حوار مع مخرجة فيلم “أنا مغتَصِبَة”



أجرت شبكة سيادة حوارًا مع المخرجة وفاء خرفية، حول فيلمها الوثائقي الجديد: “أنا مغتِصِبة”. يدافع الفيلم عن حق أساسي من حقوق صغار الفلاحين وهو الحق في الأرض، ويكشف أحلام ومعاناة النساء الفلاحات من خلال الشخصية الرئيسية للفيلم “خالتي منجية”، العاملة الفلاحية في منطقة غنوش بولاية قابس في تونس. وإلى نص الحوار:

الفيلم يقدم قصة منجية فلاحة بلا أرض صنفتها الدولة كمغتَصِبَة. تكشف لنا عالمها وجهودها في استصلاح سبخة لتحويلها إلى أرض خصبة والتحديات التي تواجهها.

ما شدني في شخصية منجية وشجعني على عرضها في فيلم هو اختلافها عن باقي النساء الفلاحات؛ فمنجية كانت عاملة فلاحية رفضت العنف المُسلط عليها من أرباب العمل والتبعية والاضطهاد وقررت أن تفتك “حقها في الأرض” الذي رفضت الدولة منحها إياه، والعمل مع مجموعة من صغار الفلاحين بلا أرض على استغلال أراضي فلاحية ملك الدولة وزراعتها. وقد كانت المرأة الوحيدة ضمن مجموعة الرجال، أقدموا على استغلال الأراضي دون ترخصين من الدولة.

منجية امرأة في العقد السادس من عمرها، شخصية محبة ومرحة متشبثة بالحياة. تحمل بين تشققات يديها إرادتها في حرية. وهي، بكل هذه الصفات، تمثل الكفاح اليومي والمثابرة في مواجهة تعسف الأنظمة. الفيلم يأخذنا إلى عالم منجية الذي يكشف عن معاناتها في العمل الفلاحي. منجية تعيش في منطقة تُصنّف فيها أرضها على أنها “سباخ غير صالحة للزراعة”، لكن بإرادتها القوية تمكنت من تحويلها إلى أرض خصبة تكسب منها قوت يومها. هذه الأرض لم تكن مجرد مصدر رزق بالنسبة لها، بل أصبحت جزءًا من هويتها، تشبثًا بالحياة ونضالًا ضد الظروف التي فرضتها الدولة عليها.

“الأرض لمن يفلحها” عبارة دائما ما ترددها مُنجية. وحسب رأيي وبالرجوع إلى الإحصائيات، فإن 80 بالمئة من اليد العاملة الفلاحية في تونس هي من النساء، لذا فالأرض يجب أن تكون لهن – هذا أولًا. وثانيا، أعتقد أن الأراضي يجب أن تكون في يد من يحسن التصرف فيها ويجيد إدارتها والتحكم في مواردها. وبالتالي ينبغي منحها لمنتجي الغذاء الحقيقين وهم صغار الفلاحين والفلاحات وبخاصة النساء، لأن الأرض توفر مورد رزق مستقل للنساء، وتحميهن من التبعية الاقتصادية ومن العنف المسلط عليهن كعاملات فلاحيات.

بالنسبة للمشاكل التي تواجه النساء في تونس فهي متعددة ومتنوعة ولكن إذا ما تحدثنا على مشاكل الفلاحات فيمكن حصرها في مشكلة النفاذ إلى الأراضي، وتوفر الموارد المالية، والتغيرات المناخية التي تؤثر بشكل مباشر على النساء عموما والفلاحات خصوصا، بالإضافة إلى غياب الحماية الاجتماعية، ومشاكل النقل.

في الحقيقة لم تعترضني مشاكل تتعلق بالشخصية الرئيسية للفيلم “منجية”، فقد عملنا معًا على تحضير الشخصية والفيلم لمدة 3 سنوات. وتعلقت المشاكل بمكان التصوير والظروف المناخية وفترة التصوير التي كانت خلال شهر رمضان مع حرارة الطقس والرياح التي أثرت على معدات التصوير. أما المعضلة الكبرى فكانت بخصوص التمويل، فمراحل إعداد الفيلم متنوعة وطويلة. وتتطلب مرحلة الإنتاج وما بعد الإنتاج مصاريف كثيرة ومتعددة. فمدة الفيلم – 16 دقيقة – استغرقت في الحقيقة أكثر من 20 ساعة تصوير، و12 يوم مونتاج. كل هذا يدل على أن السينما شاقة وتتطلب موارد مالية كبيرة، لكن للأسف انتجنا الفيلم بإمكانيات متواضعة، فكل ما كنت أفكر فيه هو أن القضية التي يعرضها الفيلم على درجة كبيرة من الأهمية ويجب أن تصل للمشاهد وهذا هو الهدف.

السينما هي لغة مكتملة المعالم فلها صورتها وموسيقاها وصوتها. وقد اخترت الإنصات لمعاناة ومخاوف منجية من خلال الكاميرا. فكانت المراوحة بين المشاهد العامة للمكان والانتقال بالكاميرا إلى الأقرب والأكثر خصوصية لتلتقط تفاصيل عمل منجية وابنتها وحركتهن الدائمة لبعث الحياة في المكان الذي صنفته الدولة على أنه غير صالح للزراعة. فهن يعاندن الملح والطبيعة القاسية حتى يصنعن حياة. كانت الكاميرا أحيانًا ملاصقة لملامح وجوههن، وأحيانا أخرى تأخذ مسافة منهن لتركز على حركة أجسادهن الملتحمة بالأرض حتى تكاد تراهم منبعثات منها.

أما عن الموسيقى، فقد اعتمدت على أصوات الطبيعة كمؤثرات صوتية مثل صوت الرياح وهدوء الطبيعة وصوت أدوات العمل. كلها مؤثرات اعتمدتها لتصبح موسيقى للفيلم ومن خلالها يتماهى المشاهد مع الصورة والصوت فيأسره الفيلم ويلتحم بمعاناة منجية ومن ثم بالعاملات الفلاحيات في كل العالم.

 فالسينما بالنسبة لي لغة قادرة على حمل رسائلنا بكل سلاسة. والفيلم لا يحتاج إلى تأشيرة ليتجاوز الحدود ويسافر. ويصبح الفن فنًا حقيقيًا، حين يعكس، بمختلف آلياته من صوت وصورة وشخصيات وأحداث، الواقع، متزامن بطبعه مع الجمال، فقط تخليده إن صح التعبير هو النبوغ من خلال دفع امتداده اللامتناهي في التألق بأحداث وألوان وزوايا الواقع.

 ويبقى بنظري القفز عن قضايا الإنسان عزلا للفن وبخاصة السينما. وقد اخترت أن يكون الفيلم وثائقيا اجتماعيا لإيماني بقدرة السينما على التغيير وبخاصة الوثائقية منها لأنها تنقل صدق الإنسان، وتلازم حكايته ووجعه معًا. ولأن السينما منذ ولادتها كانت وثائقية وصادقة في عكسها لصور الواقع صامتة مثابرة، وهي ابنة الضوء والتقنية ولعلني لم أتجاوز اللحظة الأولى باختياري لمدرسة بذاتها في بحر السينما الوثائقية. يستدعيني الواقع وتستدعيني الحكايات وتأسرني لحظات بعينها فتبقى في نظري أشد اللقطات جمالا هي اللقطات المعتقة بالمقاومة وبالصمود والكفاح.

في النهاية، تظل السينما أداة قوية تحمل في طياتها قدرة هائلة على التأثير في المجتمعات، وتغيير التصورات والقيم حول القضايا الاجتماعية الكبرى. نضال النساء من أجل امتلاك الأرض ليس فقط قضية قانونية، بل هو قضية إنسانية تتعلق بالعدالة والمساواة. من خلال تسليط الضوء على هذه القضية في الأفلام، يمكن للسينما أن تلعب دورًا مهمًا في إبراز معاناة النساء الفلاحات، وتشجيع التغيير المجتمعي والقانوني، وتمكين النساء في مجتمعاتهن.

من خلال القصص التي تُعرض، نجد أبطالًا غير تقليديين؛ أبطالا حقيقيين مثل النساء الفلاحات، اللاتي يقاومن الظروف والتقاليد الجائرة. هذه القصص قد تكون مصدر إلهام لنا جميعًا لمواصلة العمل من أجل عالم أكثر عدلاً.