الإصلاح الزراعي الشعبي: نضال مستمر ضد الاستيلاء على الأراضي



يشكل إحداث تغيير واسع في النظام الزراعي الغذائي الحالي، الأمر الملح أكثر من أي وقت مضى بوجه الأزمات الحالية المتعلقة بالغذاء والمناخ والفقر والتمويل والاقتصاد والديمقراطية.

  لذا فإن إصلاح زراعي شامل في أيدي السكان على أساس السيادة الغذائية، يشكل الأساس الضروري لتغيير من هذا القبيل. وقد تطورت، في سبيل ذلك، النضالات والاستراتيجيات النضالية والمفاهيم بشكل كبير داخل حركة لا فيا كامبيسينا. هذا التطور من ناحية، هو نتيجة للسياق الحالي، ومن ناحية أخرى نتيجة لعمليات جماعية وبناء ينطلق من القاعدة ومن أراضي غنية بتنوع تاريخي وثقافي وسياسي واقتصادي.

***

من خلال تبادل التجارب المستمر والحوار المعرفي المشترك بين المنظمات والحركات الاجتماعية ومعاهد البحث والمنظمات غير الحكومية الحليفة، جرى اكتساب فهم أعمق للقضايا وتحديد الآليات المشتركة الفاعلة في النموذج الاستخراجي الجاري تطبيقه في مناطق وقارات مختلفة من العالم.

ورغم الاختلاف الكبير للسياقات التاريخية والسياسية، واختلاف الطرق التي يرفع بها رأس المال من حضوره في المناطق القروية، إلا أن المنظمات حول العالم تواجه قضايا متماثلة جدًا. وتشير النقاشات داخل حركة “لا فيا كامبيسينا” إلى ارتفاع سيطرة رأس المال على القرى، كما يتضح من تعدد العمليات التي تهدد الأراضي. ويتخذ التغيير الهائل في استخدام الأراضي والاستيلاء على الأراضي في خدمة النظام الاستخراجي أشكالاً عديدة: الزراعة الصناعية، بما في ذلك إنتاج الوقود الزراعي وعلف الحيوانات؛ الاستغلال المفرط للبحار وخصخصة استخدامها؛ تربية الماشية الصناعية؛ استغلال الغابات؛ التعدين على أوسع نطاق؛ التكنولوجيات الجديدة, مثل التصديع المائي؛ السياحة؛ مشاريع البنية التحتية مثل المطارات؛ أو، في الآونة الأخيرة، الاستيلاء على الأراضي باسم “الحفاظ على الطبيعة” ومشاريع الطاقة البديلة واسعة النطاق مثل حقول الألواح الشمسية والسدود الكهرومائية. إلى جانب القوانين الهادفة إلى تحرير الأسواق وتوطيد نظام الملكية الفكرية على البذور والتنوع البيولوجي، وتَقَدُم المحاصيل المعدلة وراثياً، فضلاً عن الاعتماد على المواد الكيميائية الزراعية، فإن القبضة الخانقة على النظام الزراعي والغذائي تستمر في التفاقم، تحت سيطرة حفنة من الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل في سوق تتركز أكثر فأكثر..

   بالنسبة للعديد من المنظمات، لا يشكل الهجوم على أراضيها بالأمر الجديد. وإن كان له وجه جديد، إلا أنه بالأحرى استمرار للعمليات القديمة، عمليات السلب والنهب. في البلدان التي استعمرت، التوزيع غير المتكافئ للأراضي يمكن إرجاعه إلى عهد الاستعمار. خلال هذه الفترة بنى النظام الاستعماري نظامًا قائم على إنتاج واستغلال المواد الخام (المنتجات الزراعية والتعدينية) الموجهة للتصدير. وبالمقابل، كانت المستعمرات سوقًا للمنتجات الصناعية والمصنعة في أوروبا. احتل مالكو الأراضي تلك الأكثر خصوبة مع إمكانية السقي وقربها من المراكز التجارية أو الموانئ. وفي معظم الحالات، جرى تجريد السكان الأصليين من ممتلكاتهم وخضعوا للعبودية أو انتهى بهم المطاف على قطع صغيرة من الأراضي غير الصالحة للزراعة. بُني هذا النظام من هياكل اجتماعية عنصرية وبطريركية وغير متكافئة، وهي أنماط لا تزال قائمة حتى يومنا. وبهذا المعنى، فإن النضال من أجل الإصلاح الزراعي كان دائمًا نضالًا من أجل الديمقراطية وإنهاء الاستعمار والتحرر الاقتصادي والاجتماعي. خلال التاريخ الأوروبي، كان الإقطاع هو من أدى لتوزيع غير متساوٍ في توزيع الأراضي. وفي بعض الحالات كما هو الحال في الأندلس، لا يزال هذا التراث يؤثر على الهياكل المتعلقة المعمول بها بالنسبة للأراضي. شهد القرن العشرون سلسلة من الإصلاحات الزراعية، مصنفة هنا على أنها إصلاحات تقليدية/ بورجوازية وإصلاحات اشتراكية (أنظر الإطار1). غير أن في العديد من البلدان، أدى هذان النوعان من الإصلاحات إلى مزيد من البحث عن التركيز السريع نحو الأراضي الأقل إنتاجية، أو العجز عن الوصول إلى الأسواق.


الإطار 1: الإصلاح الزراعي التقليدي والإصلاح الزراعي الشعبي

خلال العصر الحديث، كان للثورة الخضراء والتكيف الهيكلي وبرامج التقويم الهيكلي تأثير عميق على النسيج الاجتماعي للقرى واقتصادات الفلاحين/ات. شهدت سنوات الثمانينيات والتسعينيات، إجراءات عبر المؤسسات الدولية (التي مثّل الكثير منها مصالح الدول المهيمنة والشركات متعددة الجنسيات)، إصلاح شامل للدول، بما في ذلك سياساتها الاجتماعية والاقتصادية، وذلك من خلال فرض التجارة الحرة وإلغاء القيود وخصخصة الشركات العمومية. وفي الوقت نفسه، أقرت دورة أوروغواي تحويل اتفاقية GATT إلى منظمة التجارة العالمية (OMC)، مما أتاح لها ليس فقط توسيع نطاق انتشارها العالمي ولكن أيضًا توسيع نطاق المفاوضات الدولية لتشمل مجالات جديدة، مثل الخدمات العامة والملكية الفكرية وأنظمة الاستثمار والملكية الفكرية وأنظمة الاستثمار، وتعزيز حرية التجارة الحرة وقطاعات الزراعة والمنسوجات و”تسوية المنازعات و”تسوية المنازعات” داخل منظمة التجارة العالمية. وعليه، إن نقل سلطة قرار السلطات العامة على المستويين المحلي والوطني إلى المستوى الدولي عملية لا تزال جارية. يرى بعض الناس في ذلك قمعًا لطبيعة السياسة العامة الديمقراطية وتعزيزًا لـ النظم الاقتصادية القائمة على “التقسيم الدولي للعمل”.

إن النتائج المترتبة على ذلك هي زيادة اعتماد دول الجنوب على إنتاج المواد الأولية (بأسعار شديدة التقلب)، والتي بدورها تستورد السلع المصنعة. بالإضافة إلى ذلك، أدى تحرير الأسواق المالية إلى تركيز الثروة والانفصال الشديد للرأس المال المالي عن الاقتصاد الحقيقي. أما في المناطق القروية، فإن التداعيات كارثية. استبعاد المزارعين الفلاحين من الأسواق وتركيز الأراضي في أيدي أقلية وارتفاع حاد في تكاليف الإنتاج وتفكك النسيج الاجتماعي والفقر والجوع والنزوح إلى المدن بحثًا عن العمل. أمام هذا الوضع، تعتقد المنظمات أن هذه التدابير تمثل “استعمارًا ثانيًا”. وفي الوقت نفسه، توقفت برامج إعادة توزيع الأراضي من خلال مصادرة العقارات الخاصة الكبيرة، مع بعض الاستثناءات القليلة. من خلال برامج ” إصلاح الأراضي القائم على السوق “لم يكن البنك الدولي يهدف فقط إلى تطبيق الأيديولوجية القائلة بأن الوصول ينبغي أن يخضع لقواعد السوق، بل أيضًا إلى تهدئة واستيعاب النضالات الاجتماعية المطالبة بالإصلاح الزراعي (انظر الإطار 2). في حين توقفت برامج الإصلاح الزراعي القائمة على السوق بسبب افتقارها إلى عدم فعاليتها، يجدر بنا تحليل الآليات التي كشفت السنوات الأخيرة عن المدى الحقيقي لهذه الأيديولوجية التي تهدف إلى خصخصة ليس فقط الأرض، بل جميع جوانب الحياة (الغذاء والأرض والحياة والبحار والبذور والسلع المشتركة والتعليم والصحة)، وكذلك الحق في تلويث الطبيعة. بالإضافة إلى ذلك، فإن استراتيجيات المؤسسات المالية الدولية المعتمدة لتنفيذ سياساتها تتبع نمطًا مماثلًا.


الإطار 2: البنك الدولي و”الإصلاح الزراعي القائم على السوق”.

على هذه الخلفية تأسست حركة لا فيا كامبيسينا في عام 1993. بالنسبة لمنظمات الفلاحين، كانت هناك حاجة ملحة لتكثيف النضال الجماعي لدعم حركات المقاومة والنضال على المستوى المحلي. يهدف تبادل الخبرات وتعميق التحليلات إلى تعزيز العمليات الجماعية للدفاع واستعادة الأراضي والأقاليم بوجه التهديدات التي يفرضها التزايد المستمر للسلطة الاقتصادية والسياسية. راكمت العديد من من منظمات أمريكا اللاتينية التي ساهمت في إنشاء لافيا كمبيسينا تجربة نضال من أجل الإصلاح الزراعي في بلدانها، حيث المستويات العالية من تمركز الأراضي هو إرث من الاستعمار.

لهذه الأسباب جميعًا، كان النضال من أجل الإصلاح الزراعي أحد أهداف منظمة لافيا كمبيسينا منذ البداية. في العام 1999، أطلقت الحملة من أجل الإصلاح الزراعي تحديدا بهدف دعم النضالات الجارية في هذا المجال على المستوى المحلي ووضع الحاجة إلى الشروع في إصلاحات زراعية قائمة على إعادة التوزيع في صميم الأولويات الدولية.

يمثل التركز الكبير للأراضي الزراعية، التي تملكها حفنة من الفاعلين والموجهة للاستغلال التجاري، هو واقع تاريخي في العديد من البلدان. واقع تاريخي في أجزاء كثيرة من العالم. غير أن عمليات التعزيز العديدة لرأس المال في المناطق القروية خلال السنوات العشرين الماضية أدت إلى تسارع في تركّز الأراضي بسبب طرد المزارع الصغيرة الجديدة. يكشف عدد من الدراسات التي تتناول تركز الأراضي على المستوى الوطني أو المحلي هذه الظاهرة، استناداً إلى تحليل الإحصاءات الزراعية أو دراسات الحالة. وتكشف منظمة غرين GRAIN في تقرير “المتعطشون للأرض” أن ما يقرب من 90% من المزارع في العالم اليوم هي مزارع صغيرة، بمتوسط حجم 2.2 هكتار، لكنها تشغل أقل من ربع مجموع الأراضي الزراعية.   يبين الإطار 3 النسبة المئوية للمزارع الصغيرة بالنسبة إلى العدد الإجمالي للمزارع، وحصة المساحة الزراعية التي تملكها هذه المزارع الصغيرة لكل قارة. وفي الوقت نفسه، تنتج هذه المزارع الصغيرة الغالبية العظمى من الأغذية المستَهلكة. كيف يكون ذلك ممكنًا؟ أولًا، تعمل المزارع الصغيرة بشكل عام في إنتاج الأغذية التي تباع في الأسواق المحلية والوطنية، وتصل إلى الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليها. يجري هذا الإنتاج والبيع بشكل غير رسمي، لا سيما في بلدان الجنوب، وبالتالي لا يُدرج في الإحصاءات الرسمية.

 من ناحية أخرى، فإن شركات الزراعة الصناعية الكبيرة مكرسة لتصدير مواد أساسية مثل قصب السكر وبذور اللفت وفول الصويا وزيت النخيل، والتي عادة ما تكون مخصصة لإنتاج الوقود الزراعي وتربية الماشية على نطاق واسع. وثانيًا، تميل المزارع الصغيرة إلى أن تكون أكثر كفاءة من الزراعة الصناعية لأن إنتاجها يتسم بالتنوع الشديد، ولا يشغل مساحة كبيرة ويتطلب عمالة كثيفة.

توزيع الأراض الزراعية
المصدر: المتعطشين للأراضي Affamés de terres في GRAIN

يؤكد التقرير، بالأرقام التي تدعمه، ما كانت منظمات المزارعين تؤكده دوماً، وهو أن عدد صغار المنتجين يتراجع بشكل كبير. الأكثر من ذلك، فإن المزارع المتبقية تتقلص أكثر فأكثر، بينما تستمر المزارع الكبيرة في النمو. وبعيداً عن التحليل الكمي، من المهم أن نفهم أنه في كثير من الحالات يجري تهجير الفلاحين/ات وإرسالهم/هن إلى مناطق أقل ملاءمة للزراعة، في حين أن المزارع الكبيرة تحتل أراضٍ خصبة للغاية ذات ظروف مناخية مواتية وإمكانية الوصول إلى السقي، وقريبة من طرق النقل والمدن.


*للمراجع، يُرجى العودة للدراسة الأصلية.

المقال أعلاه هو جزء “مُحرر” من الفصل الثاني في دراسة: “نضالات لا فيا كامبيسينا من أجل الإصلاح الزراعي والدفاع عن الحياة والأرض والأقاليم”، وعنوانه الأصلي: (قراءة السياق الحالي: تسارع الاستيلاء على نظام الأغذية الزراعية) يمكنكم\ن الرجوع إلى الدراسة الأصلية من: الــرابــط