الانتقال الطاقي والاستعمار الجديد



ينبغي ألا يكون أيّ حديث عن الانتقال الأخضر أو الاستدامة واجِهَةً برَّاقة للمُخططات النيو ليبرالية للسلب والهيمنة.

شهدت سنة 2020 انهيارًا غير مسبوق في أسعار النفط ممّا تسبب في صدمة للعالم النفطي. كانت الانعكاسات موجِعةً لشركات النّفط، خاصة في قطاع النفط الصخري الأمريكي عالي التكلفة. بالنسبة للبلدان الإفريقية المُنتجة للنفط مثل أنغولا والجزائر وليبيا ونيجيريا فقد زاد الطين بلّة، إذْ أُضيفت المزيد من الضغوط على اقتصادات هذه الأخيرة مع تزايد العجز في الميزانية ونزيف احتياطيات العملة الصعبة لديها. مُقابل هذه الخلفيّة، تسرّع بعض المحللين في التخمين بأنّ الوباء سيقتل الصناعات النفطية وسيساعد على إنقاذ البيئة. إلّا أنّه ينبغي علينا الحذر إزاء هذا النوع من الادعاءات المُبتهِجة والتفكير التفاؤلي.

في أوقات الأزمات أو غيرها وإنْ كُنَّا جديّين حول الانتقال إلى مرحلة ما بعد النفط، من المُهِمّ أنْ ندْرُسَ عن كثب الروابط بين الوقود الأحفوري والاقتصاد عامة ومعالجة علاقات القوة والتسلسل الهرمي لنظام الطاقة الدولي. هذه العلاقات مُتجذّرة في الإرث الاستعماري والاستعماري الجديد (النيوكولونيالي)، فضلا عن ممارسات نزع الملكيّة وسلب الموارد والاستيلاء على الأراضي، خاصة في جنوب الكوكب.

في المُخيلة الجماعيّة حين نتحدث عن الطاقة فنحن نتحدث عن الفحم والنفط والغاز. تأتي غالبية هذه الموارد من بلدان الجنوب ونُطلق على أسلوب التحكم فيها (الموارد) ونهبها عبارة النمط الاستخراجي أو الاستخراجيّة . بدأ الاعتماد على الاستخراجية سنة 1492 بغزو الأمريكيتين وتمّ تنظيمها من خلال الاستعمار والعبودية والاستغلال وممارسة العنف الممنهج. وهي مستمرة اليوم في إنشاء “مناطق التضحية” مع “القرابين البشرية”، وكذلك في شكل مكائد الحروب الإمبريالية والحوكمة العسكرية للعالم.

تندرج اقتصادات الجنوب العالمي في وضع تبعيّةٍ ضمن قسمة عالمية غير عادلة للعمل: فهي توّفر من جهة موارد طبيعيّة وعمالة رخيصة، وتُمثِّلُ من جهة أخرى سوقًا للاقتصادات الصناعية. فُرضت وشُكّلت هذه الوضعية عبر الاستعمار وهزمت أدوات الامبريالية التطويعيّة الجديدة، إلى حدّ الآن، مُحاولات الانعتاق: ديون مُكبّلة و”التجارة الحرة” وبرامج التّكييف/التقويم الهيكلي إلخ.  حدث الكثير من هذا بدعم من النخب المحلية الطفيلية. لم تكتفِ أدوات الهيمنة هذه بحَبسِ بلدان الجنوب في منوال اقتصادي تابع إلى الخارج -مُسخّرٍ لتلبية طلبات البلدان الغنيّة- ولكنها تحُدُّ من المساحة السياسية لاتخاذ قرارات سيادية مثل الابتعاد عن الوقود الأحفوري. معاهدة ميثاق الطاقة على سبيل المثال، اتفاق استثماري خطير يسمح لشركات النفط بالاحتفاظ بالموارد والاستمرار في الإضرار بالكوكب.

 أمّا الزراعة التجارية والصناعية (Agribusiness)، فهي الموضع الذي تتقاطع فيه الهيمنة الامبريالية والتغيّر المناخي. إنّها إحدى مُسبّبات التغيّر المناخي، بل أكثر من هذا، هي التي تُبقي العديد من بلدان الجنوب حبيسة لنموذج زراعي غير مستدام ومدمّر. يقوم هذا النموذج على تصدير المحاصيل النقدية واستنزاف الأراضي والموارد المائية النادرة في المناطق القاحلة وشبه القاحلة مثلما يحصل في منطقة شمال أفريقيا.

رغم أن بضع الحكومات الغربيّة تُصوّر نفسها كصديقة للبيئة عبر منع التكسير الهيدروليكي داخل حدودها ووضع أهداف لتقليص انبعاثات الكربون، إلّا أنّها تُقدّم دعما جوهريًّا لشركاتها العابرة للقارات لاستغلال موارد النفط الصخري في مستعمراتها السابقة، وهو ما فعلته فرنسا مع توتال في الجزائر. إن إزاحة تكاليف مثل هذه الصناعة المدمرة من الشمال إلى الجنوب هي إحدى استراتيجيات رأس المال الإمبريالي التي ترتبط فيها العنصرية البيئية بالاستعمار الطاقي.

يمكن كذلك أن تكون التحولات إلى الطاقة المتجددة ذات طبيعة استخراجية. يُظهر مثالان من منطقة شمال إفريقيا كيف يتم إعادة إنتاج الاستعمار الطاقي في شكل الاستيلاء الأخضر. أُطْلِقت محطة ورزازات للطاقة الشمسية سنة 2016، وتمّت الإشادة بكونها أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم، لكن نظرةً معمّقة تكشف عن صورة قاتمة.

أوّلاً، تمّ التركيب على أراضي المجتمعات الزراعية الرعوية الأمازيغية دون موافقتهم ورضاهم. ثانيًا، يخضع هذا المشروع الضخم لسيطرة المصالح الخاصة ومُوِّل من خلال ديون بقيمة 9 مليارات دولار. ثالثًا، المشروع ليس “بالبيئي” كما يدّعي مُؤيدوه. إذْ يتطلّب استعمال كميّات كبيرة من الماء لتبريد وتنظيف الألواح الشمسيّة. في منطقة شبه قاحلة كمنطقة ورزازات، وسيكون هذا الاستعمال لغير الشُرب والفلاحة فتّاكًا للناسِ هُناك. نفس الشيء بالنسبة لمشروع تُنور للطاقة الشمسية في تونس الذي يحاول أن يُوّفر طاقة منخفضة التكلفة لأوروبا الغربية.

وبهذا الشكل، تُطْرح المخططات الاستعمارية المألوفة أمام أعيننا: تدفّق غير مُقيَّدٍ للموارد الطبيعية الرخيصة (بما في ذلك الطاقة الشمسية) من الجنوب إلى الشمال، بينما تُحصّن أوروبا الغربية نفسها لمنع البشر من الوصول إلى شواطئها.

ينبغي على انتقال أخضرٍ عادلٍ أنْ يُحوِّلَ وأن يمْحُوَ، أساسا، استعماريّة نظام الاقتصاد العالميّ غير المُلائم لا على المستوى الاجتماعي ولا البيئي ولا حتّى البيولوجي (كما بيّنته أزمة كورونا). كما يستلزم أيضًا إجراء إصلاح شامل لأنماط الإنتاج والاستهلاك المهدرة والمُتّطلبة لطاقة كثيفة، خاصة في شمال الكرة الأرضية.

نحن بحاجة إلى الابتعاد عن المنطق الإمبريالي والعرقي (وكذلك الجندري) لتحويل التكاليف للآخرين. إذا تُرِكَ هذا المنطق بدون مواجهة فسيُولِّد فقط استعمارًا أخضر واستمرارًا للاستخراجيّة والاستغلال (للطبيعة وللعمل) من أجل أجندة خضراء مفترضة. يحتاج الكفاح من أجل العدالة المناخية والانتقال العادل إلى الاعتراف بالمسؤوليات المتفاوتة ونقاط الضعف في الشمال والجنوب. يجب دفع التعويضات البيئية والمناخية إلى بلدان الجنوب الأكثر تضررًا من تغير المناخ والتي أجبرتها الرأسمالية العالمية على اتخاذ سياسات استخراجية مدمّرة.

في سياق عالمي من التنافس الإمبريالي على النفوذ وموارد الطاقة، ينبغي ألا يصبح أي حديث عن التحول الأخضر والاستدامة واجهة لامعة لمخططات الاستعمار الجديد للنهب والسيطرة.

حمزة حموشان

ترجمة مروة الشريف

الرابط الأصلي للمقال

حمزة حموشانAuthor posts

باحث ومناضل جزائري مقيم بلندن. يشتغل حاليا في المعهد العابر للقوميات (TNI).