يتناول هذا المقال دراسة بعنوان “من أجل نظام فلاحي وغذائي صامد ومستدام وشامل” قامت به الجمعية التونسية للزراعة المستدامة (ATP) باقتراح وتمويل من التحالف الأفريقي من أجل السيادة الغذائية (AFSA).
تم القيام بهذه الدراسة في الفترة بين جوان 2020 وجويلية 2021 وتتضمن بحثا نظريا حول السياسات الفلاحية والغذائية في تونس وأيضا استشارة ميدانية مع صغار الفلّاحة الغاضبين/ات خلال الثلاثي الأول من سنة 2021.
السياق العام
شهدت الثلاثية الأولى من سنة 2021 عددا كبيرا من الاحتجاجات في مختلف الجهات التونسية. ولئن طغى الاهتمام بالتحركات الحضرية في أحزمة المدن فإن الأرياف التونسية كانت مشتعلة أيضا. سُجل 170 تحركا احتجاجيا خلال هذه الفترة قام به الفلّاحة في جهات البلاد بحساب تحركيْن اثنين يوميا.
تُعتَبر الأزمة التي خلفتها جائحة الكوفيد-19 سببا مباشرا لهذه الاحتجاجات ولكن الأسباب العميقة تعود إلى أرقام مفزعة حيث أن 75% من الفلّاحة في تونس يعتبرون صغارا (يملكون أقل من 10 هكتارات أراضي) حسب المعهد الوطني للإحصاء. في المقابل، يوفر صغار الفلّاحة بين 60 و70% من الاستهلاك المحلي للغذاء.
يرجع غضب الفلّاحة الصغار إلى تاريخ سحيق من التصادم مع السلطة المركزية وسياساتها، ففي سنة 1846 قامت انتفاضة علي بن غذاهم التي اندلعت ضد السياسة الجبائية المجحفة التي انتهجها الباي ضد الفلّاحة في الإيالة التونسية. ثم إثر دخول الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية سنة 1881، قامت السلطات الاستعمارية بفرض قانون “السجل العقاري” للأراضي الفلاحية كي يسهل بيعها للمعمّرين وانتزاعها من القبائل التي تستغلها تشاركيا، فقامت ضد هذا القانون انتفاضة تالة سنة 1906 (التيمومي، 1994) وثورة المرازيق سنة 1943 (المرزوقي، 1979) بقيادة صغار فلّاحي هذه المناطق.
من المهم أيضا التذكير (دائما) بأن المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي التي انطلقت سنة 1952 كانت بقيادة فلّاحي الأرياف التونسية التي أخضعت الاستعمار الفرنسي للاعتراف بالاستقلال الداخلي لتونس.
أما بعد الاستقلال (1956)، كانت انتفاضة الخبز 1984 من أولى التعبيرات الشعبية الغاضبة عن عدم الرضا بالسياسات التي انتهجتها الدولة في تبعيتها للمؤسسات المالية العالمية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي…) والتي كانت شروطها حينها رفع الدعم عن الحبوب التي تمثل القاعدة الكبرى للغذاء في تونس.
بالنسبة كذلك لثورة 2010-2011 التي خلعت الرئيس زين العابدين بن علي، فإن العديد من الباحثين في الدراسات الريفية (عايب وبوش، 2019) قد فسّروا أسباب اندلاعها بالسياسات الفلاحية التي تهجّر أبناء الفلّاحة الصغار إلى المدن بحثا عن العمل بعد انتزاع الأراضي من أهلهم وتهميش مناطقهم.
إن كل هذه العوامل وغيرها تفسر منطقيا أسباب غضب صغار الفلّاحة في البلاد التونسية. فمن المعلوم في التاريخ أن الفلّاحة لا يلجؤون بسهولة إلى الاحتجاج نظرا لصعوبة انفصالهم عن وسائل إنتاجهم (الأرض) وخطر الجوع الذي يلاحقهم حين يهملون زرعهم ورعيهم من أجل المطالبة بحقوقهم.
1-مشروع الاستشارة
اقترح التحالف الأفريقي من أجل السيادة الغذائية مشروع الاستشارة التي تحمل عنوان: “نحو نظام فلاحي وغذائي صامد ومستدام وشامل” على الجمعية التونسية للزراعة المستدامة من أجل المشاركة في مشاريع تشمل العديد من الدول الأفريقية الأخرى لإعداد ملفات مناصرة تدافع عن الفلّاحة الصغار في أفريقيا وتعزز السيادة الغذائية والزراعة المستدامة في القارة.
اعتمدت المنهجية العامة لهذه الاستشارة في تونس على دراسة السياسات الفلاحية نظريا والقيام ببحوث ميدانية لدى الفلّاحة الصغار الذين عبّروا عن غضبهم بمطالب مختلفة في بداية سنة 2021.
يلاحظ الدارس للسياسات الفلاحية التونسية أن النظام الفلاحي والغذائي التونسي يعاني من هشاشة كبيرة، فهو معرّض للعديد من المخاطر من بينها التغيرات المناخية واضطرابات الأسواق العالمية. رغم ذلك، فإن السياسة العامة لا تعتمد على إجراءات في صالح الفئات الأكثر هشاشة من صغار منتجي/ات الغذاء كما أنها لا تهتم كثيرا بالمشاكل الصحية العمومية التي تسببها الحمية الغذائية بالنسبة للمستهلكين/ات.
من جهة أخرى، تخضع الفلاحة التونسية إلى موروث استعماري مبني على التفاوت الكبير داخل الوسط الريفي بين فلاحة تقليدية معاشية موجهة للسوق المحلية وفلاحة تكثيفية مستنزفة للموارد موجهة للتصدير. تنحاز هذه السياسة إذن إلى كبار المنتجين الاستنزافيين من خلال تسهيل امتلاكهم للأراضي والوصول إلى الموارد الطبيعية واليد العاملة الرخيصة دون الاكتراث بتوفير الغذاء للمستهلكين/ات المحليين. يمكن بالتالي استنتاج فكرة أن النظام الفلاحي في تونس قد أهمل مهمة توفير الغذاء وانخرط في اعتماد الفلاحة كنشاط اقتصادي ربحي صرف لا يكترث بالمسؤوليات الاجتماعية والثقافية والبيئية المحلية.
ترتكز هذه التوجهات العامة على تبعية تاريخية للمؤسسات المالية العالمية التي تشترط سياسات معينة على الدولة التونسية مقابل قروض موجهة للتنمية حسب منظور هذه المؤسسات التي تحمل خيارات تحفّز الخوصصة والاستثمار منذ أن فرضت “برامج الإصلاح الهيكلي” في ثمانينات القرن الماضي.
هكذا اصطبغ الخطاب الرسمي باعتبار الفلاحة التونسية قطاعا مدرّا للعملة الصعبة عبر تصدير الحبوب والتمور وزيت الزيتون والقوارص دون الحديث أبدا عن أوضاع صغار الفلّاحة الذين يوفّرون بين 60 و70% من الاستهلاك الغذائي المحلي.
2-البحث الميداني
طال أمد أزمة جائحة الكوفيد-19 على التونسيين/ات إثر سنة كارثية من السياسات الفاشلة في التعامل معها وانهيار للمنظومة الصحية وما ترتب عن ذلك من أزمات اقتصادية واجتماعية. فأنبأت سنة 2021 باضطرابات في العديد من المناطق بالبلاد التونسية داخل المدن وفي الأرياف.
صادف أن تندلع هذه الاحتجاجات عند البداية في التحضير للبحث الميداني. فكان الاختيار على مرافقة هذه الاحتجاجات ومعرفة أسبابها ومطالبها والتفكير في “نظام فلاحي وغذائي صامد ومستدام وشامل” انطلاقا من أفواه الفلّاحة الغاضبين/ات.
انطلق البحث الميداني بمقابلات مع مربي أبقار الحليب بقرية “أولاد جاب الله” (ولاية المهدية، 250 كم جنوب العاصمة تونس) ثم مع منتجي الحبوب بباجة (120 كم غرب العاصمة) مرورا بزرّاع التمور في “هنشير العتيلات” (ولاية قبلّي، 530 كم جنوب تونس) ومنتجي الخضر والأشجار المثمرة بمنزل بوزيان والمكناسي (ولاية سيدي بوزيد، 270 كم جنوب العاصمة) ثم بحّارة جرجيس وفلّاحة مدنين (500 كم جنوب تونس) وصولا إلى منتجي الباكورات الخضرية بالبقالطة (ولاية المنستير، 170 كم جنوب العاصمة).
اتفق صغار الفلّاحة على أن أسباب مشاكلهم مرتبطة أساسا بالتبعية من جهتين:
- قبل الإنتاج: الماء، البذور، الأعلاف، الأدوية، السماد…
- بعد الإنتاج: التسويق.
يرتبط صغار الفلّاحة ارتباطا وثيقا لا مخرج منه بشركات البذور والأعلاف والمعدات الفلاحية والمدخلات الكيميائية فقد اعتمدت سياسات الدولة منذ الثمانينات اختيارات تدفع نحو الخوصصة مما خلق شركات احتكارية كبرى تفرض منتجاتها على الفلاّحة بإغراءات أثمانها ومردوديتها تارة وبتهديدات قطع الإمدادات أطوارا أخرى.
أما من جهة التسويق، فإن كبار الوسطاء يتحكمون في الأسعار في أسواق الجملة بطريقة عشوائية بهدف تحقيق الأرباح على حساب عمل صغار منتجي/ات الغذاء، خارج أي اطار قانوني خاصة فيما يتعلق بدعم المواد الغذائية.
إن هذه الوضعية هي التي أرغمت أهالي “أولاد جاب الله” على قطع الطريق التي تمر من قريتهم إثر الترفيع في أسعار الأعلاف التي يطعمونها لأبقارهم وجعلت فلّاحي باجة يحتجون أمام مقر المعتمدية مطالبين بحصتهم في مادة الأمونيتر التي يدفئون بها الأرض التي زرعوها حبوبا.
هكذا انتفض البحّارة في جرجيس ضد غلاء معدات الصيد والتلوث وفلّاحة منزل بوزيان ضد احتكار المستثمرين للأراضي والمكناسي ضد النقص الفادح في الأدوية والأسمدة ومنتجو التمور بهنشير العتيلات من أجل حقهم في الماء الذي استنزفته الفلاحة المكثفة المجاورة لهم وأهالي البقالطة ضد جشع الوسطاء.
عبّر جميع الفلّاحة أيضا عن غضبهم من تساهل مؤسسات الدولة وتواطئها مع ممارسات الشركات الاحتكارية والمستثمرين المستنزفين للموارد والأسواق كما أعربوا عن انعدام ثقتهم في الجهات التي تمثلهم مثل اتحاد الفلّاحين ونقابة الفلّاحين.
إثر هذا البحث الميداني، جرى الإتفاق على لقاء يجمع هؤلاء الفلّاحة الغاضبين كي يتشاركوا تجاربهم ويشبّكوا نضالاتهم.
حالت الحالة الوبائية في تونس دون حضور جميع الفلّاحة لهذا الاجتماع الذي دام يومين في واحة شنني بولاية قابس جنوبي البلاد التونسية ولكن النقاشات قد أثمرت العديد من نقاط الالتقاء والتفاهم.
تم تقسيم اللقاء إلى ورشات في اليوم الأول تعالج مسائل المدخلات الفلاحية وتسويق المنتوج والتمثيلية والتنظّم والعلاقة مع الدولة. أما اليوم الثاني فقد تم خُصص لنقاش يحوصل الأفكار ويبني تصورا لنظام فلاحي وغذائي صامد ومستدام وشامل.
استخلص الفلّاحة الحاضرون أفكارا تتمحور حول فك الارتباط مع المنتوجات المستوردة والمحتَكرة من بذور وأعلاف وأسمدة وأدوية وذلك بالرجوع إلى الموروث البيولوجي والثقافي المحلي من جهة ومع الوسطاء والتجار عبر المسالك القصيرة وتعميق العلاقة بين المنتجين/ات والمستهلكين/ات من جهة أخرى.
أما فيما يخص التمثيلية والتنظّم فقد تم اقتراح التشبيك بين صغار الفلّاحة داخل تنسيقيات أفقية بينهم تقطع مع البيروقراطية وتضارب المصالح وتبنى على قاعدة الأهداف المشتركة والمصير الواحد.
مثلت هذه الاستشارة مدخلا مهما لفهم مشاكل صغار الفلّاحة في البلاد التونسية في سياق تهدده الجوائح والتقلبات المناخية وتسوده السياسات الفلاحية التي تسحق صغار منتجي الغذاء من أجل مصالح رأس المال محليا وعالميا.
لقد أبدى صغار الفلّاحة في تونس تشبّعهم بمفاهيم السيادة الغذائية والزراعة المستدامة وإن لم يعبّروا عن ذلك بمصطلحات أكاديمية منمقة وأساليب تقنية مستوردة.
إن الصراع من أجل السيادة مازال متواصلا مادام للأرض فلّاح يحميها.
يمكنكم\ن الاطلاع على الدراسة وتحميلها من الرابط
المراجع
- الهادي التيمومي، انتفاضة القصرين-تالة 1906، دار محمد علي للنشر 1994.
- مَحمد المرزوقي وعلي المرزوقي، ثورة المرازيق بالجنوب الغربي التونسي. دار بوسلامة للطباعة والنشر والتوزيع 1979.
- Habib Ayeb and Ray Bush, Food Insecurity and Revolution in the Middle East and North Africa: Agrarian Questions in Egypt and Tunisia. Anthem Press 2019.