واحات جمنة بتونس: فرادة نضال صغار الفلاحين



فرادة نضالية تلك التي حققها فلاحو واحات جمنة بتونس، في جانفي 2011،  حين استرجعوا أرض أجدادهم بعد عقود من وقوعها تحت يد مستثمرين رأسماليين. كان إقدام الفلاحين وثقتهم الجماعية في جمنة مقارعة حقيقية للنظام الرأسمالي، الذي خلف لأجيال من صغار منتجي الغذاء العوز والاستغلال والعيش على الهامش.

تجربة جمنة بتونس مثال للاقتداء به في منطقتنا من أجل سيادة على الموارد.

هدفنا في هذا الملف أن نفهم التجربة من منظور السيادة الغذائية، لهذا طرحنا الاسئلة التالية على رئيس جمعية واحات جمنة المناضل ” الطاهر الطاهري”، وكان النص التالي ثمرة حوارنا معه: 

كيف انطلقت تجربة جمنة؟

نحن في جمنة لدينا شبه كبير بالفلسطينيين، هم يتوارثون مفتاح المنزل ونحن نتوارث رزمة من الوثائق التي تثبت ملكيتنا لأرض افتكها المستعمر في بدايات القرن العشرين وسجن حينها معارضيه من أجدادنا.

كان ذلك يوم 12 جانفي 2011 ، يومان قبل فرار المخلوع، لما استرد شباب جمنة ما كانوا يعتبرونه عن حق أرض الأجداد. تشكلت في القرية لجنة حماية الثورة،  لجنة من خصوصياتها أنها لا رئيس فيها ولا مرؤوس حيث الجميع على نفس درجة المسؤولية، ودون توزيع المهام والخطط المعروفة. وكان للجنة شرف تسيير الضيعة حتى صدرت تأشيرة جمعية حماية واحات جمنة في الرائد الرسمي بتاريخ 20 مارس 2012 . جمعية كانت امتدادا للجنة حماية الثورة التي راهنت منذ البدء على العمل التطوعي، وجمعت الأموال، من هبات وعطايا وسلف،  لمواجهة الموسم الفلاحي.  ذلك أن عملية التلقيح والتدلية والتغليف وفلح الارض وري النخيل ومداواة الاعشاب الطفيلية  تتطلب أموالا طائلة، وكنا مجبرين على النجاح. وقد نجحنا في  ذلك حيث أن بيع المحصول وفر لنا مبلغا جد محترم قارب المليون دينار.

تشرف جمعيّة “حماية واحات جمنة “على تسيير الأراضي الفلاحية التي حصلتم عليها في 12 جانفي 2011 من ” هنشير ستيل”. هل يمكن توضيح كيف يجري هذا الأمر؟  ( وضع العمال و اللوجستيك و التسويق و الصيانة و العلاقة مع الدولة. و استصلاح الارض..الخ)

كما سبقت الإشارة، التسيير جماعي ويندرج عملنا ضمن الاقتصاد الاجتماعي التضامني.

وضع العمال

اشتغل بالضيعة خلال السنة الماضية 162 عاملا يتقاضون أجرا يفوق الاجر الفلاحي المضمون، ذلك أننا لم نجد حلا مع الصناديق الاجتماعية لتسوية ملف التغطية الاجتماعية لذلك يصرف للعامل مبلغ اضافي حتى يتمكن من تنزيله في الصندوق.

اللوجستيك 

لما استرجعنا الضيعة، لم نكن نملك وسائل العمل، اليوم لدى الجمعية كل الآلات المطلوبة من أبسطها إلى أرقاها كالجرار والمضخة ووسائل المداواة.

التسويق

نحن نبيع تمورنا على رؤوس نخيلها للتجار الذين يتنافسون على شرائها، وهم من يصدر التمور إلى السوق العالمي وربما يبيع بعض الاصناف المصنعة في السوق الداخلية

الصيانة

انجزنا وننجز كل الاشغال المناطة بعهدتنا من أجل الرقي بالضيعة، من ذلك حفر بئرين. كما قمنا بصيانة بقية الآبار، و استصلحنا بناية للإدارة داخل الضيعة، وقمنا بمداواة الاعشاب الطفيلية وحفرنا النشعيات وفلحنا الارض مع العمل اليومي من ري وتنظيف…

استصلاح الارض

استصلحنا بعض الهكتارات وغرسنا حوالي 2600 فسيلة جديدة دخلت بعد طور الانتاج

العلاقة مع الدولة

منذ انطلاق عملنا بالضيعة، تركتنا السلطة ممثلة في وزراء الفلاحة واملاك الدولة على مر الحكومات المتعاقبة نشتغل. ولم تتدخل ضد الجمعية وتجربتها الا عندما استوزر سيء الذكر مبرك كورشيد الذي حارب التجربة، فمنعنا من بيع الصابة واستصدر بطاقتي الزام ضد الجمعية والتأجر ثم جمد حساباتنا البنكية، ولكن ذهب كورشيد وبقيت جمنة دليلا على نجاح الثورة التونسية.

أشير أننا كنا على وشك امضاء اتفاق مع وزير املاك الدولة السيد غازي الشواشي، لكن  الحكومة سقطت لحسابات سياسوية قبل إمضاء ما اتفقنا عليه، ونحن نؤمن باستمرارية الدولة لذلك نراهن على الانطلاق مجددا من حيث وصلنا مع السيد الوزير سالف الذكر سواء مع الوزيرة الحالية أو الوزير المقترح في آخر تحوير حكومي

ماهي الصعوبات التي تعترض التجربة بعد 10 سنوات من عمرها ؟

حاولنا تذليل الصعوبات، ولكن يبقى الإشكال القانوني المعيق الأساسي. ذلك أنه لو أنهينا مسألة القانونية لمررنا لتطوير العمل، من ذلك كنا سنعود إلى الفلاحة ذات الطوابق الثلاث عوض الاهتمام بالنخل فقط.  كما أنه يمكن لنا الانتقال بتمورنا إلى التمور البيولوجية وتطوير الضيعة بالاهتمام بتربية الماشية بقطيع اغنام أو ماشية. كما أنه يمكن لنا ارساء معمل تمور ومعمل ناموسية او بلاستيك وهو ما سيمكننا من التصدير رأسا لا عبر وسطاء يغتون على حسابنا. كل هذا يعني فيما يعني مزيد تشغيل يد عاملة والحد من البطالة.  

إلى أي مدى يمكن اعتبار تجربة واحات جمنة تجربة تنموية و قابلة للتأثير ايجابيا على المنوال الاقتصادي و التنموي اذا تم اتباعها في كامل تونس و شمال افريقيا عموما  ؟     

نحن في جمنة لنا 185 هكتارا،  وفرنا بها تقريبا 12 مليون دينارا، و شغلنا المئات لنقل بمعدل مائة عامل سنويا خلال عشرية الثورة . للدولة اراضي “دولية” تقارب 500 الف هكتار لو وقع استغلالها استغلالا امثل ووقع توزيع مثلا 5000 هكتار لكل ولاية الن نقضي على البطالة؟ ألن يعود للقطاع الفلاحي ألقه ووهجه وبهاءه؟ الن نقضي على تبعيتنا الغذائية؟ ألن نتمسك اكثر بالأرض وبالجذور عوض الهجرة غير المنظمة؟

ما مدى رضا جمعية “حماية واحات جمنة “على قانون  عدد 30 لسنة 2020 المتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني و هل يعتبر خطوة ايجابية في درب تعميم التجربة؟

يحيلني سؤالكم الى مقارنة  بين المقترح الذي قدمه إتحاد الشغل و النسخة التي أعادتها الحكومة بعد إدخال ما تراه صالحا من تعديلات لنتبين كم نحن في حاجة لمبادرة تشريعية للتأسيس القانوني لنمط اقتصاد اجتماعي و تضامني مبادرة اقترحها خبراء الاتحاد و هي ذات محاور أربعة :

الإطار القانوني: قانون إطاري قانون أساسي

التكوين: ثقافة روح تدريب

التمويل: بنك يعتني بهذا النمط

التشبيك: تأطير تنظيم كل ما له علاقة بهذا الاقتصاد من وحدات تعاونيات تعاضديات.

عقد الاتحاد العام التونسي للشغل لهذا الغرض ندوة حول الموضوع، و ذلك في  30 سبتمبر 2015 . ودعا للحضور و تأثيث الندوة خبراء من ضمنهم وسيلة العياري،  نقابية تعاضدية القمح، و نوال جباس المسؤولة عن الملف في وزارة الفلاحة، و لطفي بن عيسى، الخبير المالي عن الجبهة.  كما حضر عديد النواب و المسؤولين الحزبيين. قدم الخبراء في نوفمبر 2016 مشروع قانون يحتوي 53 فصلا.  مشروع عرض على هيئات ادارية ثلاث لتصادق عليه. بعد ذلك سلم المشروع للحكومة عندها كانت العلاقة بين الاتحاد النقابي و السلطة ممتازة.  و كان موقف الخبراء داع إلى أن يحظى المشروع بمصادقة و امضاء عشرة نواب ليُعتمد، ويمر إلى المجلس. و لكن كان للمكتب التنفيذي رأي آخر بحكم العلاقة وقتها،  لذلك أحيل المشروع إلى الحكومة التي ستفرغه للأسف من محتواه.  إذ حذفت منه 30 فصلا و ضربته في العمق باعتبار أن القانون المقترح قانون إطاري أساسي أصبح بعد تدخل الحكومة قانونا عاديا، و بالتالي لم يعد مرجعيا.  و هذا ما يتعارض مع المخطط الخماسي 2016-2020 الذي يعترف بالدور التنموي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني.  كما أن وزارة التنمية انجزت دراسة استراتيجية عن هذا الاقتصاد بتنظيم ندوة حضرها رئيس الحكومة، معترفين هكذا بهذا القطاع رافدا تنمويا مهما. و لكن ما نعاني اليوم من تجاذبات سياسية يجعل هذا الاقتصاد يتموقع حسب تموقع رجل السياسة ، أو يريدون له ان يتموقع.  ففيهم من يعتبره ثانويا لتضميد الجراح فقط ، و فيهم من يراه عكس ذلك باعتباره اقتصادا ذا آفاق اخرى و ركيزة لمنوال تنمية جديد. و رهاننا اليوم هو الموقع المستقبلي لهذه المنظومة، فلنتصدى لأولئك الذين يريدون للاقتصاد الاجتماعي و التضامني ولادة مبتورة مشوهة حتى يسهل تقزيمه امام الانماط الاخرى.

إن الاقتصاد الاجتماعي و التضامني سبيل للتنمية لا بد له من تعريف موحد و أن يدافع الجميع على نفس المضامين فهو اقتصاد ينبني على المبادئ التالية:

أولوية الانسان على رأس المال، باعتبار أن رأس المال ليس غاية بل وسيلة. و بالتالي فإن البعد الاجتماعي هو الاساسي. اقتصاد يخدم المجتمع، و لا يسعى لخدمة الربح. اقتصاد يعتمد الحوكمة سلطة قرار مرتبطة بقوة الحجة و ليس بقوة المال، و لكن دون تفريط في المردودية لأننا نسعى من خلال هذا القطاع إلى توازن بين الربح و البعد الاجتماعي.

يمكن أن نستعمل الارباح حسب التوزيع التالي:

15 في المائة احتياط وجوبي على الاقل حتى الوصول إلى 50 في المائة من رأس المال وفي هذا ضمانة وقت الازمات.

تحديد سقف معين لتوزيع الارباح، مثلا 35 في المائة مع امكانية الغائه لفترة معينة. و ذلك سعيا لتكبير المشروع و تطويره لضمان الديمومة  و ترسيخ الوجود و توسعة المشروع . وهكذا نحدد اهدافا تنموية واضحة مع بعض المرونة مع النسيج التجاري.

نلاحظ حتى الان تشتتا تنظيميا، في شكل تعاونيات وتعاضديات وجمعيات…لذلك وجب تنظيم القطاع بإيجاد هيئة وطنية مع تفرعات محلية، مثل هرم النقابات. لذلك يقترح المشروع مجلسا أعلى استشاريا يضم جميع المكونات من حكومة و منظمات اجتماعية و مكونات الاقتصاد الاجتماعي التضامني.

التمويل: دون ذراع مالي سنحكم على هذا الاقتصاد بالفناء. لذلك وجب تأسيس بنك يعنى بالاقتصاد الاجتماعي التضامني، يحدد المشروع قيمته و مردوديته و تمويله على أن ينخرط الجميع في المشروع.

هذا و تقع مراجعة كل النصوص التي تنظم هذا الاقتصاد بعد قبول المبادرة أو المشروع القانوني.

أما اليوم، بعد عودة المشروع من السلطة، نلاحظ كما ذكرت آنفا حذف 30 فصلا. فقد ألغي باب الهيكلة تماما، و لم يبق منه الا الفصل 7 . و الهدف من ذلك الابقاء على مكونات الاقتصاد الاجتماعي التضامني مشتتة ومتشرذمة  حتى يقع استبلاهها من قبل السلطة.

كما ألغي البنك التعاوني التضامني، و بقيت الاجراءات الاستثنائية تمكن من فتح خطوط تمويل للاقتصاد التضامني. كما تبينت رغبة في عرقلة صندوق الودائع و الأمانات، و حذف التحفيز الجبائي الذي اعادوه بعد صراع كبير. نلاحظ هكذا حذف ركيزتين أساسيتين، و بالتالي أصبح الامر مدعاة للسخرية و حكاية فارغة. نحن نتمسك بكون مشروع القانون قانونا اساسيا إطاريا، كما نطالب بتوضيح مسألة الهيكلة لأهميتها، و بتأسيس البنك.  و ليكن التحكيم العادل فيصلا. تحكيم يقر بالدور التنموي لهذا الاقتصاد الذي سيتموقع في منوال تنمية  بديل لما هو قائم الان.

اقتصاد سوق يتقاطع مع المنافسين القطاع الخاص و القطاع العام.

يتقاطع مع القيم الحداثية و مع الحركات الاجتماعية و الجمعيات الوطنية.

يتقاطع مع السياسات العمومية – الفصل 109 من مجلة الجماعات المحلية- لدعم هذا الاقتصاد الاجتماعي التضامني. نريد أن تكون الدولة قاطرة التنمية،  و أن لا توكل هذه المهمة إلى القطاع الخاص الذي لا يبحث إلا على الربح حتى غير المشروع منه. نريد تطهير المؤسسات العمومية  لا لغاية التفويت فيها بل لإعادتها الى سالف نشاطها.

في نظرك، لماذا لا نرى تجارب مشابهة لتجربتكم يقودوها صغار الفلاحين في مناطق أخرى من تونس ؟ 

لكل جهة خصوصيتها، ولكن دعني أطرح السؤال بشكل آخر:  لماذا فشلت التجارب المماثلة؟ على بعد حوالي 15 كيلومتر جنوب جمنة، عشنا نفس التجربة. ولكن  بفعل انعدام الشفافية ولشبهة فساد-اذ هناك من سجن- وعدم تدخل المجموعة المشرفة على الضيعة هناك لتحسين البنية التحتية ولمساعدة المستحقين سقطت التجربة، بل ويا لسخرية القدر أعيد المستثمر السابق للثورة إلى الارض التي كان يتسوغها معززا مكرما. هناك أيضا من أعلن عن جمنة 2 في هنشير الشعال بصفاقس، لكن جرى وأد تجربتهم في المهد. كما أن بعض الفلاحين بنصرالله من ولاية القيروان حاولوا ويحاولون السير على خطى جمنة، ولكن قمع السلطة لهم كان مباشرا وسريعا، اذ أحيل الشباب إلى المحاكمة. يبدو من مثل هذه التجارب وغيرها أن هدف السلطة ابقاء جمنة التي فرضت نفسها حالة شاذة ووحيدة.

كلمة أخيرة

أشكر كل داعمي تجربة جمنة، اذ لولا وقوف الوطنيين والخيرين من أبناء القطر في جهات أخرى لما وصلنا الى النتائج المرجوة. كما لا تفوتني الاشارة إلى وفود الصحفيين والدارسين وعموم المهتمين الذين حبروا النصوص، بل ألفوا الكتب وصنعوا الاشرطة حول تجربة اعتبرها القاصي والداني نقطة ضوء لعلها المميزة للثورة التونسية المجيدة.


صورة الواجهة من الأنترنت

من ملف : نضالات صغار منتجي- ات الغذاء الوجه الخفي لانتفاضات شعوب شمال أفريقيا 2011