الأرض والزراعة في غزة: آلام وآمال



يا أيّها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى جبل النار
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرض في جسد
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا...

(محمود درويش: قصيدة الأرض)

لعب القطاع الزراعي في فلسطين دوراً رئيساً في تكوين الناتج المحلي عبر فترات طويلة، بسبب الوضع السياسي الذي تعيشه البلد، بفعل الاحتلال الإسرائيلي. وظل هو القطاع الحيوي الذي يساهم في توفير الغذاء للسكان الأصليين والعامل الأساسي في تدعيم الأمن الغذائي، خاصةً في أوقات الأزمات والاعتداءات التي شهدنا الكثير منها خلال العقود المُنصرمة، إضافةً لكونها مصدراً للدخل واستيعاب جزء كبير من العاملين/ات.

الأرض في غزة: هويتنا ضد الاحتلال

إن الزراعة تعتبر جزءاً أساسيا من مكونات النسيج الوطني والثقافي والاجتماعي الفلسطيني، حيث أنها تكتسب أهمية خاصة للفلسطينيين لأنها تمثل عنواناً للصمود والتصدي والتشبث بالأرض التي كانت وما زالت مُعرضة للسلب والتجريف وطمس الهوية من قبل الكيان الصهيوني الذي يحاول بكل ما أوتي من قوة نزع صلة وارتباط الفلسطيني بأرضه.

هذه الحرفة التي تشكل الشريان الرئوي للحياة لدى الفلسطينيين تواجه العديد من المعوقات، الاقتصادية، والسياسية، والقانونية، والمالية والفنية، التي تحد من نموها وتطورها وتفرض قيوداً على المزارعين/ات بهدف إقصائهم عنها ودفعهم للتخلي عن الأرض. أبرز هذه المعوقات إجراءات الاحتلال التعسفية، وتدمير البنية التحتية للقطاع الزراعي أثناء العدوان المتكرر على قطاع غزة، ومصادرة المياه والأراضي ومنع المزارعين من الوصول لحقولهم بحرية.

قطاع غزة، هذه البقعة الجغرافية التي لا تتجاوز مساحتها 365 كم2 والتي بقدر ما أًرهقت قاطنيها بآلام الحصار والتدمير نتيجة الهجمات الإسرائيلية المتكررة بقدر ما زُرع حبها في قلوبهم وفَرضت عليهم التمسك بكل حفنة تراب منها، في هذه المنطقة باتت عمليات الوقوف على جرائم الاحتلال بحقِّ المزارعين/ات والأراضي الزراعية المقدرة مساحتها ب 88.2 كم2؛ تعدُّ ولا تُحصي، هذه الانتهاكات المنافية للمعاهدات والمواثيق الدولية والتي يُشكل السكوت عنها جريمة بحق الإنسانية.

جميعهم متشبثون بالأرض، جميعهم مُتجذرون

بأنفاس يعتصرها الألم تروي لنا (أسيل النجار) التي تمتلك واثنتين أخريات 5 دونمات بالقرب من المنطقة الحدودية في بلدة خزاعة، هؤلاء الفتيات اللواتي تخرجن من الجامعة ولم يجدن سبيلا لهن في سوق العمل فالتجأن لحرفة الزراعة غير مُدركات لحجم الصعوبات التي سيواجهنها في هذه المهنة. ففي أحيان كثيرة، يمنعهن جنود الاحتلال من الوصول لأرضهن مستخدمين كافة الطرق اللاشرعية، مثل إطلاق الغاز المُسيل للدموع وإطلاق النار بشكل مُباشر خلال عملهن بالحقل محاولةً منهم سلبهن حقهن في الحياة. لم تقتصر معاناتهن على ذلك وحسب، بل أن طموحهن بتوسيع عملية تسويق منتجاتهن الزراعية وصولاً للأسواق الخارجية، أو حتى للشق الأخر من الوطن تحطم أمام الحواجز المحيطة بالقطاع من كل حدب وصوب والعراقيل التي يفرضها جيش الاحتلال بوجه عملية التصدير.

أما بالنسبة للعشرين دونماً التي يمتلكها المُزارع (إسماعيل أبو طعيمة وأشقاؤه) البعيدة ب 150 م عن الشريط الفاصل في محافظة خانيونس، فقد مورست عليها انتهاكات من نوع آخر، حيث دمرتها جرافات الاحتلال أكثر من مرة بما تحتوي من محاصيل وشبكات ري ومستلزمات زراعية، رغم التزامه بما فرضه عليه هذا المستعمر بزراعة أنواع محددة من الخضروات دون اكتراث لحجم ربح أو خسارة هذا المُزارع الناتج عن عدم ملائمة زراعاته لحجم العرض والطلب في السوق. يُضيف الحاج إسماعيل أن جيش الاحتلال بعنجهيته لم يكتف بذلك، بل تعرضت محاصيله على مدار مواسم متعددة للرش بمواد كيماوية أماتت كل ما هو أخضر في الأرض. خلّفت هذه التجاوزات كلها خسائر جسيمة لحقت بالسيد أبو طعيمة.

وهذا مُزارع آخر من الشجاعية يُطلق عليه أبو محمد، تعرضت حيازته الزراعية المقدرة ب 5 دونمات للإغراق والتدمير نتيجة قيام سلطات الاحتلال بفتح سدود تجميع مياه الأمطار عليها، الأمر الذي كَبدهُ الكثير من الديون.

ولأزمة المياه نصيب في إثقال كهول المُزارعين أيضاً. تخبرنا المُزارعة (نسرين اللحام) من منطقة المواصي بخان يونس، حيث تعمل وأسرتها في حرفة الزراعة منذ عشرات السنين وهي مصدر دخلهم الرئيسي، أن ارتفاع ملوحة المياه المهول وندرتها جعلا الزراعة في المنطقة شبه مستحيلة لأنواع نباتية كثيرة. هذه المرأة التي كانت تملك بستانا من أشجار الجوافة قُضي عليه بتأثير الملوحة وقلة الري، بذلك أصبح منفذ رزقها الوحيد مهددا بالزوال.

يُذكر أن مشكلة المياه تفاقمت نتيجة سيطرة الاحتلال على ما نسبته 82% من حوض المياه الساحلية للقطاع، فيما تبقى 18% فقط للغزاويين. ولم يكتف بذلك وحسب، بل تعمّد السيطرة على المخزون المتبقي أيضاً. فقد أصدر، منذ احتلال غزة عام 1967، العديد من القوانين للحد من استهلاك السكان للمياه، مثل منع حفر آبار ارتوازية يزيد عمقها على 140م، ما أسهم في زيادة معدل الأملاح في المياه الجوفية، نظرًا لطبيعة قطاع غزة الساحلية. وقام الاحتلال بحفر ما يزيد عن 50 بئراً ارتوازيا على طول الشريط الحدودي للقطاع للاستيلاء على المياه وتعظيم العجز الموجود في الخزان الجوفي لهذه المدينة.

ليس ذلك وحسب، بل إن أزمة الكهرباء الناجمة عن منع الاحتلال دخول الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء في غزة دفعت المسؤولين المعنيين لتقليل ساعات وصل الطاقة استجابة للظروف المُتغيرة حتى بات القطاع يرى النور لساعات قليلة. هذه المعضلة أثرت على المُزارعين/ات سلباً، حيث أدت لرفع كلفة المياه وبالتالي تقليل أرباحهم، ومن جهة أخرى تقليص عدد عمليات الري بسبب انعدام الكهرباء الضرورية لتشغيل مضخات المياه.

هناك أيضاً مشكلة تلوث المياه والتدمير المُمنهج للأراضي الزراعية الناتج عن استخدام الكيماويات المُفرط والمواد المُحرمة دولياً خلال الغارات التي تشنها طائرات الاحتلال بشكل مستمر على غزة. وليُفاقم هذا الغاصب المشكلة، قام بمنع دخول الأسمدة والمُخصبات التي من شأنها تقليل هذه الأضرار على المياه والتربة وتحسين جودتهما وإنتاجيتهما، كما رفض السماح بدخول المواد اللازمة لصيانة وتشغيل أنظمة المياه التي دُمرت خلال العدوان المتكرر، وأيضاً تلك الخاصة بمحطات المعالجة.

جدتي التي تفوق بالسن عُمر دولة الاحتلال المزعومة لم تسلم هي الأخرى من بطشهم، إذ دمر العدو حظيرة أغنام تعيل بها هذه المُسنة نفسها بالكامل وقتل كل الحيوانات بداخلها خلال الاعتداء الهمجي الإسرائيلي على غزة عام 2014.

وأنا أُعد مقالي هذا وغزة كلها تحت وطأة العدوان الإسرائيلي (مايو 2021)، قُتل المُزارع (أحمد المصري) بقذيفة دبابة خلال عمله بأرضه في وضح النهار، وحُرقت حقول المزارعين/ات، واستُهدفت الأراضي الزراعية بالصواريخ الثقيلة.

إن اعتداءات وانتهاكات الجيش الإسرائيلي بحق المزارعين/ات ومحاولة سلبهم حقوقهم المشروعة لم ولن تتوقف يوماً بهدف تدمير القطاع الزراعي بصفته أحد الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني وأَحدُ مقوّماتِ صموده.

إن حجم الويلات التي يلاقيها المزارعون/ات في قطاع غزة يُدمي القلب، ويدفع الناس للرحيل دون عودة، لكن ما أدهشني حقاً هي الروح القتالية العنيدة لديهم وإصرارهم على الاستمرار بالفلاحة وتعمير الأرض، هذه الصلابة التي كانت العامل المُشترك لكل من قابلتهم من مزارعين/ات خلال تجهيزي هذا المقال أو حتى أثناء عملي بالزراعة على وجه العموم.

فهذه أسيل وزميلاتها استأجرن أرضا جديدة بهدف توسيع زراعتهن، والمزارع إسماعيل زرع أرضه من جديد كما فعل في كل مرة دُمرت فيها رافضاً تركها أرض بور تستعرض فيها دبابات الاحتلال قوتها، والحاج أبو محمد أحيا أرضه مرة أخرى بزراعات جديدة، ونسرين استعانت بمهندس زراعي يرشدها لتستمر بزراعة أرضها، أما عن جدتي فقد اقتنت أغنامًا مجددًا، ربما حظيرتها الجديدة صغيرة مقارنةً بالسابقة، لكنها على الأقل لم تستسلم أو تحيد عن الحرفة التي اعتادتها منذ قرابة الخمسين عاماً. جميعهم متشبثون بالأرض، جميعهم مُتجذرون.

سيادة شعبية على الموارد

في ظل الحصار الظالم على القطاع، وتحكم الاحتلال بدخله الاقتصادي وفق ما يحقق مصلحته، بات من الضروري اتباع استراتيجية الاقتصاد الزراعي المقاوم، والاعتماد على الذات، من خلال بذل أقصى الجهود لتلبية ما يحتاجه المواطن من السوق المحلي، والدولي إذا تطلب الأمر.

إن سكان ومزارعي/ات قطاع غزة ينتظرون نهج استجابة وتدخل، نهج يحركه منظور تنموي استراتيجي يعزز عوامل الصمود والمنعة والاعتماد على الذات والموارد المتاحة وقت الأزمات سواء بفعل الاحتلال أو بفعل عوامل الطبيعة، نهج تنموي مجتمعي تشاركي نقيض لمنطق السوق الذي تحركه الشركات متعددة الجنسية، القائم على الربح، نهج شعبي مبني من أسفل يحترم التجارب الموجودة ويبني عليها ويمكنها. فمن الضروري وجود تدخلات برامجية متكاملة تحترم وتعزز حقوق وكرامة الإنسان الفلسطيني وسيادته على مصادره وموارده وتضغط وتناصر انعتاقه من الاحتلال، هذا النهج الذي يصعب المُضي فيه دون تفعيل برنامج تحرري قائم على مبدأ السيادة على الغذاء.

إن تحقيق مبدأ السيادة على الغذاء الذي من شأنه التخفيف عن كاهل المزارعين، وتعزيز صمودهم وضمان بقائهم، يتطلب منا الوقوف بشكل جاد ومتكاثف لإيجاد المقترحات وتنفيذ الحلول بهدف بناء اقتصاد زراعي يستند على صغار المنتجين/ت، ويكون قادرا على مواجهة كافة العراقيل بما فيها الاحتلال، وفيما يلي ذكر لبعض منها:

  • استصلاح الأراضي الزراعية وتوسيع المساحات الخضراء المتنوعة، بهدف رفع مستوى الوصول للاكتفاء الذاتي، والمساهمة في تقليل أثر التغير المناخي.
  • تطوير وإدارة مصادر تجميع المياه من برك وخطوط ناقلة واستغلال مياه الأمطار، أيضاً استخدام نظم الري الحديثة التي تقلل إهدار المياه، وبالتالي الحفاظ على الموارد الطبيعية.
  • اعتماد تقنيات زراعية جديدة للتكيف مع التغيرات البيئية والمناخية وتقليل أثرها، على سبيل الذكر أنظمة الزراعة الحضرية المختلفة وإدخال أصناف نباتية جديدة غزيرة الإنتاج تستغل المساحات ومُقاومة للمشكلات المختلفة بالتربة.
  • بناء قدرات المزارعين/ات وصقل مهاراتهم بدءاً بالممارسات الزراعية الجيدة التي تساهم في زيادة إنتاجهم مُراعيةً معايير الجودة وتضمن الاستغلال الأمثل للموارد المُتاحة، مروراً بعمليات الترويج والتسويق التي تزيد فعاليتهم في تلبية الحاجات الأساسية لشعبنا الصامد. وأخيراً زيادة وعي المزارعين/ات حول حقوقهم وكيفية الدفاع عنها، بذلك يصبحون قادرين على شق طريقهم بأنفسهم.
  • حماية وحفظ البذور البلدية التي لها أبعاد زراعية، وبيئية، واجتماعية، وثقافية وسياسة بالعمل على إكثارها وتحسينها وحفظها وفق الآليات المناسبة بهدف حمايتها من خطر الضياع، وتحقيق سيادة المزارعين الفلسطينيين على غذائهم. أيضاً تدريب الفلاحين على آليات الوصول إليها كركن أساسي من أركان الزراعة البيئية، بفعل تلاؤمها مع الظروف الجوية في بلادنا، عدا عن أنها طبيعية خالية من الكيماويات.
  • إدخال سلالات جديدة مُنتجة لحيوانات التربية، وإتباع نُظم غذائية للمواشي تقلل استخدام الأعلاف المركزة المُرهقة اقتصاديا للمربين واستبدالها بالأعلاف الخضراء على اختلاف أنواعها آخذين بعين الاعتبار ضمان تحقيق توازن في عملية الإنتاج دون التأثير على كميتها أو جودتها.
  • تعزيز دور النساء في العمل الزراعي كأيادٍ مُنتجة تستحق صون حقوقها، وإشراكهن في وضع السياسات والخطط التنموية المعنية بالقطاع الزراعي كعنصر أساسي في عمليات التطوير والاستدامة والسيادة على الغذاء وتوعية المجتمع بدورهن الفعال كأحد أعمدة الاقتصاد الزراعي.
  • تشكيل جسم ناظم يستوعب كافة المزارعين/ات؛ تجري فيه متابعة أحوالهم وتوثيق كافة الانتهاكات بحقهم؛ ويكون أيضاً لسان حالهم وقوتهم الدفاعية أمام الهيئات العالمية والمحاكم الدولية لانتزاع حقوقهم المشروعة.

ليست كافة الخطوات المذُكورة إلا أساسًا متينًا يُشكل البداية لتحقيق سيادة غذائية تضمن استدامة بيئية وزراعية لما تبقى لدينا من موارد في قطاع غزة، سيادة تضمن نضال وصمود المزارع/ة في أرضه/ها، الأمر الذي يتطلب تكاثف كافة النضالات الشعبية وتراكمها في عموم منطقتنا وفي عموم البلدان التي يسحق فيها الرأسمال العالمي صغار الفلاحين والمزارعين، علاوة على جهود الهيئات المحلية والدولية المناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه المغتصبة. يُعد هذا النضال والتضامن والتآزر أحد أهم سبل تعميم نهج السيادة الغذائية كمبدأ حياة.

دينا شعث – غزة، فلسطين


المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثاني لمجلة “سيادة.

الإطلاع على العدد الثاني كاملا وتحميله من: هنا