تتحمل نساء المغرب تَبِعات سياسات التقشف النيوليبرالية التي فرضتها، ولا تزال، المؤسسات المالية الدولية، وهو ما يجعل وضعهنّ اليوم جد متردِ على مستوى الحصول على حقوقهنّ الاقتصادية والاجتماعية. تشكل نساء المغرب الغالبية من ضحايا البطالة والتسريحات، وبالتالي تتضاءل فرصهنّ في الحصول على عمل لائق حافظ لكرامتهن في ظل نظامٍ ذُكوريٍ رأسماليٍ قائمِ على الفوارق الاجتماعية والطبقية لصالح أقلية تستفيد وتستحوذ على الثروة المنتجة.
وفي ظل ظروف الفقر المدقع وانعدام شروط الحياة الكريمة الذي تعاني منه غالبية النساء، فإنهنّ يلجئنّ للعمل في قطاعات غير مهيكلة ومحفوفة بالمخاطر. ولعلّ جامعات المحار من بين نماذج هذه القطاعات “غير المهيكلة” الأكثر عرضة للمخاطر والحوادث. التقاط المحار هو نشاط تقليدي بحري ساحلي، أشتهر بأنه قطاع نسوي بامتياز، يمتد على طول ساحل البلد، خاصة مناطق الناظور؛ وراس الماء؛ ومولاي بوسلهام؛ والوليدية؛ والتامري بأكادير…، إلخ. ففي سواحل هذا الأخير، على سبيل المثال، نجد نساء من مختلف الأعمار: شابات ومتوسطات العمر وعجائز (متوسط العمر44.8)، ومن مختلف الحالات الاجتماعية: عازبات ومتزوجات وأرامل، دفعتهنّ ظروف العيش الصعبة للبحث عن عمل لإعالة أسرهن التي تبلغ متوسط عدد أفرادها 5:6، فما وجدنّ سوى عمل التقاط المحار في شواطئ المنطقة.
تخرج هؤلاء النسوة من منازلهنّ منذ الفجر لبداية عملهنّ، باحثات عن وسيلة نقل توصلهنّ الى الشاطئ الذي يَبعُد عن قُراهم بحوالي ثلاثة إلى أربع كيلومترات. بعضهنّ يمتطينّ دوابهنّ لحمل امتعتهنّ. وبعد وصولهنّ الى الشاطئ، يندفعنّ إلى جنبات البحر التي انجلت مياهه بفعل ظاهرة الجزر. تحاول كل واحدة منهنّ التقاط أكبر كميّة مُمكنة من المحار، مستعينة بأدوات تقليدية لنزع المحار عن الصخور، خاصة بلح البحر[1] المعروف في المنطقة باللغة الأمازيغية بـ”بوزروك”، أو “تيكري”، أو “ويل”، حيث انّه النوع الأكثر مبيعا. ويستحسن أن يكون متوسط الحجم، وتبقى الأنواع الأخرى، في غالب الأحيان، للاستهلاك الفردي.
بعد مرحلة الالتقاط، تبدأ مرحلة أخرى، حيث تتنقل النساء بين الصخور. ويكون تنقلهن هذا محفوفا بمخاطر الانزلاق، لاسيما عندما يكُن حاملات أكياس قد يتجاوز وزنها خمسة كيلوغرامات. تختار النساء مكانا ما قرب الشاطئ، وغالبا ما يكون فوق إحدى الصخور المحتفظة ببعض المياه النقية والدافئة، لتبدأنّ في تنظيف المحار من الرمل وإزالة كل الطحالب العالقة به. هذه المرحلة هي الأخرى صعبة، حيث تستمر إلى نهاية اليوم، وتستوجب الصبر، وتحمل آلام الظهر. وبعد ذلك، ينتهي الشوط الأول من العمل، قبل العودة إلى البيت محملات بأكياس ثقيلة الوزن، لا ينفع معها سوى وسائل النقل المكلفة ماديا. داخل المنازل، يستكمل الشوط الثاني من العمل. فهنا يجري طهي المحار في الماء بدرجة حرارة تتراوح ما بين 50 و60 درجة، لكي تتفتح الصدفات، وللحصول على المنتوج، وأخيرا تأتي مرحلة التجفيف التي تتطلب ساعات طوال.
أما الشوط الثالث، فيتعلق بالتسويق، حيث أماكن البيع التقليدية معروفة: السوق البلدي بالتامري أو على جنبات الطريق الرئيسية. تقول النساء إنّ الكمية المقتلعة من النوع المُسوّق بوزروك تبلغ ما بين كيلوغرامين إلى أربعة كيلوغرامات كأقصى تقدير. ويتراوح متوسط سعر بيعه ما بين 50 إلى 60 درهما. وتعتمد بعض هؤلاء النسوة على التقاط المحار كمورد رئيسي للدخل، لاسيما إن كن يتحملن مسؤولية إعالة أسرهنّ التي تختلف ظروفها حسب كل واحدة منهنّ، خاصة حينما يجدن أنفسهن مجبرات على العمل بفعل مرض الزوج أو وفاته، أما قسم آخر من النساء فيمارس هذا النشاط كمورد تكميلي لعمل الزوج.
يعد نشاط التقاط المحار عملا موسميا يمتد ما بين شهري فبراير ويوليوز، وبذلك تشتغل النساء نحو خمسة أيام إلى عشرة كل شهر. فحسب تعبير إحدى جامعات المحار: “يعملنّ خلال أواسط كل شهر قمري ثلاثة أو أربعة أيام قبل اكتمال البدر، وثلاثة أيام بعده”. ويمكن أن تتقلص هذه المدة وِفقا لحالة البحر، ولِحَركتي المد والجزر. ناهيك على أن منطقة التامري معروفة بالرياح التي تجبر النساء، في بعض الأحيان، على العودة للمنزل. وفي ظل مثل هذه الأحوال غير المواتية لمواصلة هذا النشاط، يُفرض على جامعات بلح البحر التوقف مؤقتا عن العمل، على أمل استئناف النشاط خلال أواسط الشهر المُوالي. عموما تظل مداخيل هذا العمل قليلة، ولا تكفي لسد حاجياتهن اليومية، في ظل غلاء الأسعار الذي تشهده المواد الغذائية الأساسية، ومختلف النفقات المتعلقة بدراسة الأطفال، وفاتورات الماء والكهرباء…إلخ.
وإذا توقفنا قليلا عند ظروف عملهنّ، نجدهنّ لا يتوفرنّ على العديد من المستلزمات الوقائية والضرورية، ونخص منها بالذكر: بدلات واقية تحميهنّ من أمواج البحر، وأحذية الوقاية من خطر الانزلاق وسترات الإنقاذ من الغرق، لا سيما وأنّ معظم النساء اللواتي يلتقطن المحار؛ إن لم نقل جميعهنّ؛ لا يستطعنّ السباحة، ومع ذلك نَجدهن يعملنّ بملابسهنّ العادية، مع أحذية بلاستيكية، أما على مستوى مُعِدات عملهن، فنسجل عدم توفرهنّ على تجهيزات آمنة لقلع المحار، حيث يعتبر الدلو والسكين والفأس والأكياس هي كل الادوات المستعملة، مِمّا يِعرضهنّ في كثير من الأحيان إلى جروح على مستوى اليدين. وجدير بالذكر أن مهنة التقاط المحار تترتب عنها العديد من المتاعب الصحية، مثل آلام الظهر، والقدمين، وضربات الشمس، وعواقب المياه الباردة بفعل ارتطامهنّ بالأمواج،. وبسبب وضعيتهن الاجتماعية المذكورة أعلاه، نجدهن مقصيات كليا من الاستفادة من الحماية الاجتماعية، فلا يتوفرنّ على أي تأمين صحي أو ضمان اجتماعي أو تقاعد يوفر لهنّ قوت العيش، بعدما تخونهنّ قدرتهنّ الصحية على مواصلة هذا النشاط. ( تجدر الإشارة أن شبكة سيادة نشرت فيلم بعنوان” تغارت” حول الموضوع تجدونه على الرابط التالي: اضغط هنا )
تعتبر جامعات المحار من صغار الصيادين-ات بقطاع الصيد البحري، غير أنهنّ الحلقة الأضعف اجتماعيا واقتصاديا من بين كل البحارة-ات والصيادين-ات. فعلى المستوى القانوني، يعتبر التقاط المحار مهنة غير مهيكلة، وهذا ما يفسر هجوم السلطات بجماعة التامري على هؤلاء النساء، حيث تقول إحدى الشهادات: “إنّهنّ يتعرضنّ لمضايقات من طرف السلطات المحلية، بسبب الأكواخ التي بنتها النساء في بعض المناطق من أجل حفظ أمتعتهنّ داخلها، وحمايتهن من الشمس والرياح القاسية”، وتضيف: “إنهنّ لا يملكن بديلا عنها، غير أن السلطات المحلية تُجبرهن على هدمها بمبرر استغلال الملك العام، وأن المنطقة سياحية، وأن هذه الأكواخ تحد من توافد السياح والزوار لها”.
إنّ هذه الظروف التي ذكرناها حول النساء جامعات المحار، بمنطقة التامري، مجرد مثال على ما تعاني منه عشرات الآلاف من النساء على طول ساحل البلد، ضمن سياسة موجهة يطبقها الحاكمون.
شهد قطاع الصيد البحري بالمغرب، منذ أكثر من عقد تطبيق سياسة نيوليبرالية غير مسبوقة، تستهدف الاستخراج المكثف والسريع للثروات البحرية.
وفي هذا الإطار جاء مخطط أليوتيس سنة 2009 ليُساهم في تركيز الثروات البحرية بين أيدي حفنة من المستثمرين المغاربة والأجانب المالكين لأساطيل أعالي البحار ولمعامل تحويل السمك. وسيكون لهذه السياسة عواقب على البحارة والصيادين، ولاسيما أولائك الذين يمثلون الحلقة الأضعف من نشاط الصيد البحري، أي حلقة “التقاط المحار”، أو بالأحرى، “جامعات المحار”.
تقوم استراتيجية أليوتيس على تصدير المنتجات البحرية والاستخراج المكثف للثروات السمكية. من هنا تظهر علاقة استنزاف الخيارات والثروات البحرية على هؤلاء النساء، ففي الوقت الذي يتم تقديم مجموعة من المساعدات لكبار مالكي البواخر، يتم التضييق على صغار الصيادين/ات، خاصة جامعات المحار، اللاتي تجبرنّ على وقف التقاط المحار بمبرر أنه يلعب دورا مهما في النظام البيئي، والحفاظ على التنوع البيولوجي، وبإعتباره يساهم بشكل كبير في محاربة ثلوث الماء، لأنه يعمل على تنقيتها من الملوثات وإزالة كميات كبيرة من العوالق النباتية والجسيمات العالقة بها إلى غير ذلك من الأدوار التي يلعبها المحار.
فأصبحت عملية التقاط المحار تخضع لمجموعة من الإجراءات المسطرية التنظيمية التي يسعى المسؤولون لتطبيقها؛ من قبيل إحصاء عدد الممارسين من نساء ورجال والحصول على تراخيص الجمع، مع تحديد الكمية ومراقبة عمليات النقل والبيع ومن المُفترض أن هذه العمليات يحددها الصيادون/ات وجامعات المحار الذين واللواتي توارث غالبيتهن/هم عبر أجيال مهنة التقاط المحار والصيد، وهم يمارسون هذا النشاط دون إلحاق أي ضرر بمخزون بلح البحر بسواحل التامري. فصيدهم لهذا الكائن البحري بعيد كليا عن أن يشكل صيدا جائرا أو كثيفا. وللبرهنة عن ذلك، يكفي الإشارة للحيز الزمني الضّيق المخصص لهذا النشاط. وهو ما يتبين من الطبيعة الموسمية لجمع المحصول وعدد الأيام القليلة كل شهر (لا تتجاوز في المتوسط 10 أيام في الشهر) خلال هذا الموسم. وبالإضافة لذلك، فإنهن لا يصلن أبدا، بتقنيات الجني الحالية، للمخزون الأكبر من بلح البحر الموجود في الأعماق. هذا دون نسيان استعمالهم لتقنيات تقليدية للجني، ليس لها دور في تلويث مياه الساحل، كتلك التي يستعملها الرأسماليون الكبار (بواخر صيد المحار بالجر) بتقنيات لها أضرار بليغة على الأنظمة البيئية والبحرية.
جامعات المحار نساء مكافحات، ومتحملات لقسط كبير من مسؤولية أسرهن. وهن يمارسن هذا النشاط في توافق تام مع الشروط الضرورية للحفاظ على بيئة الساحل البحري. وإضافة إلى عملهنّ الشاق في جمع المحار، يقمنّ بالعمل المنزلي الذي يعتبر عملا مجانيا لا يعوضنّ عليه. ولتخفيف العبء نسبيا يجب على الصعيد الاجتماعي، تسجيل النساء جامعات المحار في صندوق الضمان الاجتماعي، وضمان انخراطهنّ في التغطية الصحية الشاملة والمجانية، وتوفير تأمين على حوادث الشغل التي تهددهنّ على الدوام، ولا بد أيضا من تسهيل ولوجهنّ إلى المستشفيات العمومية. ومهنيا فالقطاع يحتاج إلى هيكلة حقيقية باعتباره إرث تاريخي وأحد مصادر غذاء المغاربة. هذا ما يفرض بنيات تحتية مناسبة، ومتطورة تساعد على صيد المحار في ظروف مريحة، وتمكين النساء من مُعدات تساعدهنّ على قطف المحار بانسيابية. كما أن هؤلاء النساء بحاجة لمعدات وملابس وقائية من كل المخاطر التي تعترضهن، وتوفير وسائل نقل مريحة لهنّ…إلخ.
تعد جامعات المحار من السكان المحليين اللواتي يساهمن في توفير غذاء المغاربة، رغم ظروفهنّ الصعبة، فهن يستحققن سياسة بديلة تراعي مصالحهنّ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعطي الأولوية لهنّ وليس للشركات العابرة للقارات. فهؤلاء النساء المقصيّات من كل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية هنّ الأحق بما يجري منحه لمن لا يستحق.
حفصة هجيري\ المغرب
[1] تتواجد بالسواحل المغربية، ولاسيما بساحل التامري بأكادير، نوعان من بلح البحر هما: la moule méditerranéenne و la moule africaine.