمساحات الزراعية الجزائرية، إكراه مناخي.

تبلغ سيرورة تدهور الموارد الطبيعية مستوى كبيرا بفعل الجفاف، وتهشيش الأراضي الناتج عن التعرية الريحية وضعف الموارد المائية.

يندرج مناخ الجزائر في الطراز المتوسطي، مع أمطار بالغة العنف في الشتاء تؤدي إلى تعرية شديدة. وفي الصيف تنْدُر جدا التساقطات المطرية، وترتفع الحرارة إلى مستويات بالغة. وقد تبلغ الامطار 1600 ملم في السنة في المرتفعات، وهي غير منتظمة من سنة إلى أخرى، ومتفاوتة التوزيع. وتتراوح التساقطات في السهول الداخلية الفسيحة بين 100 و400 ملم في السنة. وتتميز تلك المساحات الداخلية الفسيحة بمناخ جاف وبارد شتاءً، وحار وجاف صيفاً. وفيها يتركز زهاء ثلثي المساحات المزروعة. وتنتشر فيها، ضمن مزاوجة بين تربية الماشية واستغلال انتشاري لأراضي الحبوب، الزراعاتُ السنويةُ لاسيما الحبوبُ والخضرُ الجافة إلى جانب تربية الأغنام والأبقار. وتبلغ سيرورة تدهور الموارد الطبيعية مستوى كبيرا بفعل الجفاف، وتهشيش الأراضي الناتج عن التعرية الريحية وضعف الموارد المائية والممارسة الكثيفة للأنشطة الزراعية-الرعوية.

مناخ مساحات السهوب الشاسعة من النمط شبه الجاف، وحتى يدنو من الجاف فيما يخص بعض المساحات غربَ البلد. ويتمثل أهم نشاط في تربية الأغنام وفق نمط انتشاري، مع أنماط أكثر تكثيفا أحيانا قائمة على تغذية مستوردة. وتبدي أراضي السهوب، الفقيرة وذات النسبة الضعيفة من المواد العضوية، أيضا حساسية قوية للتعرية وللتدهور 1. (complexe terminal et du continental intercalaire).

باختصار، يقع قسم كبير من الجزائر الزراعية في المثلث الجاف وشبه الجاف الذي يمثل 85% من مساحة الأراضي الاجمالية – باستثناء الصحراء-وتضم 60 % من السكان الزراعيين. وهي عرضة لتوالي الجفاف بفعل نقص التساقطات وتفاوت توزيعها.

بحسب معطيات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، يبلغ الاجهاد المائي 137,9% في فترة 2009-2017، مقابل أكثر بقليل من 50% في المغرب، و 121,1% في تونس [2]. وقياسا بالبلدان المجاورة، نجد جاهزية الماء المتجدد للفرد في غير صالح الجزائر، وتقدر في العام 2017 بــ 232 ملم مكعب للفرد مقابل 811 ملم مكعب للفرد في المغرب و400 في تونس.

تؤثر الإكراهات الفيزيقية الضاغطة على مقدرات الجزائر الطبيعية تأثيرا حادا على التوازنات البيئية لمختلف المناطق الطبيعية. وتُضر تعرية الأراضي بأكثر من 13 مليون هكتار من التراب الوطني الذي يفقد كل سنة زهاء 400 ألف هكتار (البنك العالمي 2021) [3]. وتواصل تعرية الأراضي، برغم جهود الدولة في مجالات الحفاظ على المياه و الأرض، تقدمَها وتتضرر الموارد المائية كثيرا بفَرْطِ الاستغلال أو الملوحة. ويهدد التصحر أكثر من 17 مليون هكتار في مناطق السهوب، ويتعرض الغطاء الغابوي بشمال الجزائر بشكل دائم للخطر الطبيعي (الحرائق) أو للضغط البشري (اجتثاث الغابات-استصلاح الأراضي). وبحسب التقرير الأخير للبنك العالمي (2021) [4]، تواجه أكثر من 99% من الأراضي المجردة من غاباتها في الجزائر خطرَ حريق متوسط أو مرتفع. وتشير نفس المؤسسة أيضا إلى أن “عدد اندلاع الحرائق يرتفع منذ العام 2010، وأنه جرى منذ حرائق 2016 و2020 تمديدُ حقبة المراقبة وتعبئة مصالح محاربة الحرائق الغابات” [5].

مؤهلات طبيعية كامنة تهددها جدا التغيراتُ المناخية الجارية

الآثار المحسوسة لتغير المناخ في الجزائر رصدتها تقارير عديدة منجزة بطلب من السلطات. وتتمثل في انخفاض السيلان والإثلاج، وتعرية أشد، وارتفاع الطلب على الماء بسبب تبخر أكبر والتبخر النتحي (بشكل رئيس على صعيد المساحات المسقية)، وتدهور جودة الماء، وتقصير الدورة النباتية بسبب مناخ أشد سخونة، وانتقال نبات الحلفاء نحو الشمال وتعويضه بأنواع أشد مقاومة للجفاف، وتصحر جلي أكثر فأكثر لمنظر المناطق شبه الجافة، ونقل الريح للرمال بقدر أكبر نحو الشمال، وتغير حقبة هجرة الطيور المهاجرة، وتواتر أكبر لحرائق الغابات (أكثر من 25 ألف هكتار سنويا من المساحات المحروقة في الجزائر). يمكن اعتبار عامل المناخ عاملا مُفاقما لحرائق الغابات الأخيرة [6]. كما تلاحظُ عودةُ الأمراض المفاجئة والطفيليات عند النباتات.

التغيرات المناخية تفاقم هشاشات المقدرات الطبيعية 

سيتجاوز الاحترار العالمي عتبة +1,5 درجة مئوية و+2 درجة مئوية في أثناء القرن 21 ما لم تتحقق تخفيضاتٌ قوية لانبعاثات غازات الدفيئة في العقود القادمة

سجل تقرير التشخيص ضمن الخطة الوطنية للمناخ لعام 2018 أن “مناخ الجزائر يتغير بقوة: من الشمال إلى الجنوب… انتقل من صبغة متوسطية رطبة إلى وسط صحراوي وجاف مرورا بمناخ شبه جاف. ينتج هذا المناخ عن تأثير مزدوج من الدورة الهوائية لخطوط العرض المتوسطة والدورة المدارية والصحراوية (PNC, 2018) [7].

بحسب آخر تقرير (2021) لمجموعة الخبراء الحكوميين حول تطورات المناخ (GIEC)، سيتجاوز الاحترار العالمي عتبة +1,5 درجة مئوية و+2 درجة مئوية في أثناء القرن 21 ما لم تتحقق تخفيضاتٌ قوية لانبعاثات غازات الدفيئة [8] في العقود القادمة [9]. كما كان العقدان الماضيان (2000،2020) مطبوعين بتكاثر الحوادث المناخية القصوى (فيضانات، جفاف، موجات برد وحرارة شديدة). كما أكدت مجموعة الخبراء الحكوميين حول تطورات المناخ على دور النشاط البشري في التغيرات المناخية الملحوظة حاليا.

بيد أن احترار المناخ في المنطقة المغاربية أشد وقعا من المستوى المتوسط عالميا. بلغ ارتفاع الحرارة على صعيد عالمي في القرن العشرين 0،74 درجة مئوية، بينما بلغ في المنطقة المغاربية ما بين 1،5 و2 درجة مئوية حسب المناطق، ويؤدي كل احترار إضافي بــــ+0،5 درجة مئوية، حسب مجموعة الخبراء الحكوميين حول تطورات المناخ ، في حدة وتواتر فترات الحرارة القصوى (موجات حر، تساقطات مطرية قوية، جفاف…)

أبرزت دراسةٌ لأثرِ التغيرات المناخية على الموارد المائية، بإشراف الوكالة الوطنية للموارد المائية في الجزائر (2009)، بناء على فحص متواليات بيانات التساقطات المطرية منذ العام 1900، أن التساقطات في انخفاض بنسبة 40% غربَ البلد، و30% شرقَه. وهكذا تؤكد كل الأبحاث أن الجزائر ستشهد تجددا للحوادث المناخية القصوى، من موجات حر وتنامي حاد للقحولة والتصحر، وحرائق غابات الخ.

تُبرز النماذج المناخية أن هذه الميول، التي باتت مؤكدة بالملاحظات، ستتعزز خلال 20 سنة المقبلة. وبالتالي ينتصبُ تحديٌّ كبير في بلد حيث يرمي توجه السياسات الزراعية إلى تكثيف متزايد لأنماط استغلال الموارد الطبيعية: كيف يمكن في هذه الشروط زيادة الإنتاج الزراعي مع الحفاظ على الموارد الطبيعية المهددة بشدة مستقبلا بفعل التغيرات المناخية الجارية؟

سيكون ثمة مع تغير المناخ تعزز للأحداث المناخية القصوى، وتدهور للبيئة الطبيعة (جفاف، فيضانات، موجات حر، حرائق غابات، اجهاد مائي، تصحر، تعرية أو تدهور حاد للتنوع الأحيائي أرضا وبحرا). وستنخفض التساقطات المطرية، بالنسبة لبلد كالجزائر، وسترتفع درجات الحرارة، ما ستكون له عواقب مباشرة على مقدرات تعبئة مورد الماء وعلى أنظمة الزراعة. وباعتبار قطاع الزراعة أول مستهلك لهذا المورد، ستتضرر مباشرة الانتاجات الزراعية وبالتالي العرض المتاح للمستهلكين[10].

إذ تتوقع مجموعة الخبراء الحكوميين بشأن تطورات المناخ انخفاضا (بالقيمة) للإنتاج بنسبة 21% في أفق عام 2080 فيما يخص مجمل الإنتاج الزراعي لحوض المتوسط، مع بلوغ أقصى انخفاض في الجزائر بنسبة 40%. وستتعرض الزراعات المطرية، المتأثرةُ بوجه خاص بتقلبات المناخ، لانخفاض في التساقطات، وتتوقع أشد السيناريوهات تشاؤما ضياعا في المناطق الزراعية المطرية بنسبة 64%. ويُرتقب بلوغُ خسائر متوسطة في المردود قد تصل إلى نسبة 31% إلى 39% فيما يخص زراعة القمح، وكذا انخفاضٌ في إنتاجية الخضر بنسبة من 15 إلى 30% في أفق العام 2030. وفي السهول السهبية العليا الجزائرية، ستُسبِّب الاضطرابات المناخية، لاسيما تساقطات مطرية أقل، هشاشة أكبر للأوساط الرعوية المستعملة من قبل مربي الماشية. [11].

تتوقع مجموعة الخبراء الحكوميين بشأن تطورات المناخ انخفاضا (بالقيمة) للإنتاج بنسبة 21% في أفق عام 2080 فيما يخص مجمل الإنتاج الزراعي لحوض المتوسط

لن ننسى، ضمن هذه اللوحة الاجمالية السريعة، أن تدهور المناخ سيُسبب انخفاضا في مداخيل الأسر الفلاحية، وارتفاعا لأسعار أهم المنتجات، ما يهدد قدرةَ السكان الشرائية وسيادة البلد الغذائية. هذا التشخيص متفق عليه الى حد بعيد من قبل الخطة الوطنية للمناخ لعام 2018 التي تبنتها السلطات.

أي تدابير متخذة لمواجهة هذه الأخطار؟

حتى قبل أن يتخذ موضوع تغير المناخ طابعه الراهني، تجدر الاشارة إلى برامج متعددة سبق إطلاقها من قبل السلطات العمومية الجزائرية في سنوات 1970. كان ضمنها بناء سد أخضر كبير على طول 1200 كلم وعمق متوسطه 20 كلم لمحاربة التصحر، وكذا مشاريع في إطار حماية الموارد الطبيعية قامت بها المندوبية السامية لمحاربة التصحر، وأشغال حماية السفوح من التعرية المائية أو تطوير النشاط الاقتصادي الغابوي العقلاني[12].

تمثلت التدابير الرئيسية للتكيف مع تغير المناخ، المُوصى بها منذ مطلع سنوات 1980، في اقتصاد الماء، وبناء سدود وسدود تلية، واعتماد ممارسات تقنية جديدة (البذر المباشر)، وتحويل أنظمة الانتاج، وتطبيق برامج محاربة التصحر لتغذية ماشية الأغنام، وحماية الأراضي السهبية وتأهيلها، وإعداد أحواض السفوح، وحماية الغابات وتوسيعها وتطوير التأمينات الزراعية.

إنها تدابير بعيدة عن التحقيق وتظل فعاليتها محدودة [13].

التحولات المناخية في الجزائر

وقد تبنتها الخطة الوطنية للمناخ (PNC, 2012 ; PNC, 2018) التي تمثل بنظر واضعيها حجرَ ناصية عمل من أجل تكييف المجتمع والأنظمة البيئية الجزائرية مع تغير المناخ [14]. ترمي الأهداف الخاصة للخطة الوطنية للمناخ إلى:

  1. تعزيز مقاومة الأنظمة البيئية (فيضانات وجفاف) بقصد تقليل مخاطر الكوارث الطبيعية المرتبطة بالتغيرات المناخية.
  2. محاربة التعرية وتأهيل الأراضي المتدهورة في إطار محاربة التصحر
  3. دمج آثار التغيرات المناخية في الاستراتيجيات القطاعية، ولاسيما الزراعة والمياه والصحة البشرية والنقل.

إن كان الإطار القانوني للخطة الوطنية للمناخ قد وُضع، فإنه غير مكتمل لأن قرارات تطبيق النصوص القانونية الرئيسية المعتمدة لم تصدر بعدُ [15].

إن إشكالية التغيرات المناخية غير مُقدرة حقَّ قدرها اليوم في البرامج الزراعية المعلنة من قبل وزارة الزراعة، وإجراءات التكيف مع التغيرات المناخية بعيدة عن الاستجابة لمفاعيل حدة تلك التغيرات المناخية.

وتتناقض الإجراءات المعلنة من قبل السياسات العمومية الزراعية مع الخطة الوطنية للمناخ، لأنها قائمة دائما على تكثيف متنام لأنماط استغلال الموارد الطبيعية.

يؤدي نموذج النمو القائم إلى تشجيع “قطب كثيف رأس المال” بينما ملايين الفلاحين محكوم عليهم بتدبر المعيشة في وحدات زراعية صغيرة جدا.

إذ يجدر التذكير بأن تحقيق الارتفاعات الأخيرة لحجم الإنتاج الزراعي يجري بتعبئة متنامية لماء الري. كما أن استراتيجية تنمية الزراعة الصحراوية، من أجل زيادة المساحات المسقية وأنواع الإنتاج الزراعي المسماة استراتيجية، والتي تحظى اليوم بالأفضلية عند السلطات العمومية، لا تأخذ بالحسبان بتاتا الاكراهات القاسية التي تميز هذا الوسط الصعب للغاية والهش. وقد بلغت الضغوط الممارسة على المقدرات القابلة للتعبئة من الأراضي والمياه، في بعض المناطق الطبيعية، عتبةً حرجة (واحات، جبال وسهوب) [16]. وينال كثيرا سياق النمو الديمغرافي القوي، والموارد الطبيعية المحدودة، والوسائل المالية المحدودة، والضرورات الاجتماعية في الأمد القصير، من مقدرة تكيف الجزائر، على غرار سائر بلدان الجنوب.

ثمة تغيرات مناخية جلية أكثر فأكثر منذ سنوات، مع العواقب الموصوفة آنفا، دون أن يتغير نموذج النمو الزراعي [17] ! وفضلا عن ذلك، يستند نموذج النمو هذا، القائم على تعبئة متنامية للماء الزراعي وتنمية السلاسل التكثيفية (فواكه، خضر، زيت زيتون، تمور) الموجهة للتصدير، إلى تشجيع “قطب كثيف رأس المال” بينما ملايين الفلاحين محكوم عليهم بتدبر المعيشة في وحدات زراعية صغيرة جدا.

باختصار، النموذج التقني التكثيفي المفرط هو المسؤول الرئيس عن انبعاثات غاز الدفيئة في القطاع الزراعي. وقد بلغ حدوده الموضوعية، ولن يكون بوسعه مواجهة تحديات التغيرات المناخية.

لابد والحالة هذه من تغييرات في كيفية الاستهلاك والإنتاج في هذا البلد.

لا غنى عن تغييرات أساسية: إعادة الاعتبار للزراعية العائلية

ما تزال الزراعية العائلية الصغيرة، التي تستخدم مئات آلاف الفلاحين، تنتظر اعترافا من الدولة وسياسةَ دعم نشيطة

إن لتغير المناخ عواقب جسيمة على أشد السكان عرضة للهشاشة، لاسيما صغار الفلاحين، بينما لا وزن لدورهم بتاتا في حدوث هذه الظاهرة. الجفاف هو الخطر المناخي الرئيسي الذي يدركه صغار المزارعين، ما يستدعي التفكير في مقاربات جديدة أفضل تَكَيُّفاً مع الاكراهات التي يكابدها الفلاحون الصغار. بيد أنه لا يمكن دفع أخطار التغيرات المناخية دون قلب الأسس الاجتماعية التي تقوم عليها السياسة الزراعية. بهذا النحو، يجب أن يكون قطاع الزراعة الصغيرة في صلب الالتزامات الواجبة في مجال التأقلم مع التغيرات المناخية.

ما تزال الزراعية العائلية الصغيرة، التي تستخدم مئات آلاف الفلاحين، تنتظر اعترافا من الدولة وسياسةَ دعم نشيطة[18]. تمثل الزراعة على نطاق صغير المورد الرئيس لتوجيه الإنتاج الزراعي نحو المنتجات الأساسية وتحسين أمن السكان الغذائي. ومن شأن تنويع الأنشطة وأنظمة الإنتاج الملائمة، وانتقاء أنواع البذور الفلاحية الأشد مقاومة للإجهاد المائي التي تلجأ اليها صغار وحدات الانتاج العائلية، أن تتيح تقليل الأخطار المرتبطة بالتغيرات المناخية.

تشكل وحدات الانتاج الزراعي العائلية أغلبيةً في الجزائر في أعمق المناطق القروية (الجبال، السهوب، الواحات). وداخل هذه الوحدات العائلية ينتشر مئات آلاف مزارعي الحبوب والفواكه والخضر، ومربي الماشية (لاسيما أبقار انتاج الحليب) الذين ينتجون ويمونون الأسواق المحلية والإقليمية، مساهمين في الأمن الغذائي لعائلاتهم ولإقليمهم وللبلد.

إن إعادة الاعتبار للزراعة العائلية الصغيرة هو إذن إعادةُ اعتبار لمناطق قروية عديدة، وأيضا تشجيعٌ للسيادة الغذائية القائمة على تنويع الإنتاج الزراعي الجيد، واستفادة الفلاحين من الأرض واحترام البيئة.

يجب على الجزائر أن تدعو إلى تطبيق ممارسات زراعية جديدة، وتشجيع المنتجين على التخلي التدريجي على زراعة المردودية والأنظمة الزراعية المتطلبة كميات كبيرة من السماد والمبيدات، لصالح ممارسات مستدامة ومقاوِمة لتغير المناخ.

من شأن تنويع الأنشطة وأنظمة الإنتاج الملائمة، وانتقاء أنواع البذور الفلاحية الأشد مقاومة للإجهاد المائي التي تلجأ اليها صغار وحدات الانتاج العائلية، أن تتيح تقليل الأخطار المرتبطة بالتغيرات المناخية.

لا يُخصَّص لحماية الميراث الطبيعي سوى قدر ضئيل جدا من الموارد المالية. لذا يجب ان تُرافق كلَّ تدابير التكيف إجراءاتُ تمويل (صناديق خضراء خاصة)، وسياسةُ أسعار مدعومة موجهة بأهداف، وإجراءات ضريبية (رسوم ايكولوجية) تزجُر الممارسات التكثيفية والاستخراجية، وتحفيزاتٌ اقتصادية واجتماعية من أجل توطين في المناطق القروية للأنشطة التي تؤمن للسكان القرويين إطار حياة لائق.

يتعين أخيرا ملاحظة استمرار أوجه تأخر كبيرة في مجال تحسين المعارف حول العواقب على الأرض والماء من أجل تحديد تدابير تَكَيُّفٍ ناجعة مطابقة لتغير المناخ، ومن وجه آخر، ثمة ضعف تعبئة الإدارات والمؤسسات المختصة فيما ما يتعلق بالتحسيس وتدعيم مقدرات الجماعات القروية لتأمين تدبير محلي مستدام للمحيط الطبيعي.

خلاصة: بعض التوصيات

إن سياسة زراعية تروم أمناً غذائيا مستداما وسيادةً غذائية ملزمة أن تؤمن حماية أشد صرامة للموارد الطبيعية، وأن تشجع إعادة انتاجها بدمج الاشتراطات الايكولوجية القابلة للقياس في نمط استغلالها. يجب أن تسهم السياسات العمومية في إرخاء ضغوط المنشآت الزراعية الكبرى على مورد الأرض أو الماء، وفي إعادة تأهيل المساحات الطبيعية والمتدهورةـ، ومواصلة المشروع الواسع لأعداد أحواض السفوح بُغية الحفاظ على المياه والأرض. ويجب أن تحدد خططُ التوجيه الزراعي القائمة على المؤهلات الطبيعية للمناطق والولايات تدابيرَ تكييف الزراعات وتشجيع الممارسات الزراعية القادرة على حفز مقاومة الأنظمة البيئية الزراعية. ومن شأن تنويع الأنشطة، واختيار أنظمة زراعة مكيفة، وانتقاء أنواع البذور الأشد مقاومة للإجهاد المائي، إتاحة تقليص المخاطر المرتبطة بتغير المناخ. وثمة أيضا، بحسب الأخصائيين، هوامش مناورة فيما يخص المساحات الزراعية المسقية، ويُقدَّر إمكان تحسين فعالية تدبير الموارد المائية بنسبة 35% [19].

الزراعة في الجزائر

يجب أن تُقْدِمَ استراتيجيات التكيف مع التغيرات المناخية على مزيد من أعمال تعبئة الماء (سدود، حقن تحت أرضي، إعادة تدوير المياه المستعملة، تحلية و نقل بين المناطق)، واقتصاد الماء (سقي تكميلي، تقليص التسربات، تعريفة أفضل، أنشطة تكوين و تحسيس)، ومحاربة الفيضانات و الجفاف ( مع وضع خرائط هشاشة، وإعداد الاحواض السفحية وإعادة تشجيرها في المناطق الجبلية، وتطوير أنظمة مراقبة وإعلام).

وإن لمسألة التغيرات المناخية بُعدا إقليميا، وما زال أمام البلد بعض أوجه التقدم التي يجب تحقيقها من أجل تنسيق أبحاثه مع البلدان المجاورة، وتشارُكِ المعارف وإضفاءِ التناغم على مؤشرات وأدوات تقييم الهشاشة والمخاطر المرتبطة بالتغيرات المناخية. لا تزال جهود التعاون الإقليمية مشتتة، ومن شأنها الاستفادة من تنسيق تحديد الأولويات الإقليمية المشتركة من أجل تعزيز مقاومة المناطق الهشة للتغيرات المناخية.

(ملاحظة: كُتب النص باللغة الفرنسية، ترجمة موقع سيادة)

عمر بيسعود – الجزائر

  • المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثالث لمجلة “سيادة” الكفاح من أجل العدالة المناخية والسيادة الغذائية.
  • الاطلاع على العدد كاملا وتحميله من الرابط.


هوامش

  1. Nedjraoui, D et Bédrani, S (2008). La désertification dans les steppes algériennes : causes, impacts et actions de lutte. Revue électronique Vertigo Volume 8 Numéro 1 | avril 2008
  2. FAO. Statistical World book. 2020 ، يُعرَّف الإجهاد المائي باستهلاك للماء في منطقة يفوق مخزون الماء الفعلي. يعني اجهاد مائي بنسبة 137,9 % فرط استغلال للماء المتوفر بأكثر من 37% .
  3. Banque mondiale. Rapport de suivi de la situation économique Rapport déjà cité. تبلغ المساحة الزراعية الاجمالية في الجزائر (الأراضي الصالحة للزراعة والمراعي والمروج) 43,9 مليون هكتار. وثمة فقط 8,5 مليون هكتار من المساحة الزراعة الصالحة.
  4. Rapport BM cité
  5. تبين حصيلة حرائق الغابات، التي وضعتها الإدارة العامة للغابات للعام 2020، مساحة محروقة تبلغ 15587 هكتار من الغابات، و13552 من الأحراش، و13119 من الأحراج. وتقدر الخسائر السنوية بما بين 15 و19 مليون، التي يجب أن يضاف اليها، بخصوص عام 2020، التعويض الممنوح للضحايا البالغ 6 مليون دولار [البنك العالمي 2021]
  6. الحرائق الهائلة المسجلة في صيف 2021 ناتجة أيضا عن الظروف الطبيعية المناخية الخاصة التي تعرض لها البلد هذا العام: حرارة شديدة بلغت ذرى لحظة الحرائق، 50 درجة مئوية، وهذه علامة تبرز جيدا طبيعة تغير المناخ الذي تشهده المنطقة. بصدد المخاطر الناتجة عن التغيرات المناخية الجارية انظر الكتاب الأبيض حول أثر التغيرات المناخية في الجزائر، 2021.
  7. وزارة اعداد التراب والبيئة. تشخيص 2012. الخطة الوطنية للمناخ (2018) المتعلق بالتوصيات.
  8. غازات الدفيئة مكونات غازية تمتص الأشعة تحت الحمراء الصادرة عن سطح الأرض وتسهم بذلك في الدفيئة. يمثل ارتفاع تركزها في الغلاف الجوي الأرضي أحد عوامل احترار المناخ.
  9. Rapport 2022 du GIEC : une nouvelle alerte face au réchauffement climatique. VIème rapport d’août 2021
  10. Plan Bleu (2020). Rapport sur l’Environnement et le Développement. 341p
  11. دراسات شبكة ROSELT في سهوب جنوب الجزائر. أبان وضع خريطة بواسطة الاستشعار عن بعد لدرجة القابلية للتصحر أن اكثر من 570 الف هكتار من الأراضي في مناطق السهوب متصحرة كليا بدون إمكان انتعاش بيولوجي، وأن زهاء 6 مليون هكتار مهددة جدا بمفاعيل التعرية الريحية.

Robert Arfi, Marcel Kuper, et al. (2002). Espaces, ressources, usages. Proposition méthodologique pour le suivi de la désertification dans le cadre du réseau Roselt-OSS in Maud Loireau et Jean-Marc d’Herbès. Gestion intégrée des ressources naturelles en zones inondables tropicales. IRD Marseille. p. 903-916

12- Nedjraoui, D. and Bédrani, S. (2008) déjà cité

Energies 2050. Institut de la Méditerranée. Femise (2018). Les défis du changement climatique en Méditerranée. Edition 2018. 188 p -13

14- تروم خطة العمل لتقليل انبعاثات غازات الدفيئة، ضمن الخطة الوطنية للمناخ، الوفاء بالالتزامات الدولية من أجل: 1-تحقيق السيناريو الارادي لبلوغ نسبة 7% من التقليص في أفق عام 2030 و 2-تحقيق السيناريو المشروط بنسبة 22% في افق عام 2030. وفي مجال التقليل يتعلق الهدف والتدخلات الأساسية بقطاع الغابات. وتهم التدخلات الرئيسية التشجير وإعادة التشجير واتقاء حرائق الغابات وتحسين وسائل المحاربة.

15- أحدثت الجزائر وكالة وطنية للتغيرات المناخية ومرصدا للتغيرات المناخية. وتقوم لجنة وطنية للمناخ بتنسيق أنشطة مختلف المؤسسات وقطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي. كما انضمت الجزائر الى اتفاق باريس الهادف إلى احتواء احترار المناخ تحت 2 درجة مئوية في افق العام 2100 قياسا بمستويات ما قبل الصناعة.

16- Bessaoud, O (coord.), 2020. Une agriculture saharienne sans les oasiens ? Editions Arak. 195 p

17- يُلاحظ أن هذا النموذج التقني التكثيفي قد أدى الى استغلال منجمي للأراضي ولفرشات تحت الأرض، وكذا سيرورات تلويث منتشر للأرض وللمياه.

18- من أجل تعريف للزراعة العائلية انظر دراسة: FAO, CIHEAM-IAMM and INRAA. 2021. L’agriculture familiale à petite échelle au proche orient et en Afrique du Nord : Focus sur l’Algérie. Small-Scale Family Farming in the Near East and North Africa: Focus on Algeria.

19- Tramblay, Y (2022). Rapport du GIEC : focus sur la Méditerranée. https://www.echosciences- sud.fr/communautes/exploreur-l-agenda/articles/rapport-du-giec-focus-sur-la-mediterranee

عمر بيسعودAuthor posts

باحث في الاقتصاد الزراعي - الجزائر