لناس النهر لا للمستثمرين: نحو “إعلان مبادئ” يضمن حقوق الفلاحين في مياه النيل


في نهاية جولة أخرى من المفاوضات الخاصة بأزمة سد النهضة الاثيوبي بين مصر وإثيوبيا والسودان في واشنطن في نهاية يناير، أعلنت مصر والولايات المتحدة عن التوصل لاتفاق ينتظر التوقيع في صيغته الكاملة نهاية فبراير. كانت هذه الجولة من المفاوضات قد انطلقت بعد إعلان الرئيس المصري بالأمم المتحدة تعثر المفاوضات حول سد الألفية الإثيوبي، والذي أعقبه تدخل الولايات المتحدة بدعوة الدول الثلاث للتشاور بحضور مسؤولي البنك الدولي.

تركز الخلاف في المرحلة الأخيرة للمفاوضات على الجوانب الفنية المتعلقة بالمناسيب التي يبدأ عندها ملء السد، وكمية المياه التي تصر القاهرة أن تتعهد إثيوبيا بتمريرها سنويا. اقترح فريق التفاوض المصري على الجانب الإثيوبي أن يتم ضمان تصريف نحو 40 مليار متر مكعب سنوياً من المياه من النيل الأزرق، وأن يتم إيقاف عملية الملء إذا انخفض منسوب المياه عند بحيرة ناصر عن 165 مترًا، باعتبار أن انخفاض المياه عن هذا المنسوب سيؤدي لخروج أراضي زراعية مصرية من الخدمة. وقوبلت هذه المقترحات حتى كتابة بالرفض من الجانب الإثيوبي لحين صدور البيان الأخير الذي قال إن هناك اتفاقًا بخصوص جدول الملء وإجراءات الجفاف والسنوات الشحيحة أثناء الملء والتشغيل، دون إعطاء تفاصيل بخصوص ما تم التوصل إليه.

وخلال العامين الماضيين استخدمت كل من مصر وإثيوبيا خطابًا يرتكز أحيانًا على الحقوق التاريخية، وأحيانًا اخري على الحق في التنمية، لكن التلويح بالقوة ظهر في أحيان كثيرة، وأيضا تجييش القنوات الاعلامية لخلق رأي عام مناصر لخطاب السلطة دون التطرق للتفاصيل. تعتبر الدولتان التفاصيل شأنًا خاصًا بالنخبة الحاكمة والتكنوقراط. فمؤخرًا صدر تعميم مصري بمنع الباحثين من دراسة المسائل المتعلقة بسد النهضة، كما أن الجانب الاثيوبي طالب بابقاء التفاصيل سرية. ويبدو ان الطرفين يختلفان على كل شيء غير اعتبار المواطنين من البلدين غير معنيين بالتفاصيل.

مياه النيل لمن؟

رغم حدة الصراع والمفاوضات بين البلدين إلا أن مسألة توزيع المياه داخل الدول تغيب عن النقاش. فعادة ما يتم التعبير عن “مصر” او “إثيوبيا” ككتل متجانسة، وكأن المياه والحق في التنمية التي تصارع عليه تلك الدول سيتم توزيعهما على مواطنيها بالتساوي. النقاشات لا تتطرق إلى كيفية استخدام المياه داخل الدول: من سيستخدمها؟ من سيُحرم من المياه؟ وهل سيحصل المواطنون الذين يتم التفاوض باسمهم على المياه بشكل عادل او متساوٍ؟ أم ستتحول المياه إلى سلعة قابلة للبيع لمن يدفع أكثر؟

تعطينا المعلومات المتاحة حول عمليات الاستحواذ على الاراضي والمياه في الدول الثلاثة فكرة عن الفئة التي قد تجني مكاسب أكبر من المياه. وفقًا للبيانات المحدثّة لموقع مصفوفة الأراضي، والذي يرصد عقود بيع الاراضي للفاعلين الدوليين حول العالم.

ففي السودان، تتبعت قاعدة بيانات موقع مصفوفة الأرض، الذي يرصد عقود الاستحواذ على الاراضي عمليات استحواذ على حوالي 762 ألف هكتار في السودان منذ عام 1972، مع إبرام معظم الصفقات بعد عام 2000. تم تخصيص معظم هذه الأراضي من خلال 28 صفقة مع شركات عابرة القوميات من دول مثل قطر، والكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. تُستخدم هذه الاراضي لإنتاج المحاصيل الغذائية التصديرية، والبرسيم، والوقود الحيوي. كما تنتشر مزارع ضخمة للأعلاف بشكل كبير في السودان، مثل مزارع مجموعة “الراجحي” السعودية التي تنتج نحو 100 ألف طن من الأعلاف، وشركة “نادك” السعودية التي تدير مزرعة في كردفان غرب البلاد تصل مساحتها إلى 60 ألف فدان، بالاضافة الي شركة “أمطار” الإماراتية التي صدّرت عام 2017 نحو 200 ألف طن من الأعلاف إلى إمارة أبو ظبي.

وفي مصر يرصد موقع مصفوفة الأرض حوالي 14 عملية استحواذ على الأراضي، تشكل ما يصل إلى 185 ألف هكتار. تستحوذ شركتا “الظاهرة” الإماراتية و”الراجحي” السعودية علي مساحات كبيرة في مشروع توشكي بجنوب مصر.

أما المساحة الأكبر من الاستحواذات فهي في إثيوبيا، حيث يوثق موقع مصفوفة الاراضي حوالي 1.4 مليون هكتار من الأراضي المكتسبة في إثيوبيا في العقود الأخيرة. من خلال إبرام حوالي 120 صفقة. ويستحوذ المستثمرون الاجانب على حوالي ثلثي الأراضي التي تم الاستحواذ عليها. الشركات المستحوذة على الاراضي هي شركات هندية وسعودية وامريكية، وأيضًا شركات من إيطاليا وماليزيا والصين والنمسا وإسرائيل وتركيا وكندا وسنغافورة.

يبلغ حجم هذه الأراضي حوالي 2.3 مليون هكتار مقدمة الي الشركات الدولية لانتاج العلف والورد والفراولة وتصدير مليارات المكعبات من المياه الي خارج الدول الثلاثة. وتقوم السياسات القائمة فيها على نموذج تنمية زراعية يدعم الزراعة التصديرية ويعادي الزراعة الفلاحية. وفي حالات كثيرة، سجل باحثون إجراء عمليات اخلاء لسكان محليين ومزارعين من اراضي تم تخصيصها لمستثمرين اجانب أو محليين لإنتاج الورد للتصدير أو لإنتاج العلف.

ويعني الاستحواذ على الأراضي land Grabs انتزاع الحيازة من أناس وعائلات محلية، وإعطائها لنافذين دوليين. وتعد عمليات الاستحواذ علي الاراضي لا أخلاقية بسبب ما تحدثه من أزمات محلية ومن مفاقمة للفقر ونقص الأغذية للسكان المحلين، وكذلك من تهجير قصري وطرد للسكان المحليين من أراضيهم، التي هي مصدر غذائهم ومحور انشطتهم الاجتماعية والثقافية. وفي تحليله للعقود المبرمة بين الحكومة الاثيوبية والمستثمرين الخليجين توضح دراسة لبنجامين شيبرد في عام  2014 أن عقود صفقات الاستحواذ لا تضع في الاعتبار حقوق السكان المحليين. كما أنها تتم في غياب للشفافية، ولا توجد بها ضمانات لحقوق العمال. كذلك يتم تقديم امتيازات ضريبية هائلة واعفاءات من الضرائب في السنوات الاولي من المشروعات. ويوصف هذا الشكل من الاستحواذ بأنه يمثل أحد اشكال الاستعمار الجديد.

التساؤل هنا هو إذا ما كان جوهر الصراع ليس على المياه، ولكن على عائدات بيع المياه للمستثمرين؟ وبالتالي هل هو صراع بالوكالة نيابة عن شعوب هذه الدول، أم نيابةً عن الشركات الدولية التي تنهب الأراضي والمياه وتقوم بتصدير المياه؟

الفلاحون المستعبدون

يتجاوز عدد سكان الدول الثلاث معا 220 مليون نسمة، فيُقدر عدد سكان السودان بنحو 40 مليون نسمة، بينما يصل عدد سكان إثيوبيا إلى 82 مليونًا، ويقترب عدد سكان مصر من المائة مليون نسمة، بنسبة تركز كبيرة في الريف. فيعيش 84% من الإثيوبيين في مناطق ريفية، وتعمل أغلبيتهم الساحقة في الزراعة، تقل هذه النسبة إلى 66% في السودان، وتصل إلى 57% في مصر. وإذا أخذنا في الاعتبار أن 80% من مياه النيل تستخدم في الزراعة، وأن الزراعة الفلاحية لاتزال هي الشكل الأكثر شيوعًا في البلدان الثلاثة، فإن فلاحيها أصحاب مصلحة أساسية في مياه النيل، وبالتالي معنيون بشكل أساسي بالصراع والتفاوض والنقاش الدائر، الذي هم مستبعدون منه. 

لا تتطرق النقاشات إلى حقوق الفلاحين في الوصول إلى المياه، ولكن الشواهد تؤكد أنهم ليسوا فقط مستبعدين من النقاشات حول السد وتوزيع المياه، ولكن أيضًا من مفهوم التنمية الذي تتبناه البلدان الثلاثة. فالبلدان الثلاثة تدعم حتى الآن الاستثمارات الزراعية التصديرية، وتتجاهل حقوق الفلاحين المحليين، وفي حالات كثيرة يتضرر الفلاحون المحليون، ويضطرون إلى تغيير أنماط إنتاجهم أو تهجيرهم أو تقليص كميات المياه المخصصة لزراعاتهم من أجل تمكين المستثمرين من الأراضي والمياه.

طريق فلاح النيل: التشبيك والعمل المشترك

من مصلحة الفلاحين في البلدان الثلاثة أن يعملوا معا لإيقاف الاستحواذ على الاراضي والمياه، وتعطيل عمليات تصدير المياه. هذا النضال العابر للحدود يصف في مصالح الفلاحين فيها جميعًا، في مواجهة الصورة التي تصدّرها سلطات البلدان الثلاثة، خاصة مصر وإثيوبيا، وكأن مصالحهم متعارضة. إن الضغط من أجل وقف استنزاف النيل في عمليات نهب الارضي وتصدير المياه في صورة علف وبرتقال وفراولة وأزهار الي الخارج كفيل بأن يوفر للفلاحين بالبلدان الثلاثة المياه اللازمة لإنتاج الغذاء.

هذا مرتبط أيضًا بتبني مشروع مشترك للزراعة البيئية والاستغلال المستدام للموارد (النيل والأرض) من اجل تحقيق السيادة الغذائية لأبناء النيل معًا.

إن تحالف فلاحي النيل في مواجهة استنزاف مواردهم المائية والارضية وحده قادر على خلق خطاب بديل للخطاب السائد، والذي يهمش المواطنين ويستبعدهم، ويجعل ممثلي الدولة يفاوضون بالنيابة عن المستثمرين، وليس الفلاحين والسكان المحليين في البلدين. وكان هناك جدل كبير في كل من مصر وإثيوبيا حول جدوي عمليات الاستحواذ علي الأراضي من قبل الشركات الدولية والدول الأجنبية. وقد ظهر هذا في النقد الموجه لمشروع توشكي في مصر وللعديد من عمليات الاستحواذ بإثيوبيا.

في بداية ديسمبر 2019 عقدت حركة طريق الفلاحين العالمية (لافيا كمبسينا) بالوطن العربي وشمال أفريقيا، اجتماعًا بالسودان مع تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، واعتبرت الحركة أن تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل يمثل قوة نضالية فلاحية ساهمت في الدفاع عن حقوق المزارعين في السودان. وفي أعقاب الانتفاضة السودانية أعربت قوي محلية بشمال السودان عن احتجاجها على توغل إحدى أكبر شركات الاستحواذ الزراعي العاملة باراضيهم. لذلك أتصور ان القوى الفلاحية في السودان تستطيع أن تلعب دورًا مركزيًا في هذا الشأن، نظرًا لهامش الحركة التي تتمتع به في ظل الانتفاضة الشعبية والتغيير الحادث في نظام وطريقة الحكم بالسودان.

يمكن أن تكون البداية هي طرح مبادرة لوقف استنزاف الأراضي والمياه والزراعات التصديرية لمدة 3 سنوات بالبلدان الثلاثة عبر وثيقة شعبية مكتوبة بلغات شعوب النيل، يتم دعوة المنظمات الفلاحية للالتفاف حولها وتوقيعها. وعلى أساسها يتم جمع التوقيعات لوقف استخدام مياه النيل في عمليات الزراعة التصديرية وزراعة الأعلاف من أجل التصدير، أو تسليم الموارد لناهبي الأراضي من الدول والصناديق الاقليمية.

صقر النور

الرابط الأصلي للمقال

صقر النورAuthor posts

باحث وكاتب ريفي من مصر له عدة مؤلفات حول مسألة السيادة الغذائية.