المقال التالي نُشر في مؤلف جماعي حمل عنوان: منطقة في خطر! العدالة بين الأبعاد البيئية والاقتصادية. ضمن مشروع منتدى البدائل العربي للدراسات ومنظمة غرينبيس، وعنوانه الكامل : “في العلاقة بين العدالة الاجتماعية والعدالة البيئية مدخل السيادة الغذائية، حالة تونس، قضية الأراضي الفلاحية”.
ونُعيد نشره تعميمًا للفائدة مع الإحالة إلى رابط الكتاب كاملاً أسفل المقال.
الإطار العام للسياسات الفلاحية في تونس
يُعتبر حق الفلاحين والفلاحات في النفاذ للأرض أحد ركائز السيادة الغذائية، فالأرض الفلاحية ليست فقط مساحة للاستغلال ووسيلة للإنتاج، إنها أيضا الهوية والبيئة والمورد الأساسي في الأرياف. وهي تكتسي بذلك أبعادًا ثقافية واجتماعية وسياسية عميقة لدى فئة الفلاحين من مزارعين ومربي ماشية والصيادين والمستغلين للغابات على حد السواء. ولئن تنوّعت أشكال النفاذ للأرض وأنماط استغلالها، فإن مفهوم السيادة الغذائية يفترض ضمان أحقية منتجي الغذاء في الولوج إليها باعتبار وظيفتهم الاجتماعية المركزية المتمثلة في تحقيق سيادة الشعب على الغذاء والحفاظ على الموارد و المنظومات الإيكولوجية.
تستند اليوم السياسات الزراعية التونسية كأغلب بلدان الجنوب التابعة إلى مفهوم الأمن الغذائي ودعم الإنتاج الموجه للتصدير والتجارة بالمواد ذات الميزات المقارنة وتهمش الفلاحة المعاشية معوضةً إياها بالاستيراد. تعود جذور هذا التوجه إلى السياسات الاستعمارية التي وضعت مناويل انتاج مستحدثة اتبعها بعد ذلك مجمل القطاع تفاعلا مع تشجيعات الدولة ومنها المنح والامتيازات وخطوط التمويل. وساهمت هذه السياسات بشكل كبير في استلاب الأراضي الفلاحية من المزارعين وضرب الأنشطة المعاشية وتحويل المخزون العقاري لصالح الفلاحة التجارية والقطاعات الأخرى
تنظر هذه الورقة في وضعية المخزون العقاري الفلاحي التونسي بين الظروف البيئية الصعبة وإشكاليات نفاذ الفلاحات والفلاحين للأرض وأشكال الاستغلال المستنزفة للتربة وضغط القطاعات الاقتصادية الأخرى في محاولة للوقوف عند أهم ملامح نظام استغلال الأرض في علاقته بالسيادة الغذائية والعدالة الاجتماعية والبيئية
الأرض الفلاحية بين الظروف البيئية والسياسات الزراعية
تُمثل الأراضي الفلاحية قُرابة ثلثي مساحة الجمهورية التونسية أي حوالي 10 مليون هكتار، منها 1.6 مليون هكتار من الغابات (الشمال)، و4.8 مليون هكتار من المراعي (الوسط والجنوب)، و5.2 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة (1). يتميز المناخ عمومًا بجفافه، حيث تتراوح معدلات الأمطار بين 600 مم/سنة شمالاً، و100 مم/سنة جنوبًا، مما جعل المنتجين والمنتجات يبدعون في تقنيات الفلاحة البعلية وشبه البعلية التي نجدها تُمارس بنسبة 71 بالمائة في المستغلات الفلاحية
فقد ولّدت الظروف البيئية الصعبة أنظمة إنتاج فلاحي تقليدية متأقلمة مع المناخ ومع الجغرافيا تتميز بالتنوع والتكامل، وشكّلت بدورها تركيبات مُجتمعية وعمرانية مختلفة على كامل المجال الريفي مثل الدواوير في جبال الشمال والشمال الشرقي، ومضارب القبائل البدوية وشبه البدوية بالوسط والجنوب وقرى الصيد البحري والفلاحة المستقرة على السواحل، كما أنتجت حركات تنقل موسمية تجوب مختلف أركان المجال (حركة الهطاية، حركة العشابة، التربيع…) يُشارك فيها الإنسان والحيوان حفاظًا على التوازن الطبيعي للمنظومات الإيكولوجية. وينبني النظام التقليدي لاستغلال الأرض على رؤية شاملة للمجال المناخي وعلى مبدأي النفاذ المشترك للأرض، وأحقية منتجي الغذاء في الولوج إليها، خاصة في المناطق الجافة
حكمت الظروف البيئية جُملة هذه الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية إلى حدود الاستعمار الفرنسي الذي استحوذ على الموارد ومنع التنقل وعمل على تفكيك التركيبات العمرانية وغيّر النظم العقارية لتسهيل استيلائه على الأرض. ولم تقطع دولة الاستقلال مع هذه الممارسات بل كرستها من خلال سياساتها المتمثلة في الاستحواذ والخوصصة والزبونية
التشتت والإهدار والفساد، عناوين فشل نظام استغلال الأراضي الفلاحية
يعود آخر تعداد للمستغلات الفلاحية في تونس إلى سنة 2005 حيث كان عددها 516 ألف، وتغطي مساحة إجمالية تقدر بـ 5.3 مليون هكتار. وتلفت نتائج هذا التعداد الانتباه إلى إشكالية تشتت الملكية وحجم التفاوت بين صغار وكبار المستغلين، حيث تمسح 54 بالمائة من المستغلات الفلاحية أقل من خمس هكتارات وهي لا تمثل سوى 11 بالمائة من المساحة الإجمالية، بينما تحتكر 3 بالمائة من مستغلات ثلث المساحة الإجمالية وهي تلك التي تمسح أكثر من خمسين هكتارًا.
يمكن اليوم تصنيف الأراضي الفلاحية حسب صبغتها العقارية إلى
أراضي الخواص: وهي تمثل تقريبا 6 مليون هكتار وتشمل مليون ونصف هكتار من الأراضي الإشتراكية التي تم إسنادها منذ الاستقلال إلى اليوم (تحويلها من الملكية المشتركة إلى ملكيات فردية). وأراضي الخواص هي المعنية أساسا بإشكالية تشتت الملكية التي تعرضنا لها سابقًا. حيث تدهور معدل المساحة الوطني من 16 هكتار في الستينات إلى 6 هكتارات في 2015 مما يحد من إمكانيات الإنتاج ويضاعف كلفته، خاصة مع جنوح المستغلين عن التنظّم في تعاضديات أو تعاونيات
الأراضي الإشتراكية: وهي ملك مشترك لمجموعات قبلية (عروش) وتمسح مليون هكتار ونصف أغلبها مراعي مهملة أو مستنزفة تتخللها مواقع استخراجية (نفط، غاز، فسفاط، مقاطع…) وتمتد أساسًا في ولايات الوسط والجنوب. تعاني هذه الأراضي وضعية عقارية شبه مجمدة تجعلها تقريبًا خارج الدورة الإنتاجية الرسمية وهي كذلك محل نزاعات مستمرة إما بين العروش، أو بين الأهالي والمستثمرين الوافدين أو بين الأهالي والدولة
الأراضي الدولية : تحقيقًا “للجلاء” الزراعي، تداينت تونس من الدولة الفرنسية واشترت العقارات الفلاحية التي يستغلها المستعمرون وأدرجتها مع أراضي الحبس والأوقاف ضمن ممتلكاتها ولم تُعدها لأصحابها من الفلاحين. ناهزت سنة 1964 المساحة الإجمالية للأراضي الفلاحية الدولية 828 ألف هكتار (2)، لم يبق منها اليوم سوى 493 ألف هكتار، بعد أن تم منح مئات المستغلات للمقربين من السلطة والمستثمرين في القطاع الفلاحي. وهي من أخصب الأراضي المُهيّأَة والمُدمَجة في البُنية التحتية، لكنها تعاني إشكاليات تصرف عميقة (فساد، إهمال، ديون، عدم تطبيق كراس الشروط…) تتناقض مع قدراتها الإنتاجية العالية، مما يجعلها محل حراك اجتماعي متواصل يطالب بإرجاع الأرض للفلاحين
اللامساواة الهيكلية في استغلال الأرض
تُمثل النساء قوة العمل الأساسية في القطاع الفلاحي التونسي، حيث أن 80 بالمائة من اليد العاملة في القطاع نسوية (3)، لكنهن في المقابل لا تستحوذن سوى على 4 بالمائة من المستغلات الفلاحية (قرابة 33 ألف مستغلة من جملة 516 ألف(4)). وتفضح هذه الأرقام عُمق اللامساواة التي تعانيها فئة الفلاحات من جراء نُظم الميراث وأعرافهُ لدى الخواص، فمن ناحية “للذكر مثل حظ الأنثيين”، ومن ناحية أخرى “الأرض للذكر”، فتجد المرأة الفلاحة نفسها في تبعية تامة وفي علاقة إقطاعية -بأتم معنى للكلمة- مع مالك الأرض. حيث أنها تعمل إما في مستغلة عائلية دون مقابل أو في مستغلات أخرى بأجر زهيد لا يكاد يغطي قوتها اليومي تحت سلطة وسيط يتكفل بتوفير النقل
أما بالنسبة للأراضي الدولية، فيُسند معظمها للذكور إما في إطار مقاسم للفلاحين الشبان وللفنيين أو عقود كراء للشركات. وتستغل الدولة مباشرة ما تبقى عن طريق ديوان الأراضي الدولية. وبعد أن تُستثنى المرأة الفلاحة في .كل هذه الآليات من الولوج إلى الأرض، يتم استغلالها كيد عاملة موسمية في ظروف هشة وغير لائقة دون تغطية اجتماعية وبمقابل يتراوح بين 3 و4 دولار في اليوم
الأراضي السقوية بين الندرة وزحف الفلاحة التجارية
لا تُمثل المساحات القابلة للرّي سوى نسبة 9,2 % من المساحة الإجمالية القابلة للحراثة -أي حوالي 450 ألف هكتار- ولكنها تساهم بنسبة قدرها 35 % من الإنتاج الفلاحي الوطني، ونسبة تتراوح بين 34 ــ 40 % من قيمة المنتوج الفلاحي الوطني وتؤمن نسبة تتراوح بين 20 و 40 % من الصادرات الغذائية. وترجع ندرة الأراضي السقوية لقلة الموارد المائية مما يجعل الاستثمار الخاص الباحث عن الربح يستهدفها بالاستحواذ والاستنزاف بدعم وإسناد من الدولة.
وتنتشر في المناطق السقوية مناويل الإنتاج الأحادي التي تركز على منتج واحد مُوجه للتصدير وتستعمل البذور المهجنة والأصناف المستوردة والأسمدة الكيميائية. تجعل هذه المناويل من الفلاحة السقوية قطاعًا ريعيًا بامتياز، يتغذى من التجارة بالمدخلات الفلاحية والاحتكار والوساطة ورخص اليد العاملة وسياسات دعم التصدير وفي تبعية تامة للأسواق الخارجية. كما تتميز هذه المناويل باستهلاكها المستنزف للموارد المائية وبتلويثها للتربة وبإنتاجها لمواد غذائية غير صحية.
عند التمعن في استعمالات مياه الري، يتضح التوجه العام لسياسة التصرف في الأراضي السقوية، حيث تخصص تقريبًا 100 ألف هكتار لإنتاج الخضراوات، تمثل الطماطم –البندورة- ربعها وتستأثر غراسات الأشجار بقرابة 150 ألف هكتار، نجد على رأسها الزياتين (64 ألف هكتار) تليها واحات النخيل من صنف “دقلة نور” (32 ألف هكتار) والقوارص (25 ألف هكتار). ولا تُخصص للزراعات الكبرى إلا نسبة 35 بالمائة من جملة الأراضي المروية مع تسجيل تراجع شديد في إنتاج الحبوب لصالح الأعلاف، وينسب هذا التحوّل إلى تشجيع الدولة لمنظومة الحليب التي تتحكم فيها ثلة من رجال الأعمال المقربين من دوائر السلطة والبنوك.
والملاحظ أن، رغم المساحة الهائلة لغابات الزياتين البعلية والمقدرة ب1.6 مليون هكتار، يزحف الزيتون على المناطق السقوية باستحواذه على 14 بالمائة من هذه الأراضي ويعود ذلك إلى تشجيع الدولة دخول أصنافًا أوروبية تعتمد الري الكلي.
الاستهتار بالبيئة والتغيّر المناخي
تتعرض الأراضي الفلاحية إلى ضغط مستمر من القطاعات الاقتصادية الأخرى كالسكن والسياحة والخدمات والصناعات الاستخراجية. فنجد من أهم أسباب تآكل المخزون العقاري الفلاحي؛ التمدد العمراني على الأراضي الفلاحية والمراعي والغابات، وتكاثر المقاطع العشوائية التي تدمر التضاريس الطبيعية، وتأثير مواقع الأنشطة الصناعية الملوثة والمُستنزفة، على النشاط الفلاحي (قفصة، قابس، تطاوين، دوز) وكلها ناتجة عن تشجيع القطاعات الريعية المربحة على حساب الفلاحة المعاشية.
بالإضافة إلى ذلك، تعاني الأراضي الفلاحية من ارتفاع أحجام الفضلات المنزلية التي يتم التخلص منها في مصبات عشوائية على تخوم المدن (تونس، سوسة، صفاقس…) وضعف البنية التحتية للصرف الصحي حيث يتم غالبًا سكب المياه الملوثة في الأودية أو في البحر دون معالجة. وكذلك من الاستعمال المكثف للمواد الكيميائية في الفلاحة والصناعة والتنظيف وغيرها. وتعتبر هذه الممارسات إجرامًا في حق البيئة والفلاحة ومنتجي الغذاء ومستهلكيه وهي محاور حراك اجتماعي حثيث في كامل البلاد.
من ناحية أخرى، تتعرض الأراضي إلى تداعيات التغيّر المناخي المُتمثلة في تملح التربة والطبقة المائية الارتوازية وتقدم البحر والانجراف والتصحر وغيرها من الظواهر المرتبطة بانحباس الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، ورغم كثرة المخاطر وحدتها، إلا أن مصالح الدولة لا تُعني الموضوع الأهمية اللازمة فسياساتها لمجابهة التغيّر المناخي تنحصر تقريبًا في محاولة التخفيف من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون محليًا عوضًا عن أن تتجه نحو دعم تأقلم البلاد مع المعطيات المناخية الجديدة.
الخاتمة
يتبين لنا من خلال هذا العرض السريع لوضع الأراضي الفلاحية في تونس جملة العوائق التي تؤثر سلبًا على كافة قطاع الفلاحة وعلى الأغلبية الساحقة من الفلاحين والفلاحات وكذلك على مجمل المجال الريفي. لكنها تمثل في نفس الوقت فرصة للمستثمرين الباحثين عن مراكمة الثروة الذين يستغلون ضعف صغار المنتجين والجمود القانوني في ما يخص الأراضي الإشتراكية وغياب الرقابة على استغلال الموارد وتلويث البيئة وعلاقاتهم بأجهزة الدولة للاستحواذ على أحسن الأراضي الفلاحية واستغلالها في مشاريع ربحية.
أما الفلاحة المعاشية التي تمارسها غالبًا فئة صغار ومتوسطي الفلاحين فهي تواجه، بالإضافة إلا الضغط على الموارد العقارية، إشكاليات هيكلية أخرى متعلقة بالمنوال التنموي في حد ذاته. فمنذ الاستقلال، انتهجت تونس سياسة الأجور الضعيفة التي تتطلب التحكم في أسعار المواد الأساسية، وأبقت عليها لدى المنتجين في مستويات متدنية جدًا بينما تعاظمت كلفة الإنتاج. أدت هذه السياسة إلى إفقار الفلاحين وإلى خلق حلقات مضاربة ولوبيات فساد تعيش من احتكار الأرض والموارد و المدخلات، وتوزيع وتوريد المواد الغذائية الأساسية كالحبوب والحليب واللحوم. هذا بالإضافة إلى سيطرة الوساطات على مسالك توزيع بقية المنتجات كالخضراوات والغلال بما يجعل فئة الفلاحين الحلقة الأضعف في القطاع. وذكر رئيس الاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري أن 12 ألف فلّاح تخلى عن نشاطه سنة 2018 تاركًا أرضه بورًا أو عارضًا إياها للبيع.
عديدة هي الأصوات التي تتعالى في تونس اليوم مطالبة بإصلاح زراعي شامل وبخارطة فلاحية تأخذ بعين الاعتبار البيئة والتغير المناخي وبحق الفلاحات والفلاحين في النفاذ للأرض. وتتجلى هذه الحركة الاجتماعية الصاعدة في تواتر الحركات الاحتجاجية والأنشطة المدنية المطالبة بإسناد الأراضي لمنتجي الغذاء و بإسقاط حق الاستغلال عن المستثمرين، وبتشديد الرقابة على الملوثين، وبدعم منظومات الإنتاج الأساسية والطبيعية والمتأقلمة مع المناخ. غير أن موازين القوى لازالت تميل لصالح مقولة الأمن الغذائي تحت تأثير إملاءات المؤسسات المالية العالمية والتقاء مصالح الشركات الأجنبية والأوليقارشية المحلية.
يمكنكم\ن تحميل الكتاب من الرابط الأصلي : هنا
1- Profil de Pays. Tunisie. FAO 2015. http://www.fao.org/3/ca0212fr/CA0212FR.pdf
2- كيف السبيل لإعادة هيكلة الاراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي, عبد الله بن سعد, الحوار المتمدن, 2 نوفمبر 2015
3- Tunisie. Travail agricole, la main d’oeuvre féminine reste dominante. shorturl.at/gzU38
4- Enquête sur les structures d’exploitation agricole, Ministère de l’agriculutre et des ressources hydraulique, 2015. shorturl.at/rzAGQ
ليلى الرياحي