مقدمة:
تعيش مصر حاليًا أزمةَ ديون سيادية عميقةً، تمتد تأثيراتها المختلفة إلى كل قطاعات الاقتصاد المصري، في الوقت الذي تسبَّبت فيه مدفوعات الديون المرتفعة خلال العامين الماضيين إلي شُح في العُملة الصعبة، (ما أدى إلى انخفاض متتالٍ وغير مسبوق لقيمة الجنيه المصري) ووقوع أزمة حادة في الواردات بسبب نقص الدولار، إلى أن ألقت تلك الأزمة مؤخرًا بظلالها على معدلات التضخُّم التي ارتفعت إلى نحو39.5٪، بحسب آخر بيانات البنك المركزي المصري في مارس 2023 [1]
تسببت أزمة الديون في شُح الدولار في السوق مع مستثمري الأموال الساخنة قُبيل انفجار الحرب الروسية الأوكرانية واستمرار البنك الفيدرالي الأمريكي في رفع الفوائد خلال عامي 2022 و2023 في تعريض مصر، وغيرها، من الأسواق الناشئة لكثير من الضغوط على ميزان المدفوعات.
تضمنت تلك الأزمة المتفاقمة من المديونية العامة، الخارجية منها بالأخص، التي تعيشها مصر على وقع اتفاقات متتالية مع صندوق النقد والبنك الدوليين لتنفيذ خُطط الإصلاح الاقتصادي، سنواتٍ من السياسات التقشُفية وتخفيض سعر الجنيه المصري أمام الدولار لأكثر من مرة.
فمنذ 2014 وحتى الآن فَقَد الجنيه المصري نحو 77٪ من قيمته أمام الدولار، وكانت تلك التخفيضات المستمرة تعني معدلات تضخم مرتفعة أثَّرت بشكل مباشر على سُبُل عيش الفقراء وعلى الاكتفاء الذاتي من الغذاء على المستوى الفردي والجمعي في مصر.
كما أثَّرت تلك الأزمة بشدة على معدلات نفاذ المواطنين، وبالأخص أفقر الشرائح، إلى الغذاء، وبالتالي فإنها تُثبِّت تلازم الدِيون والجوع، لذا تمثل العلاقة بين الدُيون والسيادة الغذائية علاقة مهمة إذا نظرنا إلى أزمة الاقتصاد المصري الحالية بشكل كُلي بعيدًا عن الخطابات التقنية التي تفرضها المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وكذلك الحكومة المصرية.
تحاول الخطابات الحكومية، وكذلك خطابات مؤسسات العولمة المالية التي يعيش العالم في ظلالها اليوم، رسمَ صورة تقنية لأزمة المديونية باعتبارها أزمة اقتصاد مرتبطة بصدمات خارجية تصيب الاقتصادات النامية في العالم كله، بسبب رفع الفيدرالي الفوائد في محاولة لمحاصرة التضخُّم في الولايات المتحدة، وكذلك الأمر مع البنوك المركزية الكُبرى في الغرب الرأسمالي. لكن تقف، خلف ذلك الخطاب التقني عن الأزمة، الكثير من السياسات الاقتصادية والزراعية التي جعلت الفقراء أكثر هشاشة في مواجهة الأزمة الاقتصادية.
تبدو العلاقة بين السياسات الاقتصادية والأنظمة الغذائية الوطنية في الدول النامية شديدة التعقيد، مع الوضع في الاعتبار أن تلك الأنماط الغذائية صُممت بناءً على خليط من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية و”رأسمالية المحاسيب”[2] في الحالة المصرية، ما عمَّق أزمات الاقتصاد بشكل عام، وأزمات الديون بشكل خاص.
وذلك لأن جزءًا هامًا من أزمات الديون ينتج عن التبعية الغذائية والتي تُعد جزءًا من التبعية الاقتصادية في الجنوب العالمي، فيما يزداد الاعتماد في السنوات الأخيرة في مصر على استيراد مكونات الغذاء المختلفة من الخارج، وبالتالي تتعمق التبعية الغذائية ويشتد الاعتماد على موارد العُملات الأجنبية الشحيحة.
تُعَدُ الأزمة الحالية في مصر خيرَ مثال على ذلك الارتباط بين الديون والجوع، فقد كانت التأثيرات المباشرة الأولى لأزمة شُح العُملة هي توقف استيراد الكثير من السلع الغذائية التي تعتمد عليها البلاد في سد احتياجات السكان، وعلى رأسها الأعلاف الحيوانية الضرورية لكثير من الصناعات الغذائية، مثل إنتاج اللحوم الحمراء والدواجن والبيض، وهي مصادر بروتين أساسية لدى أغلب المصريين. كما أثَّر ارتفاع أسعار السلع الزراعية عقب الحرب الروسية الأوكرانية على قدرة البلاد على توفير العُملة الصعبة اللازمة لاستيراد القمح الذي ارتفعت أسعاره بشكل كبير.
تسعى هذه الدراسة إلى فهم العلاقة بين الغذاء والديون السيادية، وكيف تتفاعل السياسات الاقتصادية، وفي القلب منها الاستدانة، لتنتج منظومات غذائية شديدة الهشاشة تعيد إنتاج الفقر والجوع في الحالة المصرية.
تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول يستعرض طبيعة الأزمة الحالية للديون السيادية في مصر، ويتناول الخطابات السياسية والاقتصادية التي ترى في الأزمة مجرد حدث عابر، وليست أزمة هيكلية، تنبع من تدخلات صندوق النقد والبنك الدوليين في شؤون البلاد.
الجزء الثاني يركز على العلاقة بين سياسات الغذاء والزراعة من ناحية، وأزمة الديون من ناحية أخرى، وكيف يؤثر كلاهما في الآخر من خلال تعميق التبعية الاقتصادية والغذائية.
الجزء الثالث يحاول رسم خطوط التماس بين السياسات الاقتصادية والسياسات الغذائية بمصر في ضوء الأزمة الحالية.
محمد رمضان\ مصر
- يمكنكم\ن الاطلاع على الدراسة من الرابط
[1] – النشرة الشهرية للتضخُّم، موقع البنك المركزي المصري، على الرابط : https://www.cbe.org.eg/ar/news-publications/publications
[2] – تُعرف رأسمالية المحاسيب Crony Capitalism بأنها النظام الاقتصادي الذي يعتمد فيه نجاح الأعمال التجارية على علاقات القوة والفساد بين رجال الأعمال والمسئولين التنفيذين في الحكومات، للمزيد حول الحالة المصرية يمكن مراجعة كتاب محمود عبد الفضيل الرائد، رأسمالية المحاسيب : دراسة في الاقتصاد الاجتماعي، القاهرة، دار العين، الطبعة الأولى، 2011.